16/11/2009 - 09:19

تجربة التوحيد القومي: محاولتان وإخفاق../ عبد الإله بلقزيز

تجربة التوحيد القومي: محاولتان وإخفاق../ عبد الإله بلقزيز
قبل أن تتبلور الفكرة القومية العربية إرهاصاً، في خواتيم القرن التاسع عشر، وجهرة في مطالع القرن العشرين وفي عقده الثاني على نحو من الوضوح أعلى، كانت فكرة التوحيد في المجال الجغرافي السياسي قد خامرت كثيرين من القادة السياسيين ما عرف عنهم أنهم في جملة المسكونين بالفكرة القومية العربية التي لم تكن وقتئذ قد نشأت، بل إنهم ما كانوا عرباً بحساب الانتماء “العرقي” وإن كانوا على رأس كيان سياسي عربي.

ذلك ما يصدق على محاولة إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا، توحيد مصر وسوريا في نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر . وهو توحيد وضع مشروعه، في ذلك الإبان، في مواجهة القوى الاستعمارية الكبرى في ذلك الحين (بريطانيا وفرنسا) وفي مواجهة الامبراطورية العثمانية التي كانت سوريا لحظتئذ في جملة “أملاكها” الامبراطورية.

انتهى مشروعه للتوحيد بهزيمة في غاية الحدة بعد أن تدخلت الدولتان الاستعماريتان متحالفتين مع عدوهما العثماني التركي لوقف تقدم جيش إبراهيم باشا نحو اسطنبول مخافة أن يحدث انتصاره تحولاً جيو استراتيجياً يطيح كل الأحلام الامبراطورية الاستعمارية المتطلعة إلى وراثة “أملاك” من أطلقت عليه اسم “الرجل المريض”: تركيا العثمانية.

وكانت تلك، في تاريخ المنطقة، أول محاولة للتوحيد وإن هي اتخذت شكل فصل للأقاليم العربية عن سيطرة الأتراك العثمانيين من وجه، وشكل توحيد موضعي لا يتجاوز في النطاق العربي الأوسع حدود مصر وبلاد الشام من وجه ثان.

ليس معلوماً لدينا اليوم، على وجه من وجوه اليقين، أن مشروع محمد علي وابنه إبراهيم خارج مصر، وفي الولايات العربية المشرقية للدولة العثمانية (أي مشروع التوحيد) على وجه التحديد، ينتهل فكرته التوحيدية تلك من تجارب التوحيد القومي التي انطلقت وازدهرت في أوروبا في ذلك الحين على مثال أفكار وتجارب أخرى اقتبسها من أوروبا وطبقها، لكننا نعرف، على وجه اليقين، أنه لا يعبر عن فكرة قومية عربية مفترضة (كانت سابقة لأوانها في النصف الأول من القرن التاسع عشر)، مثلما نعرف على قدر آخر من اليقين أن الحامل عليه كان وعي مصر محمد علي وإبراهيم باشا أن كيانها الوطني غير قادر على الدفاع عن نفسه إلا من خارج حدوده، وأن سوريا المنتزعة من تركيا هي الضمان الأوفر لحماية الأمن الكياني لمصر . وبهذا المعنى يكون محمد علي وإبراهيم باشا قد اهتديا مبكراً إلى فكرة المصلحة بما هي فكرة تأسيسية لمشروع التوحيد.

بعد ما يزيد على قرن من فشل هذا المشروع التوحيدي، تعرض مشروع توحيدي عربي آخر في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين للانتكاس والإخفاق: مشروع الوحدة المصرية السورية. بين مشروعي محمد علي وعبدالناصر وجوه شبه واختلاف في آن، خليق بنا أن نقف عليها وما تعنيه وتدل عليه:

أول وجوه الشبه بينهما أنهما واجها التحدي الخارجي الاستعماري نفسه وآلا إلى إخفاق كان للعامل الاستعماري أثر حاسم فيه بحكم ما شكلاه من تهديد مباشر لمصالح الدول الكبرى المتطلعة إلى إطباق السيطرة على منطقة “الشرق الأوسط”.

وثانيها أن المشروعين انطلقا من نقطة بداية مشتركة هي توحيد مصر وسوريا (هل هي مصادفة، إذاً، أن تبدأ مشاريع التوحيد منهما؟!).

وثالثها أن محاولة التوحيد في الحالتين هي التحديث الاقتصادي والاجتماعي الذي أطلقه برنامجه الطموح محمد علي باشا وجمال عبدالناصر وكان يعد بتعميم مفاعيله ومكتسباته على سائر الأقاليم التي تشملها عملية التوحيد.

أما رابعها، فما كان للمؤسسة العسكرية، في الحالين، من دور مركزي في تجربة التحديث والتوحيد، وما نجم عن ذلك بالتبعة من إفقاد المشروعين للموارد الاجتماعية والسياسية الخليقة بحمايتهما في وجه الضغط الأجنبي.

في المقابل، كان أول وجوه الاختلاف بينهما أن مشروع محمد علي توسل بالعنف والاجتياح أداة وسبيلاً لنفسه، في حين قاد عبدالناصر عملية الوحدة برضا القيادات والمجتمع في سوريا حتى لا نقول بضغط معنوي منها أجبر حذره وتحفظاته على الانكفاء خشية إساءة فهم موقفه.

وثانيها أن مشروع محمد علي للتوحيد لم يكن مستنداً إلى فكرة التوحيد القومي وإنما كان موضعياً ومحدوداً ولم يتطلع إلى أفق أبعد سوى السيطرة على قلب تركيا (الاستانة): وهي ليست في نطاق الجغرافيا السياسية العربية، أما مشروع عبدالناصر، فكان قومياً عربياً وعبر عن نفسه بمفردات قومية عربية صريحة.

وثالثها أن مشروع محمد علي التوحيدي لم تكن له آثار كبيرة ذات صدى إيجابي في المحيط العربي ربما بسبب محدودية أهدافه، فيما كان لمشروع عبدالناصر التوحيدي كبير أثر في البلاد العربية برمتها.

إن أهم ما استخلصه الوعي العربي من تجربة الإخفاق الذي انتهى إليه المشروعان، وبينهما تجربة “الثورة العربية” في العقد الثاني من القرن العشرين، أن العامل الوحيد الذي يفسر ذلك الإخفاق هو التدخل الاستعماري الخارجي لتحطيم محاولة التوحيد القومي في الحالين. ولقد أطلقت فرضية العامل الخارجي سيلاً من الكتابات التي بحثت لنفسها في وقائع تاريخنا الحديث والمعاصر عما يقيم الحجة القاطعة لصحة الفرضية تلك . وكان من الطبيعي، مع الزمن، أن يتحول الكثير من الأفكار التي تدور في هذا المدار إلى يقينيات إيمانية عميقة ومستبطنة إلى حد الذي تتعذر معه أية محاولة نقدية لزحزحتها أو لضخ بعض النسبية فيها.

لقد جرى استبعاد شبه كلي لأية فرضية أخرى ممكنة لتفسير الإخفاق حتى وإن لم يؤخذ بها كفرضية نقيض أو بديل . بل لقد كان مجرد الإيحاء بأن لذلك الإخفاق أسباباً وعوامل داخلية تتصل بداخل تجربة التوحيد وما اعتورها من نقص وأخطاء فعلاً يرقى في رأي البعض إلى تبرئة الاستعمار والصهيونية من دم الوحدة .
"الخليج"

التعليقات