23/11/2009 - 08:40

مفارقات المثقف: الشعبوية والحقيقة المطلقة../ عبد الإله بلقزيز

مفارقات المثقف: الشعبوية والحقيقة المطلقة../ عبد الإله بلقزيز
ليس في تاريخ المثقفين العرب ما يسعفهم بالزعم أن لفكرة الالتزام جذوراً في الماضي قابلة للاستدعاء أو للبناء عليها، لكنهم قطعاً يملكون أن يقولوا، من غير قليل من التردد، إن لفكرة الحقيقة المطلقة تاريخاً ثقافياً طاعناً في السن عندهم. يمكنهم، إذن، أن يخترعوا أجداداً من “المثقفين” الملتزمين في الماضي (العربي الإسلامي) كي يتجنبوا الشعور المحرج بأنهم ضيوف على فكرة الالتزام التي صاغها الوعي الأوروبي الحديث، لكنهم يملكون أن يجدعوا أنوف من ينازعهم حق الإدلاء بشهادة الأهلية الوراثية لما ترك القدماء لنا من أملاك ثقافية خرافية حين يتعلق الأمر بملكية الحقيقة.

في وسع المثقف العربي أن يلوي عنق التاريخ فيصطنع لنفسه نماذج أولى ل “مثقفين” ملتزمين في التاريخ القديم. قد يجدهم في “القراء” على عهد “الفتنة الكبرى” كما سماها طه حسين أو في معتزلة ناهضوا الفكرة الجبرية الأموية ودافعوا عن حرية الإرادة، أو في ما عرض لابن حنبل من ابتلاء في محنته (خلق القرآن)، أو للحلاج في مأساته وشبيهتها عند بشار بن برد، أو لابن رشد ضد انقلاب الفقهاء والسلطان عليه، أو لابن خلدون الذي تأفف من السياسة والسلطة وأصابه برمٌ بهما.. الخ، لكنه لن يلفي نفسه في هذا الاصطناع غير خائض في المستحيل كمن يجرب عبثاً تربيع الدوائر أو تدوير الزوايا! ذلك أن فكرة الالتزام حديثة حداثة ظاهرة المثقف، والباحث عنها في الماضي كالباحث عن نبتة الخلود في البيداء.

لكنه يستطيع أن يعثر على ضالته كلما كانت وجهته استكشاف مناطق وجود فكرة الحقيقة المطلقة في ثقافة الأقدمين. حتى أنه يملك أن يجد مساحات واسعة منها في تلك الثقافة من دون صرف كبير جهد. ولسنا نعني بهذه الحقيقة المطلقة ما تحصله المسلمون من حقائق الوحي، وإنما ما أنتجه عقلهم المتشبع بفكرة الحقيقة من معارف نظروا إليها بوصفها الحقيقة. وهذا العقل الدوغمائي ليس خاصاً بفئة من أهل العلم الديني، وإنما هو مشترك بين الفقهاء والمفسرين والمحدثين وعلماء الكلام و أحياناً الفلاسفة.

يرث المثقف العربي المعاصر فكرة الالتزام عن مثقفي أوروبا والغرب، وفي سياق انتظامه في مقالاتهم وتياراتهم الايديولوجية، فيعيد إنتاجها في حقل الحراك الثقافي العربي، ويستأنف في الوقت عينه ما بدأه أسلافه من ضروب الزعم بانطباق ما يقولون على حقائق الوجود والعالم والظواهر. أما أن يكون السلف قد ادعى الحقيقة باسم الدين، بينما ادعاها الخلف باسم العلم، فليس فيه وجه مباينة أو افتراق، هو أشبه ما يكون ب “فرق عملة” لا أكثر.

على مثال المثقف الأوروبي الملتزم خطا المثقف العربي نحو منطقة الالتزام وكرس لنفسه وظيفة هيأ له مجتمعه الأمي، الفقير، المقهور، تربة خصبة لها ما تهيأت للأول: خدمة قضايا الشعب والجماهير. كان كالأول مثقفاً ماركسياً أو فوضوياً أو إنسانوياً يناهض الاستغلال الطبقي أو يدعو إلى تدمير الدولة باسم التسيير الذاتي أو مدافعاً عن كرامة الإنسان والبيئة. لكنه في الوقت عينه كان وطنياً يناهض الاحتلال، وقومياً يناهض التجزئة ويدعو إلى الوحدة، وهو اليوم ليبرالي جديد يدعو إلى الحريات بما فيها حرية السوق ويدعو إلى تجريد الدولة من السلطة والثروة، وإسلامي يدعو إلى مواجهة الطاغوت وإقامة الدنيا على حاكمية الشريعة. وهو مارس فعل الالتزام من مواقع مختلفة: من موقع الانتماء إلى مؤسسة سياسية (حزب، حركة، منظمة) قائمة على فكرة من الأفكار الكبرى التي ذكرنا، أو من موقع مستقل تنظيمياً ولكن على نحو يردد منه نفس الايديولوجيا السياسية التي تتداولها المؤسسات الحزبية.

وكما كانت فكرة الالتزام عظيمة الأثر والقيمة في المجتمع والفكر الغربيين، كانت أهميتها كبيرة وأثرها محموداً في المجتمع والثقافة العربيين. فإلى أنها أخرجت المثقفين من أقفاصهم الأكاديمية أو الثقافية المحكمة الإغلاق، وزجت بهم في أتون المجتمع وقضاياه، وجسرت الفجوة بين همومهم وهموم الناس، علمتهم في الوقت نفسه كيف يصقلون أسئلة المعرفة والفكر والإبداع ويختبرون مستوى الشرعية في تلك الأسئلة في مختبر الواقع والتاريخ. لكن انسياق الكثير منهم وراء فكرة الالتزام الاجتماعي أو المجتمعي فرض تكييفاً حاداً لمعنى الثقافة والمعرفة والإبداع صرف فيه هذا (المعنى) لجهة الدلالة على أمر واحد وحيد: النطق باسم قضية بمفردات القضية (وهي مفردات ايديولوجية على وجه الضرورة)، والانصراف عن دور مفترض: إنتاج المعرفة والقيم الثقافية. ارتضى قسم كبير من المثقفين خيانة دوره الثقافي تحت عنوان عدم خيانة قضايا الجماهير، وكأن الأمرين متلازمان! وكأن الوفاء لقضايا الشعب والوطن والإنسان لا تكون إلا من طريق الاستقالة الفكرية!

هل هي مفارقة فحسب أن يتأرجح وعي المثقف بين أزعومتين وموقعين، بين أن يكون داعية شعبوياً ومالكاً للحقيقة؟ في الظاهر، هي مفارقة فكرية. لكنها، في ما هو أبعد من الظاهر، تعبير عن حال من الاضطراب وعدم التوازن يعيشها المثقفون: شعور مزدوج بالاستعلاء اللاشعوري على الشعب والجماهير (هو ما يضخم في أنفسهم فكرة حيازة الحقيقة)، وبالانتماء العضوي إلى قدرهما الاجتماعي ومصيرهما (وهو ما يؤسس فكرة الالتزام في وعيهم). حال أشبه ما تكون بانفصام الشخصية هي هذه الحال التي يعيشونها. وهي حال تتفاقم اليوم في ضوء حقيقتين متداخلتين: تراجع فكرة الالتزام التي أصابت المجتمع الثقافي العربي والعالمي في امتداد أزمة حادة أصابت الايديولوجيات السياسية الكبرى في العقدين الأخيرين، وتراجع مكانة الرأسمال الثقافي في منظومة القيم الاجتماعية والسياسية في عالم اليوم.
"الخليج"

التعليقات