15/09/2009 - 08:59

فصول من كتاب الوَهَن../ فهمي هويدي

فصول من كتاب الوَهَن../ فهمي هويدي
حينما يُستقبل نتنياهو في القاهرة، رغم كل ما يمثله في الذاكرة وما تمارسه حكومته على الأرض، فإن ذلك يستدعي سؤالاً كبيراً هو: هل نحن جادون حقاً في التعامل مع الملف الفلسطيني أم أننا هازلون؟

(1)

في الأسبوع الماضي أجّل وزير خارجية تركيا زيارة عمل إلى “إسرائيل”، احتجاجاً منه على رفضها الاستجابة لطلبه زيارة قطاع غزة عبر معبر “إيريز"، في الوقت ذاته ألغى وزير خارجية السويد زيارة كانت مرتبة إلى “إسرائيل”، احتجاجاً على الحملة التي شنتها على بلاده، عقب نشر تقرير صحافي في إحدى الصحف السويدية، فضح ضلوع عناصر من الجيش “الإسرائيلي” في تجارة الأعضاء البشرية التي ينتزعونها من أجساد الفلسطينيين.

أن يطالع المرء مثل هذه الأخبار، ثم بعدها بأيام يفاجأ بزيارة يقوم بها رئيس الوزراء “الإسرائيلي” إلى القاهرة (في 13/9) فإنه لا يستطيع أن يكتم شعوره بالدهشة. ليس فقط حين يقارن “التسامح” المصري مع موقف الوزيرين التركي والسويدي إزاء فجاجة السلوك “الإسرائيلي”، ولكن أيضاً حين يعجز عن أن يجد نقطة لقاء مشترك بين مصر و”إسرائيل” في الوقت الراهن. ذلك أن الباحث المحايد إذا ما استعرض السياسات والممارسات “الإسرائيلية” إزاء فلسطين بل إزاء مصر أيضاً، فإنه يخلص إلى أنها تتضمن من عناصر الاستفزاز والتحدي ما يفترض أن يغلق أبواب مصر في وجوه القادة “الإسرائيليين”، ويصبح الاعتذار عن عدم استقبال أي منهم هو أضعف الإيمان، أما حين يحدث العكس، بحيث تواصل “إسرائيل” عربدتها واستفزازها وإهاناتها، ثم يُستقبل رئيس وزرائها في مصر، فذلك مما يتعذر فهمه وتفسيره.

إن نتنياهو الذي استقبلناه هو من يرفض السلام مع الفلسطينيين، ويتحدث فقط عن سلام اقتصادي، وكأن فلسطين حظيرة ماشية وليست وطناً. وحين “يتسامح”، فإنه لا يمانع في إقامة دولة فلسطينية شريطة أن تكون منزوعة السلاح ومعترفة بيهودية الدولة “الإسرائيلية”، الأمر الذي يترتب عليه طرد عرب 48 الذين لايزالون يقيمون وراء ما سمي “الخط الأخضر”، وحكومته الحالية مندفعة في التوسع الاستيطاني بالضفة الغربية، وماضية في بيع أراضي الفلسطينيين الغائبين إلى من يريد الشراء من يهود العالم، متحدين بذلك كل القوانين والأحكام والأعراف التي تمنع التصرف في ملكية الأراضي المحتلة. هي أيضاً مستمرة في تهويد القدس وطرد سكانها الفلسطينيين من بيوتهم وتسليم تلك البيوت للمستوطنين، وإلى جانب تمسكها بحصار غزة وتجويع أهلها ومنع إعمارها، فإن طائراتها لم تتوقف عن قصف حدود مصر مع القطاع بدعوى تدمير الأنفاق، في انتهاك صريح لمعاهدة السلام بين البلدين، التي نصّت على أن الحدود مصونة لا تمس...إلخ.

كل بند في هذه القائمة كفيل بأن يُغضب القاهرة، ويدفعها إلى الاحتجاج ورفض استقبال القادة والمبعوثين “الإسرائيليين”، ما لم يغيروا من سياساتهم ويتوقفوا عن ممارساتهم العدوانية، فما بالك بالبنود إذا تعددت واجتمعت؟ صحيح أن القاهرة عبّرت عن استيائها من بعض الممارسات التوسعات الاستيطانية بوجه أخص لكنها بدلاً من أن تترجم ذلك الاستياء إلى أي إجراء حازم من قبيل رفض استقبال الرسميين “الإسرائيليين” أو الضغط بورقة العلاقات، دعت الولايات المتحدة إلى التصرف بحزم تجاه “الإسرائيليين”.

