22/03/2010 - 06:45

محاولة لفهم الواقع والحاضر../ طارق البشري*

محاولة لفهم الواقع والحاضر../ طارق البشري*
إذا أردنا أن نقارن بين الوضع السياسي لمصر في بدايات القرن العشرين وبينه في بدايات هذا القرن الواحد والعشرين نلاحظ ثمة متشابهات وثمة فروق.

وأهم المتشابهات أن مصر في كلا الزمنين تعتبر بلدا محتلا، لأن إرادته السياسية لا تصدر عما يراه صالحا وطنيا له، ولا تنضبط بالمصالح العليا التي يتعين على أية دولة أن ترعاها لشعبها، وإنما تصدر إرادته السياسية عما تمليه عليه إرادة الدولة الخارجية الغالبة والمهيمنة، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وتتبع إرادة مصر الرسمية ما تراه هذه الدول المهيمنة من مصلحة لها في مصر وفي المنطقة العربية.

أما أهم الفروق، فأولها أن مصر في بداية القرن العشرين كانت محتلة عسكريا من داخل أراضيها بالقوات المسلحة البريطانية، وكان هذا الاحتلال العسكري والبريطاني هو الأساس المادي للسلطة البريطانية في مصر، ولهيمنتها على إرادة الدولة، لأنها بالتهديد بالتحرك العسكري الداخلي تستطيع أن تضغط على رأس الدولة وتهدده بالخلع، وقد خلعته فعلا في سنة 1914، كما تستطيع ما هو أدنى وهو تغيير الوزارات واختيار الرؤوس المنفِّذين للسياسات.

أما اليوم في بدايات القرن الواحد والعشرين فلا يوجد احتلال عسكري أمريكي لمصر فيما نعلم، وإن وجد عدد من القواعد العسكرية والتي تسمى بالتسهيلات الجوية أو البحرية أو ما شابه، ثم هناك إسرائيل بقوتها العسكرية الضاربة وهي لم تكن موجودة في بدايات القرن العشرين، وهي على المشارف لحدود مصر الشمالية الشرقية، ولها مع الولايات المتحدة الأمريكية من الإملاءات في الإدارة المصرية ما يفسر ما نشاهده من سياسات تتخذها لمصر لغير الصالح المصري.

ومن المفارقات العجيبة، أن مصر المحتلة عسكريا عيانا بيانا جهارا نهارا في بداية القرن العشرين كان لدولتها بعض التحرك المعارض للسياسات البريطانية في مصر، وكان أهل ذلك الزمان يلاحظونه في قدر من التناقض بين ما كانوا يسمونه بالخلاف بين السلطة الفعلية الانجليزية وبين السلطة الشرعية للخديو على رأس جهاز دولته مما أدى من بعد مع الحرب العالمية الأولى إلى فرض الحماية الإنجليزية الرسمية على مصر، وخلع الخديو وتعيين بديل عنه فى سنة 1914.

واستمر ذلك نحو خمس سنوات حتى قامت ثورة سنة 1919 عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى فورا.

أما الآن فمع عدم وجود احتلال عسكري صريح لمصر من داخل أراضيها، ومع الاكتفاء بالاحتلال العسكري الإسرائيلي من خارج الحدود، لا يلحظ أدنى خلاف بين إرادة الهيمنة الأمريكية وبين الإرادة الذاتية لمصر الرسمية.

والفارق الآخر الهام جدا، أن بريطانيا ــ الدولة المستعمرة ــ عندما احتلت مصر سنة 1882، كانت تقدر أهميتها الذاتية وأهمية موقعها الدولي، وكانوا ينشدون مع ضمان سيطرتهم على مصر أن يستفيدوا من إمكاناتها في الجغرافيا السياسية بالنسبة للعالم وطرق المواصلات وقناة السويس والمنطقة العربية الإسلامية المحيطة، في شمال أفريقيا وغرب آسيا.

لذلك كان لهم هدف بنائي في مصر، وهو أن يشيدوا فيها تكوينا سياسيا يدور في فلكهم، ويرعى شؤونهم، ويتخذونه قاعدة انطلاق لهم في منطقتي البحر الأبيض والبحر الأحمر، فكانت لهم في مصر سياسة بناءة من حيث تحديث جهاز إدارة الدولة من النواحى الفنية والمهنية والتنظيمية، ومدِّه بالخبرات والعلوم والتجارب التي تمكنه من إدارة المجتمع والسياسة لصالحهم.

