27/11/2009 - 12:01

إسرائيل أمام احتمالات الانتفاضة والحرب../ سمير كرم

إسرائيل أمام احتمالات الانتفاضة والحرب../ سمير كرم
الانتفاضة الفلسطينية الثالثة تبدو على الأبواب.
والحرب الإسرائيلية الإقليمية أيضاً تبدو على الأبواب.
الشعب الفلسطيني يجد نفسه في الوقت الحاضر بين شقي الرحى. ضغوط الاحتلال الإسرائيلي من ناحية، متمثلة في استمرار التوسع الاستيطاني وما يعنيه من الطرد والإهانة والتشريد والاعتقال، ومن ناحية أخرى إحباطات الدبلوماسية الأميركية التي وعدت بالقليل ولم تف حتى بأقل منه، بشأن حمل إسرائيل على خلق مناخ ممكن لمواصلة عملية السلام.

في الوقت نفسه فإن إسرائيل ـ على الرغم من تراجعات إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما ـ تجد نفسها في مأزق بين السياسات الصهيونية، كما تعبر عنها وتنفذها حكومة رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، والسياسات التي يتوقعها العالم بعد أن أثبتت تقارير دولية متتالية، وكان أهمها وأكثرها تفصيلاً تقرير غولدستون ـ أن إسرائيل ابعد ما تكون عن صورة الضحية الخائفة المعزولة... الصورة التي ترسمها لنفسها ولم يعد يصدقها حتى أكثر اليهود تعاطفاً مع إسرائيل والصهيونية. وفي كل مرة وجدت إسرائيل نفسها داخل هذا المأزق فإنها لجأت إلى الحرب، كما تبدو الآن فعلاً.

وحتى لا تبدو إسرائيل أنها تحارب ضد الطرف الضعيف المحتل المشرد الذي تنتهك أرضه وبيوته وممتلكاته فإنها تعد نفسها لحرب ضد أقوى طرف، يقول انه لا يوافق على سياسات إسرائيل ـ النووية وغير النووية ـ وهو الطرف الإيراني.

إن قدراً من الظلم الواقع على الفلسطينيين في هذا الوقت العصيب يجعل الانتفاضة الثالثة، الاحتمال الوحيد الممكن لمواجهة إسرائيل والاستيطان والاستيلاء التدريجي إنما السريع على القدس كلها، والتراجع الأميركي المطرد أمام النفوذ الإسرائيلي والصهيوني على البيت الأبيض (السلطة التنفيذية) وعلى الكونغرس (السلطة التشريعية). والأمر الذي لا شك فيه أن إسرائيل مستعدة لمضاعفة كم الظلم ونوعه ضد الفلسطينيين وهي تواجه احتمالات الانتفاضة الثالثة. فهذا ما فعلته مع الانتفاضة الأولى ومع الانتفاضة الثانية. ولكن الأمر الذي لا شك فيه أيضا أن الفلسطينيين بهذا سيكسبون مزيداً من التأييد والاحترام والتعاطف من جانب الرأي العام العالمي ... فهذا هو تيار الوقت الحاضر الذي عجزت إدارة أوباما عن رؤيته، أو عن فهمه أو عن استغلاله ... أو هذا كله معاً.

يقول بعض مؤيدي الفلسطينيين من الكتاب الأميركيين إن عنف الرد الإسرائيلي على الانتفاضة الثالثة سيكون كارثياً، لأنه سينطوي على محاولة «لتنفيذ عملية التطهير العرقي ضد الفلسطينيين لأقصى مداها». لكنهم يقولون في الوقت ذاته إن هذا سيكون «ثمن رفض الرئيس أوباما قول الحقيقة لسلطة اليهود على نطاق لم يسبق له مثيل في دمويته وتدميره» ( الان هارت، انورميشن كليرنغ هاوس).

والحرب الإسرائيلية في المنطقة لمواجهة خطر الانتفاضة الثالثة ـ ضمن أهداف أخرى بينها الملف النووي الإيراني ـ لا تقل عن ذلك تعقيداً في نتائجها المحتملة.