(2)

في العشرين من شهر أغسطس/ آب الماضي، نشرت “لوس أنجلوس تايمز” مقالاً بعنوان “قاطعوا إسرائيل”، كتبه أستاذ جامعي “إسرائيلي” هو نئيف غوردون، وبنى دعوته للمقاطعة على أساس أن “إسرائيل” دولة تطبق نظاماً عنصرياً فظاً، يضاهي إن لم يزد على النظام العنصري الذي عرفته جنوب إفريقيا. وخلص إلى أنه لم يعد هناك سبيل لهزيمة ذلك النظام إلا بمقاطعة عالمية واسعة تفضح عنصرية “إسرائيل” وتضغط عليها، تماماً كما حدث مع النظام البائد في جنوب إفريقيا.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تطلق فيها هذه الدعوة في الغرب، فقد شهدت إنجلترا عام 2002 حملة قادها بعض الأكاديميين لوقف العلاقات الثقافية والأكاديمية مع “إسرائيل”. وفي عام 2005 قررت جمعية العلميين الإنجليز مقاطعة جامعتين “إسرائيليتين” لتأييدهما للاحتلال، وهو الموقف ذاته الذي تبناه اتحاد الجامعات البريطانية في عام 2007. وفي الولايات المتحدة قررت الكنيسة المشيخية (الأكبر والأهم في أمريكا) سحب استثماراتها الضخمة في “إسرائيل”، (عام 2006) بعدما ارتفعت الأصوات في داخلها معتبرة تلك الاستثمارات دعماً للاحتلال والاستيطان.

في الأسبوع الماضي واجهت مصر موقفاً كاشفاً في هذا السياق. إذ قرر مهرجان تورنتو السينمائي إهداء دورته الحالية لمدينة تل أبيب في الذكرى المئوية لإنشائها، بدعوى أنها مدينة تجسد التنوع الثقافي. ورغم كذب الادعاءين فإن ما يهمنا في الأمر أن بعض الفنانين الغربيين الشرفاء قرروا مقاطعة المهرجان، وأعلنوا أنه يحتفل بمدينة بنيت على العنف ويتجاهل دورها الوحشي في تشريد آلاف الفلسطينيين من بلدهم. فسحب المخرج الكندي جون نجريسون فيلماً كان مقرراً عرضه في المهرجان، وتضامن معه في ذلك مخرج آخر هو كين لوتش. ومن الذين قاطعوا المهرجان أيضا جين فوندا ودافي جلوفر والمؤلفة ناعومي كلاين. وهؤلاء احتجوا في موقفهم الذي أعلنوه بأن إدارة المهرجان متهمة بالانحياز إلى “إسرائيل”، كما أصدر 50 مخرجاً وكاتباً كندياً بياناً اعتبروا فيه إدارة المهرجان متواطئة مع آلة الدعاية “الإسرائيلية”.

هذه الملابسات وضعت المخرجين المصريين الذين رغبوا في عرض أفلامهم بالمهرجان في موقف حرج، لكنهم لجأوا إلى حل وسط، فقرر بعضهم الالتفاف على المشاركة من خلال التوقيع على بيان المخرجين والكتّاب الكنديين، وفي الوقت نفسه، أرسلوا أفلامهم لكي تعرض في مهرجان تورنتو، وكانت حجتهم التي أعلنوها في الصحف أنهم رفضوا ترك الساحة لـ“إسرائيل” لكي تستعرض فنونها، لقد ذهبنا إلى تورنتو في حين قاطع مهرجانها عدد من كبار الفنانين الغربيين، الأمر الذي وضعنا أمام مفارقة فضحتنا، وجددت السؤال: هل نحن جادون أم هازلون في التعبير عن الاحتجاج والغضب؟

وهذه المفارقة تتضاعف حين تلاحظ أن أصوات مقاطعة “إسرائيل” تتردد في الغرب، في حين أن البعض يحتال عليها في العالم العربي لحسابات صغيرة للغاية، مثل دعوة موسيقار “إسرائيلي” إلى مصر وترجمة بعض الكتابات العبرية إلى العربية، لاسترضاء “إسرائيل” وحثها على التصويت لوزير الثقافة فاروق حسني في سعيه للفوز برئاسة منظمة اليونيسكو. وأسوأ من ذلك وأغرب أن تساق بعض الدول العربية إلى التطبيع التدريجي مع “إسرائيل”، استجابة لخدعة تتذرع بمكافأتها على التجميد المؤقت للاستيطان.

(3)

تطول القائمة إذا ما تتبعنا صفحات سجل الوهن والاستخذاء، لذا سأقف أمام صفحتين اثنتين فقط. في عام 2004 أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي حكماً تاريخياً قضى ببطلان إقامة جدار الفصل العنصري الذي شرعت “إسرائيل” ببنائه، واعتبر هذا القرار أهم وثيقة قانونية في الشأن الفلسطيني منذ صدور وعد بلفور، إذ أكد أن الحقوق الوطنية التي يطالب بها الفلسطينيون غير قابلة للتصرف، وأكد قرارات الأمم المتحدة السابقة، واعتبر الاحتلال غير مشروع، وبني على ذلك قراراً بوجوب إزالة الجدار وتعويض المتضررين منه. وقد صدّقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على القرار، بحيث أصبح ورقة ضغط بالغة الأهمية، تستطيع الدول العربية استخدامها لفضح ووقف المخططات “الإسرائيلية” الوحشية وإحراج تل أبيب أمام الرأي العالمي، لكن الدول العربية لم تكترث بالقرار، وتعاملت معه بدرجة مذهلة من اللامبالاة.