أما الآن فالصورة على العكس تماما، لأن الإرادة الأمريكية المهيمنة قد صنعت إسرائيل، ورثتها من الإنجليز وهي لا تزال دولة جنينا مع نهايات الحرب العالمية الثانية في سنة 1945 وقبل أن تنشأ، ثم ولدت إسرائيل على يديها في سنة 1948، وتعهدتها بالنمو والازدهار حتى صارت هي الدولة والشعب المرشحين لرعاية المصالح الأمريكية بدلا من مصر.

ولا يكتمل هذا المشروع إلا بإزاحة مصر تماما وإخراجها من المنطقة، وهذه الإزاحة الأكثر حسما وفاعلية تكون بتهديم مصر، دولة ونظاما وشعبا وخبرات وثروات وإمكانات.
وأن إخراج مصر من المنطقة العربية كلها يكون أفضل بقدر ما تدمر وتحطّم كل إمكاناتها الأساسية.

لذلك فإن هناك فارقا أساسيا بين سياسة الإنجليز في مصر فى بداية القرن العشرين وسياسة الأمريكيين فيها في هذا القرن الحالي.

هذا الفارق غاية فى الأهمية بالنسبة لمصر وأهلها ومستقبلها، لأن المطلوب من الهيمنة الأمريكية على مصر، لا أن تصير مصر كيانا يخدم الصالح الأمريكي وإن تعارض مع صالح المصريين، ولكن المطلوب هو القضاء عليها بوصفها قوة سياسية أو إمكانات سياسية ذات فاعلية.

وأنا أريد أن أكرر هذا المعنى مرات ومرات ليصير التكرار بديلا عن الصراخ، وللفت النظر إلى هذا الخطر الداهم والذي صرنا في جوفه، وإسرائيل هي المعدة لأن ترث مصر موقعا ودورا وإمكانات، وقد اتفقت هذه المصلحة الأمريكية في تفكيك مصر مع مصلحة القائمين على الحكم حاليا فيها، باعتبار التفتيت هو الضمان الأفضل لاستقرار الأوضاع وبقاء النظام القائم أطول فترة ممكنة.
على مدى العقود الستة الماضية تقريبا، أي منذ ثورة 23 يوليو 1952، كان القرار السياسى في مصر الرسمية يخضع لإرادة سياسية مفردة متجسدة في رئيس الدولة، ولكن الفارق جد كبير بين النظام المصري في عهد ثورة 23 يوليو وحتى انتهائه في نحو سنة 1975، وبين النظام الذي تلا ذلك من سنين حتى الآن، كانت حققت ملامح النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي لثورة يوليو.

في ظل ثورة 23 يوليو كان ثمة مشروع سياسي واجتماعي نهضوي ألزم قيادة الثورة وقيادة الدولة على صياغة جهازها الإداري صياغة حديثة تنبني على الالتزام بوجوب تعيين الصالحين للعمل في القيادات المختلفة للمؤسسات المتنوعة، والالتزام بحد أدنى من الكفاءة والخبرة العملية والمهنية في مجالات العمل والنشاطات المختلفة، وقد أُسست في هذا الوقت نظم حديثة للإدارة الجماعية بقيادات مهنية متخصصة ومجالس إدارة هيئات ومؤسسات وشركات تتجمع فيها التخصصات المتكاملة لإنجاز نوع العمل المطلوب.

وثمة تعدد بين الهيئات وتداخل بينها ومزج مرسوم للخبرات المتنوعة.
وكان لابد من الحفاظ على هذا التصور الحديث ضمانا لتحقيق لإنجاز المشروع المرسوم.

وكان ثمة تناقض بين القيادة الفردية للشأن السياسي وبين القيادة الجماعية لشؤون الإنجاز التنموي الموعود والغالب في الظن للمتابعين لتاريخ هذه المرحلة أن كان سيحل هذا التناقض ــ وخاصة مع الإصلاحيات التي بدأت فى 1968 ــ لصالح النظم الحديثة الجماعية.