ليس فقط لأنها حرب يمكن أن تطول لأكثر من احتمال إسرائيل كجيش وكمجتمع، إنما أيضا، لأن الانتفاضة «الداخلية» في ظروف من شأنها أن تفاقم وتضاعف الآثار السلبية للاثنتين: الانتفاضة والحرب. بل إن السؤال سيكون هل تستطيع إسرائيل أن تواجه هذين التحديين معاً، وأيهما يمكن أن يؤثر على نتائج الأخرى إيجابياً أو سلبياً؟

تدل بعض المؤشرات على أن أوباما يدرك أن الوضع الراهن الذي أسهم في خلقه بتراجعه أمام النفوذ الصهيوني ينطوي على هذين الاحتمالين، وبالتالي إن انفجار الاحتمالين سيفرض على الولايات المتحدة التصرف على نحو لا يزيد الوضع دموية وتدميراً. ولهذا فإنه، عندما اضطر للاعتذار عن الظهور أمام مؤتمر الاتحادات اليهودية لأميركا الشمالية، لأنه كان ملزماً بحضور تأبين ضحايا قاعدة فورت هود ـ وجد من المناسب أن ينتدب عنه للحديث أمام المؤتمر رئيس أركان البيت الأبيض رام ايمانويل، «المفكر الصهيوني رقم واحد في البيت الأبيض»، ليؤدي دور «المستسلم نيابة عن رئيسه أوباما» (حسب تعبير المعلق الأميركي بول كريغ روبرتس). إنما لا بد من القول إن أوباما اعتقد أن هذا الاستسلام خير مهدئ لحكومة نتنياهو في الظروف الراهنة ... خاصة بعد أن أعلن محمود عباس انه لن يواصل البقاء في رئاسة السلطة الفلسطينية المنوط به تقديم التنازلات لإسرائيل ..لأن الكيل قد فاض لكثرة ما قدم من تنازلات.

وبالفعل فإن «وكالة البرق اليهودية» (وكالة الأنباء الرئيسية الصهيونية) قالت في تحليل كتبه اورييل هايلمان «إن أوباما انتقل إلى الركن الإسرائيلي ولكنه يحاول أن لا يظهر ذلك».

وأضاف هايلمان انه عندما اعتلى رئيس أركان البيت الأبيض المنصة ليتحدث نيابة عن أوباما، بدا بالضبط مثل رئيس الوزراء نتنياهو في اليوم السابق عندما تحدث إلى المؤتمر نفسه.

وقال ايمانويل «لا تخطئوا، إن الدرب نحو السلام ليس درباً يتعين على إسرائيل أن تسير فيه وحدها». وهكذا وضع مندوب الرئيس أوباما مسؤولية عرقلة طريق السلام على عاتق الفلسطينيين والعرب.

غير أن هذه لم تكن مفاجأة لإسرائيل. المفاجأة جاءت لإسرائيل في ذلك اليوم من باريس، من وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير الذي قال «يبدو أن رغبة إسرائيل في السلام قد اختفت تماماً»، وكان يعلق بذلك على استمرار مشروعات التوسع الاستيطاني في القدس الشرقية.

وإزاء هذا التحديد الأميركي المألوف للمسؤوليات يتعين على العرب أن يختاروا احد سبيلين، إما الاستمرار في الشكوى من انحياز واشنطن لإسرائيل وإظهار الرغبة في تقديم مزيد من التنازلات لإثبات حسن النية، وإما معالجة الوضع على أساس أن الحرب آتية لا محالة. لأن إسرائيل ترى فيها مخرجها الوحيد من المأزق الراهن. وحقيقة أن إسرائيل في مأزق تكفي بذاتها لكي يكون العرب مستعدين لوقوع حرب.

ولأن معظم الأنظمة العربية ستتهرب من الحرب، بالأخص منها منظومة الاعتدال العربي، فإن ذلك سيكون من العوامل المشجعة لإسرائيل على شن حرب تخفي وراء دخانها ونيرانها ودمارها مشاهد الانتفاضة الثالثة. ولهذا لا بد لهذه الحرب أن تكون قريبة من الأراضي المحتلة، فإما غزة أو لبنان أو سوريا... لكن التهرب العربي ليس وحده عامل التشجيع لإسرائيل على شن حرب إقليمية إلى جانب محاولة إبادة الانتفاضة. ثمة عوامل أخرى.

أولها إن الولايات المتحدة مشغولة بحربها في أفغانستان وباكستان وبقايا حربها في العراق. الأمر الذي يجعلها لا تتحمس ـ ولا تستطيع أن تتخذ موقفا حاسماً ـ ضد حرب إسرائيلية يمكن أن تتحول إلى حرب إقليمية في الشرق الأوسط.

