18/08/2010 - 10:25

المطبعون العرب../ مازن المصري*

المطبعون العرب../ مازن المصري*
كثُر الحديث مؤخرا عن حادثة المطرب التونسي الذي اشترك في حفل غنائي في مدينة إيلات، حيث هتف بحياة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو. وقد أثارت هذه الحادثة ردود فعل قوية في الشارع التونسي، خاصة من قبل النقابات والأحزاب السياسية والناشطين السياسيين. وطالبوا بمساءلة المطرب "المُطّبع". وذهب بعضهم إلى حد المطالبة بإسقاط الجنسية التونسية عنه. وتدل هذه الحادثة وردود الفعل عليها على مدى رفض الشارع العربي للتطبيع، واقتصار التطبيع على بعض النخب مدعية اللبرالية، وخاصة النخب الاقتصادية.

وللتطبيع وجهان: أولهما على المستوى العربي والإسلامي، والهدف منه هو إقامة علاقات طبيعية بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية. والمقصود بعلاقات طبيعية هو علاقات تتعدى العلاقات الرسمية بين الدول وترتقي إلى علاقات اقتصادية وثقافية كالعلاقات التي تكون عادة بين دول متجاورة. أما على المستوى الدولي فالأمر يختلف قليلا، فمنذ أن قامت إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني في 1948، استطاعت –وبدعم خارجي ضخم- أن تبني جيشا واقتصادا قويين وعلاقات خارجية خاصة مع الدول الغربية، لكنها كانت ومازلت تفتقر لأحد العناصر المهمة لأي دولة ألا وهو الاعتراف الكامل بشرعيتها. هذا النقص في الشرعية هو النتيجة الطبيعية لأعمال العنف والتطهير العرقي الذي بنيت عليها إسرائيل وللأعمال العدوانية التي تلتها وسياستها العنصرية اتجاه الفلسطينيين أينما كانوا.

ونتيجة لعدم الاعتراف الكامل بالشرعية، أصبحت إسرائيل دولة استثنائية وغير طبيعية. ومع أن هذا الشعور كان يرافق إسرائيل منذ قيامها، إلا أنه بدأ بالتغيير شيئا فشيئا بعد التوقيع على اتفاقية أسلو في العام 1993، إذ أن السلام الذي كان متوقعا آنذاك ساهم بإضفاء شيء من الطبيعية على الحالة الإسرائيلية. لكن ذلك التوجه ما لبث أن تعثر بسبب اندلاع الانتفاضة الثانية وانطلاق الحملة لمقاطعة إسرائيل، سحب الاستثمارات منها وإنزال العقوبات عليها. إذ أدت هذه الحملة، والممارسات الإسرائيلية الإجرامية إلى هبوط في شعبية إسرائيل وإعادة التشكيك في شرعيتها.

وعلى الرغم من وجود علاقات دافئة مع الحكومات والجهات الرسمية في الدول الغربية، إلا أن إسرائيل تعاني من نقص في الشرعية على المستوى الشعبي، وهي تحاول جاهدة أن تزيد من "طبيعيتها"، وتصوير نفسها كدولة ديمقراطية وليبرالية. ولتحصيل هذه الأهداف ومواجهة حملة المقاطعة، أطلقت إسرائيل حملات لإعادة صياغة صورتها (re-branding).

وترتكز هذه الحملات على عنصريين أساسيين. الأول يتمثل بتركيز دعايتها الخارجية على مواضيع ليست بالسياسية أو الأمنية، والاتجاه نحو التركيز على الانجازات الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية، فتصبح هذه المجالات مواضيع للنقاش فيما يتعلق بإسرائيل بدلا من الوضع الأمني أو معاناة الفلسطينيين. أما العنصر الثاني، وهو الأهم، هو التركيز على ما يسمى بـ"الحوار" بدلا من "المواجهة"، وفي هذه السياق تقوم إسرائيل باستعمال المُطّبعين الفلسطينيين والعرب كأداة لإظهارها بصورة الدولة المتسامحة التي تتبنى الحوار والتعاون لإيجاد حل للصراع بدلا من العنف والتعنت.