ولكن جرى تغيير سياسي هيكلي في شؤون الدولة والإدارة منذ أواسط السبعينيات، وأدى أن حُلّ هذا التناقض لصالح السيطرة الفردية لا على الشأن السياسي وحده، ولكن على كل شؤون التنفيذ وتحقق الأعمال في إدارة شؤون الدولة والمجتمع، وحلَّ التناقض لصالح السلطة الشخصية الفردية سياسة ومجتمعا وتقريرا وتنفيذا، وهزمت حداثة النظم الإدارية أمام شخصنة الدولة وسطوة الإرادة الفردية المهيمنة.

وكان الحاسم في تحقق هزيمة المشروع الحداثي الجماعي لإدارة الدولة هو أنه لم يعد هناك مشروع نهضوي أو تنموي تتبناه الدولة، وتسعى بصدق إلى تحقيقه، لقد سقط استقلال مصر أمام النفوذ الأمريكي الوافد عليها، وألغى المشروع النهضوي والتنموي، فلم يعد من دافع يدفع عمال الدولة لمقاومة الهيمنة الفردية، ولا من ضابط يعصمهم أو يصد عنهم جبروت التوغل الفردي في جميع الشؤون.

وصارت الدول كلها بغير وظائف تؤدي إلا حفظ الأمن الذى صيغ شعاره السياسي بعنوان «دولة الاستقرار»، والذي تهاوت كل الأنشطة الاجتماعية والسياسية للدولة في ظله.

كان من شأن هذا الوضع أن بدأ تفكك كل أجهزة الدولة وإدارتها فيما عدا جهاز حفظ الأمن، وذلك حسبما حاولت أن أُوضحه في بعض من كتابات سابقة.

وصار تفكك جهاز إدارة الدولة هو الضمان الأساسي لبقاء السلطة الفردية القائمة واستمرارها، لأن أي رئيس عمل يعرف جيدا أن أى جهاز إدارة أو تنظيم منضبط وفعال، تكون له ضغوطه وإملاءاته على رئاسته، ويمكن أن يشكل نوعا من الحصار لها، والسلطة الفردية التي تريد أن تأمن من أى قيد عليها، إنما تعمل على أن تفكك ما تحتها من أجهزة وتشكلات وتجمعات منتظمة، وهي تنطلق في هذا المسعى ما دامت لم تلزم نفسها ولا ألزمها أحد من خارجها بأن تنجز مشروعات ما أو تحقق أوضاعا مقررة أو ترعى شأنا تحاسب على عدم رعايته.

وقد كان لهذا التفكيك أثر وخيم على مصر، ذلك أنها لا تتضمن تشكيلات اجتماعية قبلية ولا طائفية ولا تكوينات أهلية عميقة الجذور في المجتمع الأهلي، ويمكن أن يرعى شيء من ذلك شؤون المواطنين اليومية أو يديرها إن قصرت أجهزة إدارة الدولة أو تراخت في ذلك وأن جهاز إدارة الدولة هو تقريبا الجهاز الوحيد المنظم الذي يمكن أن يدير شؤون الجماعة الوطنية في سد احتياجاتها اليومية المتنوعة.

ومن ثم فإن تفكيك هذا الجهاز هو ما به يدمر الوضع في مصر، لكن يبقى النظام القائم بناسه وأشخاصه بعيدا عن التحدي ومخاطر التغيير، يكفيهم جهاز شرطة يسهر على إفساد أية محاولة للمجتمع الأهلي لبناء أنظمة بديلة ترعى شؤون الجماعات المختلفة وتدير أمورها اليومية، ثم يتولى التفكيك التلقائي إفناء قدرات الدولة المصرية وإفناء مصر، ويتحقق بذلك الهدف الداخلي من حفظ الأوضاع والاستقرار الأمني، ويتحقق الهدف الأمريكي من إزاحة مصر عن أن تكون قوة مؤثرة أو فعالة ومن إرث دولة إسرائيل للدور المصري.
ما أصل إليه من العرض السابق، هو أن مشكلتنا القائمة ليست فقط في التنظيم السياسي للدولة، وليست فقط في خلل الأسس التنظيمية الخاصة بإدارة شؤون الجماعة، وليست فقط في سلطة الفرد الحاكم المطلق، إنما ما دعم ذلك ووقف وراءه وأيده وسانده هو مضمون السياسات المتبعة المملاة من القوة الأمريكية المهيمنة، ونحن لا نواجه حاكما مستبدا فردا فقط، ولا نواجه ذلك باعتباره الخطر الوحيد ومصدر الضرر الأول، إنما نحن نواجه هيمنة أمريكية تستخدم هذا الوضع وتسانده لإزهاق الروح المصرية وإفناء التواجد المصري بوصفه قوة سياسية ذات أثر في المنطقة العربية، وهي الهيمنة التي أسقطت مشروع النهضة المستقلة المصرية وأبعدته عن إمكان التطبيق وأملت ما جرى من محاولات التحطيم لقدرات مصر وشعبها التي بنتها عبر العديد من العقود من بداية القرن التاسع عشر.