لهذا يبقى العامل الأساسي في مواجهة صانع قرار الحرب في إسرائيل هو العامل المتعلق بالجبهة الداخلية الإسرائيلية وما إذا كانت لديها قدرة الاحتمال، والجبهة الصهيونية الخارجية وما إذا كانت ستبقى على حالة الانقسام الراهنة بين تصور إسرائيل قوية وقادرة وتصويرها ضحية وضعيفة ومعزولة ومهددة بمحرقة (هولوكوست) جديدة. وهاتان الجبهتان في حالة إسرائيل لا تنفصلان، فإن الجبهة الخارجية هي مهرب الجبهة الداخلية إذا ما لاح للإسرائيلي أن لا مفر من الهجرة العكسية، إذا بان أن الحرب تطال الداخل بأكثر مما طالته الحروب السابقة، بما في ذلك حرب إسرائيل على لبنان في صيف عام 2006 .

في يوم 14 تشرين الثاني الحالي نشر موقع «تروث اوت» (الحقيقة معلنة) على شبكة الانترنيت افتتاحية مطولة عن «مرض إسرائيل» أكدت فيها كاتبتها ـ ايرا شيرنوس ـ أن أعداداً من اليهود أكثر من المتصور ـ بما في ذلك أولئك الذين يعيشون في دولتهم الخاصة (إسرائيل) ـ لا يزالون متمسكين بالشعور القديم بانعدام الحيلة والضعف. وقالت إن اسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي اغتيل لهذا السبب، قال للإسرائيليين إن بلدهم قوي عسكرياً وليس بلداً بلا أصدقاء وليس في خطر. وعليهم لهذا أن يتوقفوا عن التفكير والتصرف مثلما يفعل الضحايا.

أما رئيس الوزراء الحالي نتنياهو فإنه يقول إن العالم كله ضد إسرائيل وإن الإسرائيليين معرضون لخطر هولوكوست آخر. وهذه الرسالة عن الضعف اليهودي وحالة الضحية التي يتقمصها تجذب إليه مزيداً من الأصوات ليبقى في السلطة.

وتعتقد الكاتبة أن هذه المخاوف الإسرائيلية غير الواقعية هي سبب رفض إسرائيل دعوة أوباما إلى وقف التوسع الاستيطاني والبدء بإيجاد حلول وسط من اجل السلام.

وهذا هو السبب نفسه وراء مقاومة إسرائيل المستميتة ضد تقرير غولدستون على الرغم من أن واضعه قاض صهيوني بارز تحول بسحر ما إلى «عدو لإسرائيل» في زعم المسؤولين الإسرائيليين، وينتمي في رأيهم إلى مدرسة فكرية تذهب إلى أن كراهية الإسرائيليين هي شكل من إشكال العمل من اجل السلام.

ولأن السلام لا يلائم إسرائيل فإن رابين اغتيل واغتيلت معه كل تأكيداته بأن إسرائيل قوية وفي أمان. والحرب هي وسيلة إسرائيل الجاهزة دائما لتأكيد الإيمان الصهيوني بأن كل اليهود ـ في إسرائيل وفي الشتات ـ في خطر... ولكن المغامرة الإسرائيلية بالحرب هذه المرة ليست مأمونة العواقب. إن محاولتها لجر إيران إلى حرب قد تلائم هوى أميركا بمعاقبة إيران على تمسكها بمشروعها النووي. وقد تلائم نفوراً قوياً واضحاً من جانب القوى الإقليمية العربية التي ترى في إيران منافساً على الزعامة الإقليمية وطرفاً يسعى للحرب لأهداف خاصة به وليس من اجل أهداف العرب ولا من اجل نصرة الفلسطينيين. مع ذلك فإن ثقل إيران الإقليمي ـ الاستراتيجي والسكاني والسياسي ـ لا يقع في نطاق مقدرة إسرائيل على شن حرب سريعة تخرج منها بلا خسائر بشرية أو دمار واسع النطاق.

إن إسرائيل تغامر هذه المرة بحرب يمكن أن تطول ويمكن أن تشمل مناطق مأهولة منها لا قبل لها باحتمال الخسائر البشرية والمادية، ويمكن أن تذهب رياحها العاتية بنظم بنت استراتيجياتها في السنوات الثلاثين الأخيرة على مسالمة إسرائيل كطريق أوحد للتحالف مع الولايات المتحدة.

لهذا يبقى السؤال: هل تستطيع إسرائيل الصمود في مواجهة انتفاضة فلسطينية ثالثة وحرب إقليمية طويلة في وقت واحد؟
"السفير"

التعليقات