21/09/2008 - 12:38

على عتبات المصير../ محمد يوسف جبارين*

على عتبات المصير../ محمد يوسف جبارين*
شروق كلمة الوعي على شفاه تشققت، من عذاب الجوع إلى الحركة الواحدة الجامعة، لكل فئات الشعب في إرادة واحدة، وعلى غاية واحدة، هي الأسمى بين الغايات وهي التحرر من الاستعمار، فكل الآمال دامعة، تروي بدموعها ترابها، لتقوى على صلب عودها ومد ذراعها، إلى مسح ذبول، يشيع في ابتسامة الأزهار.

وثمة مقتضيات تستوجب فهم الدعوة إلى الحرية، في مثل هذا الحال، على أنها دعوة فكاك الواقع من قيود وحواجز وسجون، وتحرير علاقة العقل بالواقع وبالأحداث، من المرور عبر ثقافة تخللها عبث شوه هذه العلاقة، وبهتها فأضاف لها إرباكا، ما كفل لها هلهلة مجتمع، وإعتمام رؤيته لمستقبله، بإغراقه بتشاحن وتطاحن فضعف بعد أن كان قد استذرى غناء، من جراء نمو في قدرته. فإلزام الحركة إلى الأمام، دعوة وعي متمرد على واقع يراه أمامه.
فالحاجة قصوى إلى تغيير، أو يبقى الحال كما هو، فاستنقاع يهدد مسألة المصير. فلا بد من ميلاد جديد.. إلى أنثى تلد الوجود، وقد تجددت ملامحه، فأصبح بكامل وعيه يرى مواقع خطاه، ويحث السير، فيصير إلى ما يحلم بان يصير إليه.

فالمشروع الوطني أولا، وليس الحزب أولا. فالدولة مشروع شعب يسعى بقيامها، إلى تنظيم حياته، على ما يحقق له آماله في التطور. فالحزبية منافسة في تحصيل الدولة، ومنافسة في تنمية القدرة على تسريع الدفع لعجلات التطور.
فالهيكلة الدائمة للواقع، بالإضافة الدائمة في قدرته على السير في الزمان، في عملية تطوير، في اتجاه الآمال، هو هذا النطاق العظيم الذي يتوجب أن تنصب فيه الجهود كلها.

وهكذا شروق، فاصلة بين ليل ونهار، بين وعي يلفه الليل ويتخبط في ظلماته، فلا يعرف مواقع خطاه، وبين وعي ثاقب البصيرة في الواقع ينظر فيه عميقا، ويقرأ العلاقات السائدة في العالم مليا، ويدري كيف يتناول الواقع، ويتدرج به، إلى أن يقدر على هيكلته وتضمينه بما يستقر به على دولة، كانت مأمول وجدان شعب فأصبحت موجودة، فهو واحدها وإنسانها الذي تدمع عيونه حبا، كلما نطق اسمها.

فاستيلاد حتمية لشروق دولة، يستوجب رسو الوعي على الواقع بآليات تنشئة للأسباب، التي باجتماعها، تتكون ظروف، تفسح المجال أمام استنبات مشروع تمضي به الإرادة في سياقات مرحلية إلى تكوين الدولة كجغرافيا ومجتمع وتنظيم قانوني لهذا المجتمع.

ما يستدعي، من أول خط السير إلى الدولة، وعلى طول امتداده، رؤية صحيحة لصلة الفعل بسمو الأهداف، ما يعني انتشال الآمال والاستذراء بها إلى ذرى ترتسم عندها الأهداف، وصلاتها بالإرادات ويستضاء بها في إضاءة خط السير من أوله والى حيث الآمال. فالوضوح الفكري تأثيث لإحاطة بكل المتغيرات، وتمييز كل منها وتحديده وربطه بغيره، فلذلك هو ضرورة استواء على الرأي الصحيح، فتحديد الموقف يتأتى على تقدير، مستند إلى واقع، وهذا بالإضافة إلى إمكانيات يقتضيها نفاذ الفعل، لزوم فاعلية في الأداء، حين بذل الطاقة في الفعل، فكذلك صواب البذل، بمأمول ترتب عليه فكذلك تتالي الخطوات، بتواصلية بنائية، حريصة على الرسو، في مستقبل أيامها، في ميناء الأمل، الذي يبرر لها ما هي عليه.

