29/12/2006 - 09:08

بعد سقوط منطق القوة../ إبراهيم شعبان

بعد سقوط منطق القوة../ إبراهيم شعبان
راهن الكثيرون على التفوق الأمريكي, وذهبوا بعيدا في تأييد السلطة الأمريكية المحافظة الجمهورية، حتى أسموه بالعصر الأمريكي، والذي لم يؤيد ذلك في البداية، عاد وقرر السير في ركاب المحافظين الجدد كما فعلت فرنسا وألمانيا مؤخرا.

واستهترت القوة الأمريكية بسيادة الدول وقواعد القانون الدولي وقواعد الأخلاق العالمية، وحسبت نفسها حاكمة الأرض وما عليها، وفرضت نفسها على دول العالم تارة بقوة السلاح العسكري وتارة أخرىبالسلاح الإقتصادي.
لكن الأحداث الأخيرة في أفغانستان والعراق، ما لبثت أن انقلبت عليها ولن يمضي وقت طويل حتى نتأكد من أن أمريكا وسياستها حصانان خاسران.

بدأ الزمن الأمريكي بالأفول والتراجع. فها هي السلطة التشريعية المتمثلة في الكونغرس الأمريكي بمجلسيه الشيوخ والنواب تحت سيطرة الديموقراطيين بعد أن كانت تحت سيطرة الجمهوريين.
وها هي خسائر الجيش الأمريكي المعلنة في العراق تقارب ثلاثة آلاف جندي. وها هو تقرير بيكر- هاملتون يخرج بتوصيات هامة سواء على صعيد الحرب في العراق أو في النزاع العربي الإسرائيلي. وهاهي تغييرات هيكلية تقتحم الإدارة الأمريكية.
ها هوجورج بوش، أي الرئيس الأمريكي نفسه الذي شن حربا عدوانية على العراق بمعزل عن الامم المتحدة يقرر أن العراق سيشهد وقائع جديدة متغيرة بعد قوله المستمر والرتيب أنه سينتصر في العراق ولن يخرج قريبا من هناك.

وها هو وزير دفاعه الجديد يعلن بكل صراحة أن من المشكوك فيه أن الجيش الأمريكي سيحرز نصرا في العراق.
دونالد رامسفيلد يخرج من الإدارة الأمريكية جارا وراءه أذيال الهزيمة بعد اعترافه بفشل سياسته في العراق.
وها هو جون بولتون ممثل أمريكا في الأمم المتحدة وعدوها اللدود، يغادرها في نهاية هذا العام، وهو الذي لم يمد يد ألإدارة الأمريكية للأمم المتحدة ولم يؤمن بها في يوم من الأيام. وكان قد سبقهما خروج جمع من المحافظين الجدد إلى خارج الإدارة الأمريكية.

العبر واضحة من التطورات الأمريكية الأخيرة. فالقوة العسكرية لا تحسم نزاعا ولا تقرر وضعا دائما ولا حلا سياسيا. وإرادة الشعوب أقوى من إرادة الدول الغازية، مهما بدت الأخيرة مسلحة بأقوى وأعقد الأسلحة التقليدية وغير التقليدية. وأن الإحتلال قصير المدى ومؤقت الزمن ولو طال استثنائيا كما هو حال الإحتلال الإسرائيلي. وحق تقرير المصير للشعوب أمر يسمو على جميع المحتلين الواهمين المهووسين بجبروت القوة العسكرية. وأن الإنفاق العسكري لا فائدة منه، والمطلوب إنفاق للتنمية، تماما كما حدث في مشروع مارشال عقب الحرب العالمية الثانية في أوروبا. وهيمنة القوة وسطوتها لا بد أن تنظمها وتحكمها قيود الأمن والسلم الدوليين، فالولايات المتحدة لا تعيش بمفردها في هذا العالم، ولا تعيش ضمن مبدأ مونرو الداعي للإعتزال، بل في قرية صغيرة تشابكت علاقاتها وتعقدت أواصرها.

وإنكار العدالة الدولية وحقوق الإنسان وتلوين الديموقراطية بألوان العلم الأمريكي أمر لا فائدة منه ويجلب الكوارث الدولية ويقيم أنظمة التمييز العنصرية. والعالم لا تستطيع أن تحكمه قوة واحدة مهما كانت غنية وذات معرفة فالقوة تتوزعها دول كثيرة.