ويأتي هذا النوع من التطبيع بصور متعددة، أحدها مثلا دعوة بعض العرب لتقديم محاضرات أو الاشتراك في ندوات تقوم بتنظيمها السفارات الإسرائيلية أو منظمات اللوبي الصهيوني. وهي بذلك تضرب عصفورين بحجر واحد: إذ أنها تسحب البساط من تحت أقدام المتضامنين الأجانب الذين يقاطعون مثل هذه النشاطات- فإن كان العرب والفلسطينيون يلبون مثل هذه الدعوات، لم يصر المتضامنون على أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك؟ ومن ناحية أخرى تُظهِر مثل هذه النشاطات الفلسطينيين الرافضين للتطبيع والمؤيد للمقاطعة كمجموعة من المتطرفين والمتشددين، وعادة ما يتم اتهامهم بالعنصرية واللاسامية.

لا يسمع الشارع العربي عن هذه النشاطات، إذ أنها تحصل في الدول الغربية وغالبا ما يكون الجمهور المستهدف هو الجمهور الذي تكون معرفته بتفاصيل الصراع العربي الإسرائيلي سطحية. فمع قلة الدراية بتفاصيل الأمور والسياق التاريخي لدى الجمهور، تسهُل على الدعاية الإسرائيلية إثارة انطباعات إيجابية عن طريق استضافة متحدث فلسطيني.

وفي مثل هذه الأجواء، لا بأس إن انتقد الفلسطيني "المناوب" بعض السياسات الإسرائيلية إن جاء النقد خفيفا ومهذبا ولا يتعدى انتقادات اليسار الصهيوني، على أن لا يصل إلى حد اتهام إسرائيل بممارسة الابارتهايد أو جرائم حرب أو الدعوة إلى عودة اللاجئين إلى ديارهم.

ومن الأمثلة على هذه النشاطات، اشتراك طبيب من غزة استشهدت ثلاث من بناته في الحرب الأخيرة، في محاضرة نظمتها منظمات اللوبي الصهيوني في كندا. نفسها المنظمات التي كانت تدعم وتشجع إسرائيل في عدوانها الذي استشهدت بناته فيه. وقد قام بتقديم هذه المحاضرة – التي برأ بها إسرائيل من دم بناته اللواتي قُتلن مع 1400 فلسطيني على يد إسرائيل قائلا أن هذا قضاء وقدر من عند الله- على الرغم من مناشدة المؤسسات الفلسطينية في كندا له على عدم الاشتراك.

وقد قام الطبيب أيضا بنشر كتاب عن الفاجعة التي أصابته، واختار أن يقيم حفل توقيع الكتاب في فرع شركة تسويق كتب يقاطعها الفلسطينيون والمتضامنون معهم بسبب الدعم المادي الذي يقدمه أصحابها للجنود في الجيش الإسرائيلي. فقد أقام أصحاب هذه الشركة مؤسسة لتقديم المنح الدراسية للجنود الإسرائيليين. وفي الحرب الأخيرة على غزة، قامت المؤسسة تحت إشراف مديرة الشركة –والتي قامت بتقديم ومحاورة الطبيب- بإعطاء أجهزة العزف الموسيقي (ال آي بود) على الوحدات القتالية على الجبهة دعما لهم وتخفيفا عنهم. وقد كان هذا الطبيب يعلم جيدا أن هذا النشاط يعد تطبيعا وخرقا لحملة المقاطعة التي قال إنه يعارضها.

ويحار المرء في مثل هذا التصرف من شخص دفع ثمنا باهظا نتيجة للجرائم الإسرائيلية. لكن هذا التصرف يكاد يتقزم إذا ما قورن بوضع الدبلوماسية الفلسطينية الرسمية. فباعتراف الإسرائيليين، فإن العلاقات بين السفارات الإسرائيلية وممثليات السلطة الفلسطينية (والتي تدعى سفارات) على أفضل ما يكون. ولعل الأداء الفلسطيني في الأمم المتحدة، وبالتحديد فيما يتعلق بتقرير لجنة "جولدستون" هو خير ما يعبر عن دونية المستوى الذي وصلت إليه الدبلوماسية الفلسطينية. فقد عملت بعثة السلطة الفلسطينية على تأجيل النقاش في هذا الموضوع. وخلال الحرب على غزة تأخرت عن المبادرة بالعمل على الدبلوماسي، الأمر الذي دفع ممثل دولة الإكوادور بأخذ زمام المبادرة والدفع من أجل وضع الهجوم على أجندة الأمم المتحدة.