فأما إغراق العقل بمتغيرات ليست سائدة في الواقع، وإنما مستمدة من واقع آخر، ربما متشابه معه في تيارات تهب عليه، أو إغراقه بمتغيرات مستوحاة من حركة حوادث في تاريخ ماض.
وقد سعى دوما الاستعمار إلى تفكيك قدرة الشعوب على مواجهته، فبسط سيطرته على إمكانياتها، وحاول استكشاف مناطق ضعفها، حيث يمكنه أن يشتري اختراقا، أو خلخلة وزعزعة، في البناء الاجتماعي. وذلك حماية لاستمراره في طلاقة قدرته في ما يريده من بسط سيطرته. فتحقيق الأطماع رهن بالسيطرة، فإذا هذه وهنت، ضعفت مقدرته على بلوغ ما يريد، فيتم تفكيك السيطرة، أو يتأتى تفكيك الإرادة التي تسعى إلى تفكيكها، ولذلك نرى الاستعمار لا يتردد، في استعمال القوة في أبلغ تأثير لها، حين يحس تراجعا حقيقيا في مقدرته على السيطرة، ظنا منه، بأنه بذلك يسترد هيبته وهيمنته.

ولم تكن العشائرية وحدها التي لفتت انتباه الاستعمار كمناطق جذب له في استنبات الصراع بينها. فحركة الاستشراق قد وفرت له قراءات عميقة الدلالات، فانتبه إلى الطائفية والمذهبية، والحركة الممتدة في الرغبة، في النهوض من جديد، بالعودة إلى تجديد حضارة كانت.

ولعل مشهد اللقاء بين عبد العزيز ملك السعودية، وبين روزفلت رئيس الولايات المتحدة، بعد مؤتمر يالطا، يدل على الفارق بين عالم يعيش خارج علاقة العقل في الطبيعة، وبين عالم أنهك الطبيعة بعقوله، وأنطقها في تحقيق تقدمه وتطوره، فحاجاته سعت به، وبما بيديه من مقدرة إلى فرض إرادته وبسط سيطرته على غيره. فقد كان الملك العربي على ظهر جمل، وقد جاء ومعه خناجر وسيوف مرصعة باللؤلؤ، يقدمها إلى روزفلت، بينما هذا على ظهر سفينة، هي قاعدة حربية تمخر البحار والمحيطات، ومن فوقها طائرات تركب الهواء. وبين ظهر الجمل وبين الطائرة كانت ترتسم ملامح مستقبل لمنطقة عربية بحالها. ولعله فيما قاله الملك العربي.. كنا أبا عن جد نستعمل هذا الزيت (البترول) لجرب الجمال فجاءنا الانجليز.. وفيما قاله روزفلت.. الانجليز أعطوك سيارة وأنا سوف أعطيك طائرة، مثل تلك، أنظر إليها... كانت تتراجع إمبراطورية، لتحل محلها إمبراطورية أخرى، وتتشكل سيطرة وتبعية، وأنظمة حماية لأنظمة حكم هي فرصة الاستعمار في بلوغ ما جاء إليه، وما يترتب على ذلك من أنظمة دفاعية، لاستبقاء هذه العروش، وتوفير المناخ المريح للمصاصات الاستعمارية، كي تشفط ما تشاء وكيفما تريد. ولمواجهة التيارات القومية والتقدمية والنهضوية التي ترتفع أصواتها في المنطقة ضد الاستعمار وعملائه.

وقد أفصحت خبرات المستعمرين في السيطرة، عن أساليب، مدرارة النفع، تلائم أهدافا يراد تحقيقها في المنطقة. وراح المال يتدفق إلى مناطق الفقر والحاجة، يؤدي دورا يريد شيئا واحدا هو تطويق وتحطيم كل الذين يناهضون الاستعمار والعروش التي يستعملها كأدوات في تحقيق أغراضه.

وامتلأت آذان الناس، بكل ما بدا بأنه مبادئ وثقافة موظفة وأقيمت جامعات وكليات، ودور نشر وصحافة، وتم استقطاب الحاقدين والزعلانين، والذين تسبقهم كروشهم إلى ما يريدون، وبدأ خط إنتاج، وخط تصدير للعملاء.. مثل تربية الدجاج والبط... وراح الحبر يسيل من الأقلام المأجورة، وملأت الكتب الأسواق، وبدت الذاكرة الجماعية كمن يواجه أخطر تشويه عرفته في التاريخ.