وإذا كنا نعتبر السياسة الأمريكية ودولة إسرائيل هما العدو الاستراتيجي الأول لمصر والمصريين على مدار السنين الستين الماضية، فإن أية قوة حاكمة أو نظام حكم يتعاون مع النفوذ الأمريكي أو يتحالف معه إنما يشمله ذات الوصف، أيا كان ما يريد أن يتسربل به من أشكال الديمقراطية أو دعاوى الإصلاح، ما بقي نظام يدور في إطار السياسات الأمريكية وينفذها.

صحيح أن نقطة البداية في أي إصلاح سياسي حقيقي هي تغيير أوضاع الحكم داخل مصر، باعتبار أن تغيير الأشخاص الحاكمين وتعديل النظام المؤسسىي هو الطريق الوحيد الموصل لتغيير السياسات الجارية، ولكن يتعين في هذا السعي ألا يغيب عن البال أن طلباتنا الأساسية هي تغيير السياسات المتبعة حفاظا على مصر وشعبها واستيفاءها لما لم نفقده بعد، واستعادة لما فقدناه، وطلباتنا في كل ذلك هي الإطاحة بالهيمنة الأمريكية على مقدرات البلد السياسية.

وهذا المطلب هو ما يشكل عمود الارتكاز لأية سياسة تقترح ويشكل مؤشر التوجه لأي إصلاح حقيقي. وبه يترسم معيار الصواب والخطأ في تقدير مقترحات الإصلاح.

وإن التاريخ المصري وخبرته على مدى القرن العشرين، يكشف عن أن مسألة نظام الحكم في مصر وأشخاصه وسياساته ونظم مؤسساته وصلته بالشعب، كل ذلك كان مرتبطا ومحكوما وجاريا في نطاق الحركة الوطنية المصرية وهدف التحرير المصري من ربقة التبعية وسعيا لامتلاك إرادة الاستقلال في إدارة السياسة المصرية تحقيقا للصالح الوطني العام.

إن كل ما عانيناه من سياسات سلبية في العقود الأخيرة، لم يكن محض خطأ من مقرريه ومنفذيه، ولا كان محض إنقاذ لمصالح فئات طبقية مصرية محدودة ومستقلة عن المشروع الأمريكي ولكنه كان خضوعا لإملاءات الخارج على الإرادة الرسمية.

وإلا فأي صالح مصري عام أو خاص لأية جماعة مصرية في توقف خطط التوسع في استصلاح الأراضي، سواء في جنوب مصر بمشروع توشكي أو شمال غرب سيناء، بعد أن تحققت مشاريع توفير المياه لهذه المشروعات ومساحتها الإجمالية تدور حول المليون فدان.

وأي صالح مصري في تحطيم القدر الغالب من مصانع القطاع العام وتقويض ما كان نجح بمصر من مشروعات صناعة على مدى القرن العشرين، وكان يمكن الافساح للقطاع الخاص في التوسع التنموي بالإضافة إلى الموجود بدلا من تفكيكه.

