29/12/2006 - 11:10

الأوروبيون وفلسطين 2006: لغو كثير وفعل قليل../ محمد الأزعر

الأوروبيون وفلسطين 2006: لغو كثير وفعل قليل../ محمد الأزعر
يمكن التأريخ لبداية الموقف الأوروبي الجماعي من القضية الفلسطينية بما عُرف في حينه ببيان باريس أو «وثيقة شومان»، نسبة إلى وزير خارجية فرنسا موريس شومان، الذي صدر عن اجتماع وزراء خارجية «الجماعة الأوروبية» في باريس يوم 11 أيار (مايو) 1971.

كان ذلك البيان خاصاً بالرؤية الأوروبية العامة لتسوية الصراع الإسرائيلي - العربي إجمالاً، لكنه استطرد إلى البعد الفلسطيني من التسوية على أسس محددة هي: (1) حل قضية اللاجئين في إطار قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194. (2) استفتاء حر للسكان المعنيين حول كيفية حل القضية الفلسطينية. (3) تدويل الأماكن المقدسة في القدس القديمة بموافقة الدول المعنية وضمان حرية الحركة والعبادة للجميع. وقتداك، علل الأوروبيون مبادراتهم وأردفوها بالقول بأن «أزمة الشرق الأوسط هي أخطر ما يمس المصالح الأوروبية بسبب الروابط الجغرافية والاقتصادية والسياسية والأمنية مع هذه المنطقة». وقتذاك أيضاً، كانت آلية «التعاون السياسي الأوروبي»، التي قصد بها الأوروبيون تطوير تجربتهم الاتحادية بمدها وتوسيعها من الاقتصاد إلى السياسة الخارجية والأمن، وليدة تخبو على استحياء، ومع ذلك كان من المتفق عليه في فقه التجربة أن «الشرق الأوسط» المختبر الأول والأهم لهذا التطوير المأمول، وأن الفشل في أداء دور فاعل تجاه قضاياه لا يبشر بخير لمستقبل هدف السياسة الخارجية والأمنية الأوروبية الموحدة. ويشار إلى أن أعضاء الجماعة الأوروبية انقسموا حول التعامل بإبجابية مع هذه القضايا بين مؤيدين (فرنسا وإيطاليا) ومعارضين (ألمانيا الاتحادية وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ) وأن إسرائيل وأميركا لم تستحبا دخول الأوروبيون، فرادى أو موحدين، على خطوط تسوية الصراع الإسرائيلي العربي. وقد رفضت إسرائيل حتى الصيغة العامة التي لجأ إليها بيان باريس تفادياً للانقسامات الأوروبية وإرضاءً لواشنطن وتل أبيب.

حسناً، الآن وقد آذن 2006 بالأفول وبعد مرور أكثر من خمسة وثلاثين عاماً على إرهاصة السياسة الأوروبية الموحدة، ترى هل راكم الأوروبيون مواقف حاسمة تجاه القضية الفلسطينية؟ هل أجمعوا أمرهم على سياسة أوروبية فلسطينية، موحدة، تمنح للفلسطينيين أملاً حقيقياً في الخلاص من أحابيل وضع مأسوي يَدّعون عن حق بأن أوروبا مسؤولة تاريخياً عن وقوعهم فيه؟ ما الذي تغير في المقاربة الأوروبية للمسألة الفلسطينية على صعيدي القول والفعل، الرؤية والتطبيق، خلال هذه الحقبة الممتدة؟

لقد تغير كل شيء داخل الرحاب الأوروبية، ومن حولها في العالم الفسيح، أصبحت الجماعة الأوروبية التي انطلقت بستة أعضاء مؤسسين اتحاداً يضم خمسة وعشرين دولة، يمتد من شواطئ الأطلسي غرباً إلى تخوم روسيا شرقاً. وضمر الاتحاد السوفياتي إلى روسيا الاتحادية، بقوامها قبل الثورة البلشفية. وأفل نجم المعسكر الاشتراكي ومرحلة الحرب الباردة والقطبية الثنائية وتربعت الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي واختطفت إرادة الأمم المتحدة، ومع هذه التغيرات، زال زعم الخطر الشيوعي الأحمر، ولم يعد الأوروبيون الغربيون بحاجة للمظلة النووية الأميركية الحامية حقيقة أو إدعاء، هذا من دون الاستطراد لتحولات الصراع والتسوية بين إسرائيل والعرب، التي جعلت السلام خياراً استراتيجياً عربياً وفلسطينياً بشروط لا تعدو استعادة الأرض المحتلة عام 1967 وتطبيق جانب محدود من الشرعية الدولية الفلسطينية.

حدث هذا كله ونحوه مما يفترض أن يُطلق سراح الأوروبيين من إسار الحذر والتردد والمواقف الفضفاضة، ويدعم مكانتهم الدولية بعامة وسياساتهم الشرق أوسطية والفلسطينية بخاصة، ومع ذلك فإنهم تقريباً مازالوا عاكفين في الخندق الذي كانوا فيه والحال الذي كانوا عليه يوم أن أصدروا بيان باريس، لنا أن نلحظ في هذا الإطار، الصعوبات الداخلية التي تعوق توافقهم على مبادرة فلسطينية بعينها، وآخرها انفراد باريس وروما ومدريد بمقترحات لتحريك مسار التسوية الفلسطيني، الذي عجَّلت عواصم أخرى برفضه أو بالتريث حياله أو بعدم الاكتراث به، ومازال بوسع تل أبيب وواشنطن، إحداهما أو كلاهما، استخدام الفيتو على أي تحرك أوروبي يستهدف أو يشتم منه خرق تقليد جلوس الأوروبيين في المقعد الخلفي لجهود التسوية الإسرائيلية العربية بعامة.