وإذا كان الأمر كذلك في الأمم المتحدة، فهو ليس بأفضل في مناطق أخرى. ففي الأسبوع الماضي مثلا، دُعي ممثل السلطة الفلسطينية في جنوب إفريقيا، علي أحمد حليمة، إلى الإشتراك في ندوة عقدها الإتحاد الجنوب إفريقي للطلاب اليهود، وهي منظمة صهيونية داعمة لإسرائيل لا تتأخر أبدا عن تقديم الدعم الأعمى وغير المشروط للممارسات الإسرائيلية. وفي هذه الندوة قام بالتحدث إلى جانب صحفي إسرائيلي جنوب إفريقي الذي اتخذ من تبرئة إسرائيل من جريمة الابرتهايد مهنة له. وعلى الرغم من مناشدة المؤسسات الجنوب إفريقية المتضامنة مع فلسطين، ومناشدة العديد من اتحادات الطلاب الفلسطينيين، أبى "سعادة السفير" إلا أن يشترك قائلا أنه ينسق ويتلقى الأوامر من "رام الله" ضاربا بالمناشدات العديدة عرض الحائط.

لم تأت هذه النزعة التطبيعية من فراغ. إذ أن رئيس السلطة الفلسطينية نفسه لا يتوانى عن اللقاء بمؤسسات اللوبي الصهيوني، بل وقد اعترف لهم بحق اليهود على أرض فلسطين (لم يفصل ماهية أو نوع أو مصدر هذا الحق، لكن التفسير المنطقي الوحيد يدل على أن هذا التصريح هو قاب قوسين أو أدنى من الالتقاء بالفكر الصهيوني، إن لم يكن هذا الالتقاء قد حصل فعلا).

التطبيع هو نتيجة ثقافة "أوسلو" التي روجت لها السلطة منذ إقامتها. فقد كان التطبيع جزءا من المبادئ التي تم تبنيها متمثلا بمشاريع People to People الرامية لتطبيع العلاقات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لكن النتيجة كانت تطبيع العلاقات مع ثلة قليلة من الفلسطينيين بدون تغيير الواقع غير الطبيعي. وقد استمرت هذه البيئة التطبيعية إلى اليوم، بل إن السلطة كما أشارت الأمثلة السابقة تقوم بتشجيع التطبيع. فالخطة الاقتصادية التي يروّج لها رئيس وزراء سلطة رام الله غير المنتخب تتبنى التنمية عن طريق مشاريع متعددة تكاد تكون جميعها تعتمد على إسرائيل والمشاركة مع الوزارات الإسرائيلية والقطاع الخاص الإسرائيلي في إطار اقتصادي يعتمد على النيولبرالية، كما حذر تقرير نشرته الحملة الشعبية لمناهضة الجدار.

التطبيع مشكلة مثلها مثل أي سياسة إسرائيلية استبدادية، إذ أن التطبيع هو جزء من السياسة العامة الإسرائيلية التي تبرر هذه السياسات والتي تجتهد كثيرا لجعل هذه السياسات تبدو عادية لتضمن استمراريتها. فالتطبيع هو خدمة يقوم بها المطبعون لإسرائيل تماما كما يقوم القنصل أو الوزير أو الجندي الإسرائيلي بأداء وظيفته. فالمطبعون إذن مشكلة، ومن روّج للتطبيع أو من لم يمنعه هو جزء من المشكلة، أفرادا وجماعات. والمقاطعة هي الحل: فإما أن نكون جزءا من الحل، أو جزءا من المشكلة.

التعليقات