وأي صالح لأي من فئات الشعب المصري في تقويض الخبرات الصناعية والحرفية والمهنية فى مجالات الإنتاج، بما عرف بنظام «المعاش المبكر» بإخراج هذه الكفاءات وحرمان المجتمع من عملها ومن قدرتها على تعليم الأجيال التالية، وإفقار مصر بذلك من ثروة بشرية يعز تعويضها على مدى قصير من السنين، وأي صالح في تفكيك أواصر إدارة الدولة المصرية في مجالات الخدمات والأنشطة الاجتماعية، وتفكيك أواصر الاقتصاد المصري. وجهاز إدارة الدولة استغرق بناؤه لدينا ما يقرب من قرنين، حتى صار أهم ما شيّدت مصر من تنظيم إداري حضاري، خبرة وانتظاما وكفاءة مهنية ودراسات لأوضاع البلاد، ورغم كل ما به من سلبيات فهو كان بغير مثيل له في قدراته في المنطقة العربية التي نحيا فيها.

كل ذلك يجري في العقود الأخيرة، على سنوات تتلوها سنوات، ويتحقق به هدف واحد وهو صدع القدرة المصرية وتكسير عظام المجتمع المصري بما لا يرجى منه شفاء إلا بعد سنوات طويلة، وبهذا الصدع تحقق الولايات المتحدة الأمريكية الاستبدال الذي ترنو إليه، من حلول إسرائيل محل مصر في شؤون ما تسميه «الشرق الأوسط».

وكل ذلك يفيد أن مشكلتنا ليست فقط تعديل نظام حكم وتغيير أشخاص حاكمين، إنما سعينا هو أيضا لضمان أن التعديل والتغيير يكفل في الواقع والتطبيق استرداد الإرادة السياسية المصرية الوطنية استقلاليتها في نشدان الصالح الوطني المصري، في مواجهة الهيمنة الخارجية ونفوذها، ونخلص من ذلك، أنه إذا كان مطلب الديمقراطية هو مفتاح الموقف المتأزم، فإن جوهر هذا الموقف المتأزم هو سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على القرار السياسي المصري، وأن الهدف الأساسي هو التخلص من هذه السيطرة، وليس مجرد استبدال أداة جديدة بأداة بالية، ولا وجوه جديدة بوجوه قديمة، في إطار ذات السياسات المتبعة.
نقطة أخرى، وهي أن النظام السياسي القائم نظام مغلق، بمعنى أنه ليس في تصميماته البنائية ما يسمح بتغيير يرد إليه من خارج الإرادة الفردية الوحيدة والمتربعة على قمته، أو من خارج من يتحدثون باسمها ويمارسون عملهم بموافقتها.

وهو لا يستجيب لضغوط تأتيه من خارجه ومن المحيط المصري الذي يحكمه، وهو لا يستجيب لضغوط إلا أن تأتيه من الولايات المتحدة الأمريكية والتي يسميها الحليف الاستراتيجي له.

فتصدر المشيئة الأمريكية في السياسة المصرية بقرار مصري، أو يصدر قرار مصري في نطاق ما تسمح به المشيئة الأمريكية، وهو لا يتطلب من المشيئة الأمريكية إلا أمرا واحدا، وهو ألا تطلب شيئا يهدد بقاءه واستمراره.

ولذلك فإن أي تعديل لهياكل نظام الحكم القائم لن يتأتى من داخل الأبنية السياسية للدولة المصرية إلا بضغط أمريكي يفوق المعتاد فيما جرت به العلاقات بين الطرفين إلى الآن. ويكون ضغطا مطلوبا منه أن يخرج عن صيغة التعامل التقليدي التي استمرت ثلاثين سنة بين الجانبين، وهو قدر من أن الضغط يمكن يثير اضطرابا فى العلاقات بينهما، مما يتحسب له الطرفان.

ومن الطبيعي ألا تلجأ الولايات المتحدة إلى هذا الضغط الزائد إلا إذا توافر أمران.:

أولهما أن يكون الوضع الداخلي قد بلغ درجة من التدهور يصعب معها الوثوق فى استمراره تلقائيا،
وثانيهما: ألا يكون ثمة بديل جاهز من داخل الجماعة الحاكمة ترضاه الولايات المتحدة مؤمنا لمصالحها وقادرا على الاستمرار وله قدر من القبول داخل الدولة المصرية يمكنه من إدارتها.
هذا من ناحية العلاقة الثنائية بين الولايات المتحدة والنظام المصري.

أما من جهة أوضاع مصر الداخلية، من حيث العلاقة بين النظام المصري وقوى المعارضة الظاهرة حتى الآن والعاملة فى الحياة السياسية المصرية، وبوجه خاص منذ أوائل سنة 2005، فثمة أحزاب سياسية معترف بها رسمية، نشأت ونشطت على مدار العقود الثلاثة الماضية.