ولا يعيب الحكم على السياسة الأوروبية بالسلبية أنها تشارك في «الرباعية الدولية» كتفاً بكتف إلى جانب روسيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة. ذلك لانصياع الأوروبين لإدارة الأميركيين التي تعلو على خيارات بقية شركاء هذه الآلية، ولا يعيبه أيضاً كثيرة المبادرات الأوروبية وتقدمها إلى الاعتراف للفلسطينيين بدولة، فهذا لغو يردده الأوروبيون ولا يشفعونه بالعمل من زهاء ثلاثين عاماً. وهم لم يمارسوا على إسرائيل ضغوطاً تسمح بها موازين قواتهم الاقتصادية والتجارية معها والتفضيلات متعددة الأنماط التي يمنحونها إياها وبوسعهم حجبها عنها مثلما فعلوا ذات حين مع جنوب أفريقيا العنصرية.

وقد يُحسب للأوروبيين أنهم من أكبر ممولي السلطة الفلسطينية، لكن هذا التمويل لم ولا يكفي لإزالة غبن الاحتلال البغيض، كما ثبت يقيناً في وقائع 2006 أنه مقرون بشروط وإملاءات تُدرجه تحت شبهة «الخبز مقابل الحقوق»، ويثير السخرية أن الأوروبيين عاقبوا الطرف الفلسطيني على ديموقراطيته البازغة الواعدة، فيما عزفوا عن معاقبة إسرائيل على احتلالها وممارساتها الطغيانية وعصيانها للشرعية الدولية لعشرات السنين. ولأن الفلسطينيين يريدون العنب وليس مطاردة الناطور، فإن كثرة تحركات الأوروبيين وخطاباتهم السياسية والإعلامية حول الشأن الفلسطيني، والأهم كثافة عدوهم ورواحهم إلى رام الله ومنها، لا تعني شيئاً غير سياسة محلك سر طالما أنها لا تقرب الفلسطينيين من وعد التحرر والاستقلال السياسي، بل ربما أكدت ما يقوله بعض الخبثاء من أن المقصود بها ملء الفراغ والوقت المستقطع، حين تكون واشنطن مشغولة بقضايا أخرى، وما أن تنقضي هذه الحالة حتى يعود الأوروبيون إلى مقعدهم الخلفي مجدداً. أحداث 2006 تشي بصحة هذا التفسير، إذ تردد إلى رام الله وغزة في هذا العام عدد كبير من علية المسؤولين الأوروبيين قومياً واتحادياً. وخلال الاسابيع الثلاثة الأولى من كانون الأول (ديسمبر) فقط، استقبلت الرئاسة الفلسطينية وزراء خارجية النمسا والمانيا وايطاليا ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير والمنسق الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي خافيير سولانا.

وبالمناسبة فإن زيارات هذا الأخير المتكررة إلى رام الله تسترعى الانتباه حتى لربما ظن البعض أنه صار من أهل البيت الفلسطيني!

المدهش أن هذه المراوحة الثابتة لعقود، تدور في إطار ثابت آخر مهم هو اقتناع الأوروبيين، منذ كانوا جماعة وبعد أن اصبحوا اتحاداً، بأن «الشرق الأوسط» من أكثر مناطق العالم اتصالاً بمصالحهم الحيوية بمختلف مناحيها ومعانيها، ما الذي يحول إذاً بينهم وبين جرأة الإقدام لممارسة دور فاعل يقيهم من احتمال انقطاع هذه المصالح أو الإضرار بها؟! تقديرنا أن الإجابة تكمن في أمرين جوهريين: الأول يتعلق بحال العرب الذي لا يتوعد الأوروبيين ولا يهددهم بشيء، يجبرهم على الإقدام، أما الثاني فيخص حال الأوروبيين انفسهم، الذي عبر عنه خافيير سولانا في تقرير صريح له قبل خمسة أعوام، ونعتقد في صلاحيته إلى يومنا هذا، جاء فيه: «إن استراتيجية الاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية تفتقر للصدقية والمرونة، وستتسع الفجوة بين قلة شجاعة هذه السياسة والآمال المعقودة عليها مع استمرار هذا الوضع، الحكومات الأوروبية والمفوضية الاتحادية لا تأخذ بالتفاصيل عند تحديد سياسة خارجية تجاه أزمة معينة، بحيث تتعذر في النهاية معرفة الهدف الذي ينشده هؤلاء، كما أن الوثائق التي تعد لهذا الغرض غالباً ما تكون غامضة ومبهمة، تصاغ بأسلوب ديبلوماسي بهدف النشر والتوزيع».

بهذا التشخيص وضع سولانا يده على العصب العاري للسياسة الأوروبية عموماً، ولو أنه طلب نصيحتنا بخصوص نقائص هذه السياسة تجاه القضية الفلسطينية لما خالفناه في شيء مما باح به.

"الحياة"

التعليقات