لم يعد من الممكن بعد كل ما شاهدناه وما سمعناه منذ بداية الحرب التي شنتها اسرائيل على لبنان في تموز الماضي، وحتى اليوم القبول بالمنطق القائل بان اسباب وجوهر الازمة الخطيرة التي نواجهها تنحصر في مطالبة قوى المعارضة بقيادة حزب الله بتشكيل حكومة وحدة وطنية، تحصل فيها المعارضة على الثلث المعطل في مجلس الوزراء. ولم يعد من الممكن اقناع أي عاقل بأن الدوافع التي تحرك حلفاء سوريا في لبنان تقتصر على تحقيق مثل هذا الهدف المحدود، والذي لم يكن يشكل في الحكومات السابقة اي مشكلة سياسية، خصوصا ان لبنان قد اعتاد في جمهورية الطائف ممارسة نظام المحاصصة بين القيادات السياسية. تحاول هذه المعارضة ان تخفي وراء خطابها السياسي الداخلي الاجندة الاقليمية، التي تستمدها من الاهداف والمصالح التي يرفعها التحالف الايراني ــ السوري في وجه الهجمة الاميركية على المنطقة، وفي وجه السياسة الاسرائيلية التوسعية.
قبل الغوص في تحليل اسباب الازمة على المستويين الاقليمي والداخلي، يمكن من خلال القاء نظرة سريعة ومتفحصة للفرز الحاصل بين القوى على هذين المستويين التوصل الى الاسنتاج بان المواجهة الشاملة لا تقتصر على المسرح اللبناني بل تتعداه الى المسرح الاوسع والذي يبدأ من افغانستان وصولا الى الساحل الشرقي للبحر المتوسط اي الى لبنان وغزة.
بالاختصار الشديد نرى ان المشهد اللبناني الداخلي هو منقسم ما بين حلفاء اميركا، وحلفاء ايران وسوريا، بينما نرى ان المشهد الاقليمي هو ايضا منقسم الى معسكرين، يفصل بينهما خط مواجهة «ايديولوجي» تقف على جانب منه ايران المتحالفة مع سوريا وفي الجانب الآخر كل من المملكة العربية السعودية والاردن ومصر. لكن تبقى الولايات المتحدة اللاعب الاساسي في هذه المواجهة الاقليمية الكبرى، وخصوصا في تقرير سياسة السلام والحرب سواء في خدمة اهدافها للهيمنة على المنطقة وثرواتها النفطية او في خدمة المصالح الاسرائيلية.
لا نظلم الولايات المتحدة اذا قلنا انها باستراتيجيتها التوسعية التي اعتمدتها بعد احداث 11 أيلول قد سعّرت الخلافات بين الاطراف الاقليميين، خصوصا بعدما اعتقد المحافظون الجدد في ادارة الرئيس بعد سقوط بغداد ان بامكانهم رسم خريطة سياسية جديدة للشرق الاوسط، وذلك من خلال العمل على تغيير انظمة الحكم في عدد من الدول ابرزها: سوريا وايران ولبنان.
لكن فشل الجيوش الاميركية في السيطرة على الاستقرار في العراق قد بددت «الحلم الاميركي» في اقامة ديموقراطيات وفق النموذج الغربي في المنطقة وجاءت الحرب في لبنان بعد ذلك لتؤكد مرة جديدة فشل القوى العسكرية التقليدية في السيطرة على حركات المقاومة الشعبية. من هنا فان التأزم الحاصل في العراق وفلسطين ولبنان ما هو الا نتيجة مباشرة للفشل الاميركي ــ الاسرائيلي المزدوج.
تؤشر الزيارات المتلاحقة للمنطقة التي قام بها كل من الرئيس بوش ونائب الرئيس تشيني ووزيرة الخارجية رايس في الفترة الاخيرة الى الهواجس والمخاوف التي تشعر بها واشنطن من اعلان فشل استراتيجيتها في العراق، والتي ستنعكس مباشرة بصورة سلبية للغاية على نفوذها في المنطقة، ومصالحها النفطية في الخليج بالاضافة الى انكشاف الامن الاسرائيلي امام قدرات ايران النووية والصاروخية او امام تهديدات المقاومة المتمثلة بحزب الله وحركة حماس.