منها أكثرية لا نعرف عنها إلا أنها مقر وبضعة أشخاص، ومنها أربعة أحزاب أو خمسة ذات صحف دورية هي العلامة الأساسية على وجودها، وقد اعتادت على أوجه نشاط محدودة تظهر في صحافتها وبعض لقاءات في الغرف المغلقة.

وقد صارت في غالبها جزءا من النظام القائم يتلقى منها صخبا إعلاميا قد يجرح صورته لدى العامة، ولكنها لا تملك أية قدرة على حشد أو تنظيم يمكّن من تعديل الأوضاع العامة، أو حتى يؤثر في السياسات المنفذة تأثيرا لا يرضى عنه الحاكمون.
وقد تدربت هذه الأحزاب على هذا النوع من النشاط ومُرنت أجهزتها وأعضاؤها القليلون على العمل في حدوده.

وثمة حراك سياسي بدأ منذ أوائل سنة 2005، مؤذنا بوجود نشاط يمكن أن يثير الرجاء في تشكل حركة سياسية طليقة من الغرف المغلقة ممتدة إلى غير النشاط الصحفى.

وظهرت في البداية بقدر من التلقائية والنزوح إلى الخروج للشارع مما يبشر بالفاعلية، وكانت تتحرك بأهداف سياسية عامة مجمعة، وتنشد تغيير أسس نظام الحكم إلى ما يمكن به استكمال بناء نظام ديمقراطي مؤسسي يزيح السيطرة الشخصية عن أجهزة الدولة، ويفكك القبضة الخانقة من على عنق المجتمع كله، أو بالأقل كان الأمل أن تنشد عدم استمرار هذا الوضع لمستقبل ممتد. وواكب هذا الحراك حراك آخر من العمال والموظفين في مناطق عملهم ينشد مطالب اقتصادية وكفالة العمل القادر على تغطية حاجياتهم المتصاعدة التكلفة.

وكان الرجاء أن يرتبط الحراك السياسي للنخب المذكورة مع الحراك التلقائي للمطالب الاقتصادية، ليقوم حراك سياسي شعبي عام ذو حجم يمكن من ضغط فعال من خارج النظام السياسي المغلق ويغير طبيعته وأوضاعه.
ولكن قصر الحراك السياسي للنخب عن القيام بهذه المهمة، وقصر عن الامتداد إلى الحركات الجماهيرية التلقائية التي استمرت نحو ثلاثة أعوام.

وما لبثت حركة النخب أن تجزأت بدلا من أن تتجمع، وأن تضمر حركتها وتضيق بدلا من أن تنشط وتتسع لتتحالف فئاتها.
وهذا هو الشأن المتوقع لأي حركات سياسية تقتصر على المثقفين ولا تمتد إلى جماهير الناس.
ومن ثم تقلصت الإمكانات المتاحة حاليا للفعل السياسي الشعبي المؤثر في الأوضاع القائمة.
بسبب هذا الضمور لنشاط النخب، أُلحق حراكهم السياسي بالظاهرة الإعلامية، وبدلا من أن يكون الإعلام خادما لنشاطهم السياسي. لم يعد الإعلام.. صحافة وفضائيات.. معبرا عن النشاط السياسي لهم أو منبئا عنه أو مجمعا له وحاشدا، إنما صار الإعلام هو «الفعل» وليس «الخبر» عن الفعل.

والإعلام وأجهزته هو في نهاية الأمر وسيلة وليس غاية، لأنه إخبار و«إعلام» وليس هو التحقق ذاته لأمر واقعي. فإذا صار هو الغاية فقد ضلّ العمل السياسي أو يكون تراوح في ذات مكانه.

والحاصل أن أنظمة الحكم لا تتغير بالنشاط الإعلامي مهما اشتدت لهجته وارتفع صوته وعلمت نغمته. إنما ما تتغير به الأوضاع هو النشاط والحراك الشعبي الذي يخالف من رتابة الحياة القائمة، ويكشف عن عجز أدوات النظام القائم في مواجهته وفي إنفاذ أوامرها عليه.