وفي ظل هذا الصحو العقلاني، يبرز اتجاه أمريكي واقعي عقلاني في تقرير هاملتون بيكر، يربط بين ما يجري في العراق من احتلال أمريكي وغطرسته وجبروته وجنائزه وبين النزاع العربي الإسرائيلي . بل يقدم نقطة هامة حينما يؤكد على حق العودة للاجئين الفلسطينيين.

وهي نقطة جديرة بالإهتمام وبخاصة أن التقرير الأمريكي كان مخصصا للحرب في العراق وطرح السبل والوسائل لكيفية الخروج منها بأقل الخسائر. وهو أمر يجب أن تحاول الدول العربية والساسة الفلسطينيون الإمساك به وبتلابيبه وعدم التفريط به والتأكيد عليه والدعوة إليه بقوة.

التطور بطيء، فهذه سنة الكون، لكن بدايته قد شرعت. فالقوة الأمريكية قد تزلزلت. ولسنا من السذاجة أن الضمير الأمريكي قد أفاق من غفوته، ولكنها المصلحة الأمريكية ترسم خطوات السياسة الأمريكية. وبدون أدنى جدل هي التي أرشدت وهدت لجنة بيكر هاملتون لوضع توصياتها، والتي ستحاول الإدارة الأمريكية تنفيذ جزء منها وبخاصة فيما يتعلق بالإنسحاب التدريجي للقوات الأمريكية من العراق. مع العلم أن خصوم هذا التغيير ما زالوا قابعين في البيت الأبيض وتلة الكابيتول ويقف على رأسهم ديك تشيني.

وفي مواجهة مسبقة مع تقرير هاملتون بيكر، أراد رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت استباق توصياته، حيث نفى وجود علاقة بين النزاع العربي الإسرائيلي وبين الوضع في العراق. وناقض توصيات اللجنة التي دعت إلى مفاوضات أمريكية سورية إيرانية وإلى انسحاب إسرائيلي من الجولان المحتل حيث كرر أولمرت موقفه السلبي بعدم وجود فائدة للتفاوض مع سوريا واستنجد بما قاله بوش في ذات السياق.

ليست هذه دعوة للخمول والكسل والبكاء على الأطلال، وإنتظار التحرك الأمريكي الخاص الذي قد يأتي وقد لا يأتي.
فالإدارة الإسرائيلية قد بدأت التحرك لمنع التحرك الأمريكي على الأقل في الموضوع الفلسطيني والسوري. أضف أن التحرك الأمريكي على فرض وجوده رغم ترهله لن يكون كافيا، إلا إذا قابله على الأرض تحرك فلسطيني عربي إسلامي. فهل نحن جاهزون؟ وهل نحن مستعدون؟ وهل نحن متحركون؟ وهل كثيرة تنتظر جوابا وعملا شاقا.

ويبدو أن السنتين القادمتين في عمر الإدارة الأمريكية ستشهدان على الأقل انسحابا تدريجيا للجيش ألأمريكي من العراق، وبخاصة بعد ارتفاع قتلاه, وتكلفة الحرب العالية للحرب، وبداية التململ الشعبي في الولايات المتحدة. لكن السؤال الذي يحتاج إلى إجابة: هل ستقوم الإدارة الأمريكية بدفع خطة السلام للأمام والتنفيذ ؟ هل ستعود إلى عقد مؤتمر دولي لمعالجة قضايا السلام في المنطقة؟ هل ستنفذ توصيات لجنة هاملتون بيكر ؟ أم أنها سترسل المزيد من جنودها إلى حقل الدم الملتهب في العراق، وبعد أن تصاب بالخسائر الجسيمة كما كان الحال في فيتنام، تقرر الخروج مهزومة مجروحة.

يجب على الإدارة الأمريكية أن تتمسك بمبادئها الديموقراطية التي أقامها الآباء المؤسسون قبل قرنين ونيف من الزمان وأن تبتعد عن الدور الإستعماري الذي رسمه المحافظون الجدد لها .
التمسك بالتاريخ الأمريكي التليد أمر ذو فائدة عظيمة للسياسة الأمريكية. يكفيكم صلفا وغطرسة واستبدادا لشعوب الأرض وحكوماتها ودولها وعودوا لمثلكم وقيمكم ومبادئكم. تعالوا لتطبيق حقوق الإنسان واحترام سيادة الدول الأخرى واحترام إرادة الشعوب وانبذوا العنف بكل أشكاله قبل أن تصبحوا أول الخاسرين.

"القدس"

التعليقات