لا يمكن الفصل بين ما يجري في لبنان وما يجري في العراق او فلسطين فالكل يشكل مسرح العمليات الاوسع للاستراتيجية الكبرى لكل من الولايات المتحدة وايران، وهذا ما يؤشر اليه بالتأكيد الاهتمام السعودي ــ المصري ــ الاردني لما يجري الان في لبنان، وهذا ما يؤشر اليه ايضا موقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس في التعبير عن دعمه للرئيس السنيورة وحكومته.
تحاول ايران وسوريا منذ انتهاء الحرب الاسرائيلية على لبنان توظيف نتائج الحرب في المواجهة الواسعة مع الولايات المتحدة، وذلك من خلال تحريك التحالف الموالي لهما بقيادة حزب الله من اجل قلب موازين القوى السياسية في لبنان، على ان تكون الخطوة الاولى السيطرة على السلطة التنفيذية، وذلك كنقطة انطلاق للسيطرة الشاملة، وهذا ما افصح عنه السيد حسن نصر الله في خطابه امس لجهة العمل على قلب الاكثرية الى اقلية، تمهيدا لاجراء انتخابات نيابية مبكرة تتهيأ فيها الظروف لحصول قوى المعارضة على اكثرية المقاعد في مجلس النواب.
ويؤكد خطاب السيد حسن نصرالله امس سواء في مضامينه او في لهجته العالية بأن المعارضة (المتحالفة مع ايران وسوريا) هي مصرة على تحقيق اهدافها التي تتعدى المشاركة بثلث الحكومة. لقد ظهر ذلك بوضوح من خلال الاتهامات التي ساقها ضد رئيس الحكومة فؤاد السنيورة والتي وصلت الى اتهامه بالتآمر على المقاومة وعلى أمن البلد. وكان اللافت ان السيد حسن نصرالله قد اختار توقيت خطابه «الناري» مع صدور تقرير لجنة بيكر - هاملتون وكأنه يقرأ في هذا التقرير انقلابا في موازين القوى في المنطقة وبأن المرحلة المقبلة في المواجهة الداخلية ستكون لصالح المعارضة، مما سيمكنها من تشكيل حكومة انتقالية تمسك بزمام الامور في البلد كبديل للحكومة التي تسيطر عليها الاكثرية.
هذا التهديد يعيدنا بالذاكرة الى الازمة التي واجهها لبنان والتي ادت الى وجود حكومتين بفعل التجاذبات الاقليمية والدولية التي بدأت مع الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 وانتهت بالهجوم على بعبدا في عام 1990.
في الواقع هناك رياح جديدة بدأت تهب باتجاه المنطقة مصدرها لندن وبرلين وواشنطن، وقد جاءت توصيات لجنة بيكر - هاملتون بعد التحرك البريطاني والألماني باتجاه دمشق لتؤكد انه في حال نجاح المحادثات الاميركية - السورية يمكن ان تتحقق القراءات التي عبّر عنها السيد نصرالله، والتي ستفضي خلال المستقبل المنظور الى تحوّل الاكثرية الى اقلية.
يفترض ان تقلّب الاكثرية النيابية وحكومتها كل الخيارات الممكنة:
على المستوى الداخلي، من اجل البحث عن ارضية للوفاق تحدد من خلالها مستوى الخسائر السياسية والاقتصادية، وعلى المستوى الدولي والاقليمي من اجل الحفاظ على قدر من الدعم العربي والاميركي يؤمن لها استمرار التماسك والصمود.
تبدو المواجهة طويلة ومعقدة بحيث انه لم يعد في الافق أي امكانية لمبادرة حوارية بين الاكثرية والمعارضة ولا يمكن توقع حدوث اي تطور دراماتيكي نتيجة توصيات لجنة بيكر - هاملتون في المدى القريب او المتوسط، ويفترض هذا الوضع ان تعد الحكومة نفسها للصمود لفترة قد تمتد لبضعة اسابيع او اشهر، وان تطلق تحركا ديبلوماسيا فاعلا لتأمين استمرارية الدعم الدولي والعربي لشرعيتها وبقائها.
"الديار"
التعليقات