والظلم لا ينتهي بمجرد أن نسمّيه ظلما، والسوء لا يزول بمحض أن تصفه بهذا الوصف. إنما ينتهى الظلم وينكسر السوء بالمواجهة العملية والتحدي الجماعي، وبعدم الطاعة الجماعية للظالم وبالإفلات من قبضته.
والمهم فى الأمر هو كسر إرادة الطرف الآخر، أو بالأقل ثني هذه الإرادة وإفساد سعيها الفعّال.
وهذه أمور تحتاج إلى تربيط وتنظيم.

إن انحسار إمكانات التنظيم والتحريك التي تربط بين الحراك السياسي للنخب السياسية وبين الحركات الشعبية التي جرت على مدى السنوات القليلة الماضية، هذا الانحسار قد أجهض إمكانية مهمة للتغيير من أجل الاصلاح، ولا أعرف يقينا مدى ما لا يزال باقيا من هذه الامكانية، التى كانت متاحة بقدر معتبر لتمكن من قدر طيب من الحراك الشعبي المؤثر والفعال.

ولكن الحاصل أن هذا الانحسار قد أفقد حراك النخب فاعليته، وبخاصة بعد أن بدأ في التشرذم، فتحول من ظاهرة سياسية واعدة إلى ظاهرة إعلامية فحسب، واستعيض عن أهداف الاصلاح السياسي الفعلي، بأهداف «كلامية» مما يكون في مقدور جماعات نخبوية معزولة عن المجال الشعبي، ومن هنا ظهر هدفان، كلاهما يكون صوابا أن أسفرت عنهما حركة شعبية مؤثرة وجاءا نتيجة لها، ولكنهما بغير سبق هذه الحركة لهما، يكونان في ظني ألفاظا فى ألفاظ.

أول هذين الهدفين، هو إعادة صياغة الدستور، وقد استبدل بالتغيير الواقعي للنظام القائم مسألة التغيير «التعبيري» عنه، وتحول النظام من تغيير الواقع إلى تغيير الكلمات التي تدل على هذا الواقع.

وغُضّ النظر عن حقيقة أنه من المطلوب والطبيعي هو تغيير الحقائق الواقعية أولا، وإيجاد قوة شعبية منظمة ذات أثر وذات ثقل في التكوينات الاجتماعية السياسية الموجودة، ثم يجيء دور تعديل الدستور أو تغييره بعد ذلك ليعبر عن علاقات قوى سياسية متحققة في الواقع ويرسم نظام تعاملها السياسي مع بعضها البعض.

لقد فشل هذا الطرح من قبل في الفترة من سنة 2005 إلى 2007، إذ طرحت المعارضة تعديل الدستور قبل أن تسعى لتغيير الواقع فأسفرت المسألة عن تعديلات أيدت وأكدت ودعمت سلطات النظام القائم وكفالة استمراره، وصار هدف المعارضة الآن إزالة التعديلات الدستورية التي ساهمت هي من قبل في فتح الباب إليها قبل أن تكون قادرة على إنفاذ إرادتها وطلباتها.

واليوم بعد أقل من سنتين يعاد ذات الدرس.
أذكر قولا لكارل ماركس وهو أن الحدث التاريخي السيئ في المرة الأولى يكون مأساة وفي المرة الثانية يكون مهزلة.

وثاني هذين الهدفين، هو التفتيش عن اسم يُقترح أن يكون رئيسا للجمهورية، وذلك قبل أن ينتهي النظام القائم، وقبل أن يتشكل النظام الجديد، بل قبل أن تتحدد معالم النظام الجديد، بل قبل أن تتبلور القوى الشعبية المنظمة القادرة على إحداث أي تغيير سياسي ذي شأن.

وأثيرت أسماء كثيرة كما لو أن مشكلتنا الوحيدة المتبقية هي التنقيب عن مصري يصلح لرئاسة مصر، وكما لو أن من الصعب جدا على المصريين أن يجدوا من بينهم من يصلح رئيسا للنظام المرتجى، وبغير إدراك أيضا لأن القوى السياسية التي ستزيح الوضع القائم وتغيره، هي ذاتها التي سيخرج من ثناياها من يعبر عن الوضع الجديد ويصلح لرئاسته، وبغير إدراك لبديهة سياسية وهي أن من ينتصر هو من سيتولى، وأن التنظيم الحراكي القادر على التغيير هو ما سيعكس صورة النظام الجديد بعد التغيير.