وانساق كل ذلك في سياقات تنشئة الجماعات في كل مكان، فالمال يتقدم، والتوجيه يملي، والإشارات توحي.
ويكاد يكون فن التفريخ الاستعماري للعملاء رهيبا في خدمته لأغراضه، فهو يعرف ما يريد، ولكن الذين يتحركون بالإيحاء غير المباشر، من جانب الاستعمار، هم هؤلاء الذين ليس فيهم الوعي العميق الذي يدركون به، بأنهم يقدمون خدمات للاستعمار، لم يكن في مقدوره هو أن يحققها. وتبرز هنا جماعة، وأخرى هناك، من نوع من ترى في ذاتها نهاية التاريخ، تماما مثل ما رأى فوكاياما في الغرب نهاية التاريخ. بفارق أن الغرب لديه نتاج علاقة العقل بالطبيعة، وبها بدل وجه الحياة، وليس أمام العالم من طريق سوى أن يأخذ. وأما جماعة كهذه فليس لديها ما تعطيه سوى ادعاء الحرص على جملة من ماض، تريد إرغام الحاضر على التشكل بها، ظنا منها بأنها بذلك تجدد تاريخ أمة وتعيدها إلى قيادة التاريخ.

فكل ما عداها خارج نطاق الانتماء إليها، ممن ليس منها، فهي ليست معه. والآخرون لا بد من استدراجهم فاحتلالهم ليصبحوا نسخا من كتاب هذا النطاق. فهكذا انغلاق وتعصب أعمى الرؤية الثاقبة للآخرين. ومن تبرير التعصب وإلغاء الآخر، كراهية الآخرين، وقد تصل إلى إباحة دمهم، وخاصة عندما تضيق الجماعة ذرعا بهم، كأن يكونوا عقبة شديدة المراس في طريقها. وهي إذ تفعل ذلك، فإنما تسفك دم باطل وتنتصر للحق. ما يدل على تفريغ التعصب الأعمى للنفسية، من الحس بقيمة دم الآخرين. وثمة قراءة في خطاب جماعة كهذه تجده مليئا بصراخ عنيف، واتهامات تخرج من أفواه تتوتر، ووجوه تعبس، وأجسام تنتفض، ما يفيد الناظر والمستمع، بأن نفسية كهذه مليئة بالنزعة إلى العنف والكراهية.

فبكذا تهييج وترويج كلامي عنيف، يراد إنتاج ضلال يجعل الأحباب والأصدقاء أعداء. كأنما يراد بتطرف يتجاوز حدود القدرة، وحدود الفعل، إنتاج انغلاق فانقسام حاد في المجتمع، فانسداد كل باب تفاهم على الحدود بين الأقسام ما يستبعد في مستقبل الأيام، وحدة صف، حول مواقف في مسائل المصير، وهو المطلوب، فلا يريد الذين لا يريدون لشعب أن يقرر مصيره بنفسه، أكثر من أن تتشقق وحدة هذا الشعب، فلا يكون في مقدوره، أن يطالب بتقرير مصيره. وإذا طالب بعضه بذلك، فبعضه لا يتفق مع بعضه في المطالبة. فحق تقرير المصير يحتاج وحدة، ولا يجدها. فمشهد شعب كهذا يبعث السرور لدى الأعداء. وأمام العالم يبعث على الدهشة والرثاء.

وحتى الحوار كشاف عن الإرجاف الذي تحدثه العقلانية، وقد يفاجأ، من وجدوا فيها فنا يتفنون به، فعساه يكون لهم جسرا إلى السلطة، فاللافعل استحال سلطة. فهذه أزمة سياسة، أو تكون سياسات تناطحت فأنتجت أزمة، فغالبا ما تغيب متغيرات أو يتم تغييبها، فيجد من يتوهم نفسه السياسي بأنه في أزمة، وفي مقابل هذا هناك السياسي الذي يرى كل المتغيرات، ويعتمد على غفلة الأول، وبحركة فاهمة ما تريد.. يصوغ له أزمة، وفي السياسة، صناعة الأزمة مفتاح استخراج موقف، باستعمال إمكانيات قوة متاحة.

فحال اللافعل، كحال مقيم في زنزانة، كلما هرب من واقعه، عبر عقله، إلى داخل، إلى فكر وخيال، يسبح فيه، جاءت طرقات السجان على الباب، أو صاحت المعدة، بما بها من خواء، لتعيده إلى واقعه. فكيف تلاقى السجان، مع جسده عليه، هو هذا الذي يذبح في وعيه، ولا يقبله.