الورقة الثانية تتمثل في التقرير الذي قدمته اللجنة الدولية لتقصي حقائق العدوان “الإسرائيلي” على غزة الذي وقع في بداية العام الحالي (2009). وكانت الجامعة العربية قد كلفت اللجنة بهذه المهمة في شهر فبراير/ شباط الماضي، بعدما شكلتها من ست شخصيات عالمية، أغلبها من كبار رجال القانون. وترأس اللجنة البروفيسور جون دوجارد من جنوب إفريقيا، وضمت أعضاء من هولندا والنرويج وتشيلي والبرتغال واستراليا. زارت اللجنة غزة، ورفضت الحكومة “الإسرائيلية” استقبالها، لكنها تمكنت من تقصي جميع حقائق ما جرى، ثم أعدت تقريراً من 250 صفحة قدمته إلى الجامعة العربية في 30 إبريل/ نيسان الماضي. وتضمن التقرير وصفاً للوقائع وتحليلها، وتقييماً قانونياً لها، وخلص إلى مجموعة من التوصيات والإجراءات الواجب اتخاذها في مواجهة “إسرائيل”.

أثبت التقرير ارتكاب “إسرائيل” قائمة طويلة من جرائم الحرب، إضافة إلى اتهامها بالإبادة الجماعية للفلسطينيين، وقدم 13 توصية للجامعة العربية، دعت إلى عرض الأمر على محكمة العدل الدولية، ومطالبة مجلس الأمن بإحالة ملف الوقائع إلى المحكمة الجنائية الدولية. دعت التوصيات الجامعة العربية أيضاً إلى حث دولها الأعضاء على اتخاذ إجراءات الملاحقة القانونية ضد المسؤولين “الإسرائيليين” الضالعين في جرائم الحرب التي ارتكبت والابادة الجماعية التي تمت.

إلى جانب ذلك، دعا مجلس أبحاث العلوم الإنسانية في جنوب إفريقيا إلى مؤتمر عقد في شهر مايو/ أيار الماضي بمدينة كيب تاون، شهده عدد كبير من أبرز الخبراء لدراسة الممارسات “الإسرائيلية” في الأراضي المحتلة وموقف القانون الدولي منها. وأصدر المجلس تقريراً إضافياً في 300 صفحة من القطع الكبير، فضح فيه تلك الممارسات وأدانها.

هذا العمل الجاد لم يحرك شيئاً لا في الجامعة العربية ولا في أي عاصمة عربية أخرى، رغم أن الخلاصات التي انتهى إليها إذا أخذت على محمل الجد، كان يمكن أن تهدم السمعة الأخلاقية، فضلاً عن السياسية للكيان الصهيوني، كما كان يمكن أن تستدعي مجرمي الحرب الدوليين إلى القضاء الجنائي في أي دولة أوروبية، بل أمام المحاكم الفلسطينية أيضاً.

(4)

أحسب أن ما تقدم يجيب عن السؤال: هل نحن جادون أم هازلون؟ حيث تشير مختلف القرائن إلى أنه ليس هناك ما يدل على الجدية أو يؤيدها في السلوك العربي. وكل ما نشاهده من اجتماعات وبيانات لا يزيد على كونه جرياً يمثل مراوحة في المكان ذاته، لم تسفر عن تقدم يذكر لأي خطوة للأمام. إن شئت فقل إنه استسلام لمنطق إدارة الخد الأيسر إزاء كل صفعة تضرب الخد الأيمن. وفي أحسن فروضه فإنه يعد استغراقاً في “التكتيك” وتغييباً للاستراتيجية.

هذه الخلاصة تستدعي سؤالاً آخر هو: هل هذا الحاصل في العالم العربي تعبير عن عجز وعدم قدرة، أم أنه تعبير عن عدم الرغبة؟ لا أستطيع أن أسلم بالعجز العربي، وأقبل وصفه بالضعف فقط، لأن العالم العربي يملك أوراقاً كثيرة كتلك التي مررنا بها، كما تتوافر له أسباب القوة التي لا تحتاج إلا إلى إرادة لاستثمارها واستنهاضها، لذلك أزعم أننا إذا أردنا أن نتصارح وان نتجنب الكذب في الشهر الفضيل، فلا مفر من الاعتراف بأن مشكلتنا الحقيقية تكمن في غياب الإرادة، الأمر الذي يعني أننا بصدد حالة من عدم الرغبة وليس عدم القدرة.
"الخليج"

التعليقات