وهذا ما نتعلمه من تجارب التاريخ عندنا وعند غيرنا وإن أسبقية اختيار الرأس قبل أن تتشكل القوى المغيرة والقادرة على التحقق الواقعي، إنما يعكس ذات الدلالة السابقة، وهي أن طارحي الهدف لم يملكوا من القدرة إلا الجانب «الكلامي» منها، فدار الأمر في نطاق الأقوال والرؤى دون أن يكون أفعالا وواقعا.
المشكلة أن هذا الذي يجري ليس لغوا مما لا يضر ولا ينفع، ولكن يمكن أن يضر، وفي النشاط السياسي فإن أي مطلب لا تتوافر معه القدرة على إنجاز قدر معتبر منه، إنما يستفيد منه الطرف الآخر.

وهذا هو عين ما حدث في سنتي 2005-2007 إذ طرح حراك النخب السياسية من الأهداف ما لم يكن في مقدورهم إنجازه فاستفاد منه النظام القائم لأنه كان أملك لقدرة الفعل، فحوّله لصالحه.

وأن من يملكون قوة الأمر الواقع الآن هما: القائمون على النظام الحالي والولايات المتحدة الأمريكية، وأن القدرة على تغيير الوضع القائم على خلاف رغبة القائمين عليه.

قد تكون في يد الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، بما تسمح به في حدود ضمان استمرار مصالحها وهيمنتها على أوضاع مصر والمنطقة العربية، وذلك كله يصب في النهاية في تقويض الدور المصري وسيطرة إسرائيل، حتى إن تغير الوضع، لذلك أردت الإشارة إلى ما سبق، والتذكير بأن أي إصلاح للأوضاع الداخلية عندنا، يتعين أن يكون جوهر ما ينظر فيه من صواب، هو أنه لا يشكل فقط محض تغيير لأوضاع الداخل، إنما ينبغي أن يكون تحريرا للإرادة السياسية الوطنية واستردادا لها من الهيمنة الأمريكية، وإلا سيكون التغيير في نطاق الصالح الأمريكي.

إن هدف الولايات المتحدة وإسرائيل هو تدمير مصر وإنهاء وجودها كقوة مؤثرة في المنطقة، وعلينا أن نكون في غاية الحذر والقلق في هذا الشأن، وعلينا ألا نطمئن ولا نستكين ولا نحسن الظن ما دمنا على هذه الحالة من الوهن، وعلينا أن نعلم من دروس السابقين في تاريخنا أمرين، أولهما ألا نتفاوض ونحن ضعفاء أبدا، بل علينا أن نفشل المفاوضات إن اضطررنا لذلك، لأن المفاوض الضعيف لن يأتي بنتيجة إلا ضد مصالحه العليا وسيقيد أجيال المستقبل بهذا الاتفاق المستسلم.

وثانيهما ألا نقدم طلبات ونحن غير قادرين على تحقيقها، أو تحقيق الغالب المعقول منها، بما نملك من قوة آنية، وإلا استفاد منها الطرف الآخر على حسابنا وقيدنا بها مستقبلا. وعلينا أن نبدي السعى في إعداد عناصر القوة أولا، والقوة الشعبية المنظمة، ونقصر ما نطلب على ما يتيح لنا إمكان هذا الإعداد.

لذلك يظل ما ينبغي أن نحرص على تحقيقه الآن هو ما يوفر هذه القدرة على التنظيم والتحريك وتحويلها من إمكانات فعل إلى واقع محسوس وهي:
ــ إلغاء حالة الطوارئ.

ــ الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين وحرية التنظيم الحزبي.

ــ حرية التظاهر والاعتصام السلمي.

ــ الرقابة القضائية الشاملة على الانتخابات بدءًا من إعداد كشوف الناخبين حتى صندوق الانتخاب وحتى إعلان النتيجة.

ــ وفضلا عن المطالب الاقتصادية الخاصة بكل طوائف الشعب المصري وفئاته وعماله وفلاحيه وتجاره الصغار وطلبته، وتنشيط أواصر توثيق العرى بين هذه الجماعات، أن تكون بوصلة صيغة العمل هي تحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الأجنبية.

التعليقات