فإذا العبث الاستعماري بمصائر الشعوب مبرر، من وجهة نظر الأطماع الاستعمارية، فهو بالتأكيد لا يجد ما يبرره من وجهة نظر الشعوب. فالسيطرة في مواجهة التحرر، والمحاصرة للإضعاف والخلخلة والتفكيك، في مواجهة التساند لا التعاند.

فإذا ثمة صلابة بدأت تتشكل في مواجهة الاستعمار، فهو من داخل أنظمة تابعة له، يسعى إلى اختراق، حتى يصل إلى التحكم عن بعد، فهذا استعمار يجيد تحريك الصواريخ والأقمار الصناعية عن بعد، بينما عرب لم يتجاوزوا تحريك شيء إلا بالإمساك به، بالمقود، بالرسن. وهذا ما أبقى الغفلة تأخذهم أحيانا، في قراءة حركة حوادث، تجري أمامهم، يرون ولا يفهمون، وإذا أفهمتهم، يصخبون ويرجفون ولا يفهمون.

وإذا افترضنا، أن ما تريده أمريكا، هو ما تريده إسرائيل، وسألنا ماذا تريد، لأجابت بتاريخها، بأفعالها، بمفكريها، بجهاز الأمن فيها، وبأفصح لسان، بأنها لا تريد أن ترى وجودا اسمه شعب فلسطين. ولا تريد دولة فلسطينية في الضفة والقطاع. وإذا فاهت بكلمة كهذه فهي تعني حكما ذاتيا، لا يملك من قريب أو بعيد حتى أمنه الذاتي، فالأمن كله تريده بين يديها، وعلى حكم ذاتي كهذا تكون مكرهة، فان حصل، فهذا حصاد تاريخ يجب تأمله باستمرار، ووضعه تحت المراقبة الدائمة، والبحث الدائم عن عناصر القوة الأمنية التي تجعله خاضعا، وقابلا للتفكيك. ولذلك لا بد من السيطرة على أسباب نموه، والتحكم بها. فحدود أمن إسرائيل ممتدة إلى المصادر التي يمكنها أن تصب، في نمو وأمن حكم ذاتي، أو دولة للفلسطينيين.

فأين إرادة العرب، وأين إرادة الفلسطينيين، فهذه التي يراد السيطرة عليها، فهذا أمن إسرائيل. فلتكن الوحدة الشاملة، لكل الفصائل الفلسطينية، في حركة شاملة في اتجاه هدف واحد، هو إقامة دولة فلسطين. فهذه تضفي عليها الهيبة، ونوعا من القداسة لدى أبناء فلسطين. فالمشاعر تتيقظ والإرادات تتأهب لواجب يوشك أن ينادي عليها. ما يبعث يقظة في الشعور واستنفار في الإرادات، لدى شعوب المنطقة، ويتنبه العالم. فهذا ما توجبه مرحلة التحرر الوطني.

فكذلك يكون تصور قيام جبهة تحرير، فالتهيؤ لاستقبالها، بما يستبعدها، أو يفرغها من قدرتها بإحالتها شكلا فضفاضا عاجزا عن بلوغ أغراضه، بمحاصرتها على كل صعيد، وذلك بحركة واسعة التنفاذ في المنطقة، وفي الساحة الفلسطينية، مستفيدة مما أبدعته أمريكا وبريطانيا سابقا، بسياسات الاحتواء والتفريخ والتنشئة لجماعات وقامات، من ذوات الكعب العالي، واللسان الطويل، في الحرص على الحق المطلق، بينما في الخفاء انكباب على فتات موائد اللئام. فثمة قدرة مكونة من عناصر عربية، بها جاهزية لقائمة أوامر تأتيها فتؤديها كخدمات للحركة الصهيونية، حتى ولو كان مؤداها كارثيا على الحركة الوطنية الفلسطينية.

فإسرائيل عازمة على تشكيل عدم الاستطاعة، لشعب فلسطين، فلا يصير إلى ما هو يريد أن يصير إليه. فهي تقترب من إرادته، ومن الإرادة العربية، وتسعى إلى تفكيكها، وتود لو تتحكم بها فتقرير مصير هذا الشعب تريده بين يديها.

التعليقات