31/10/2010 - 11:02

"الحظيرة" الدولية لكل ثروة مقال../ فيصل جلول

سؤال: إذا وضعنا عشرة مليارات دولار في كفة، وحقوق الإنسان في كفة مقابلة لمن تكون الغلبة؟ جواب: الغلبة للمليارات، ليس فقط بمواجهة حقوق الانسان وانما بمواجهة كل المبادئ والحقوق المعروفة. يمكن ان يسقط في مجابهة هذا المبلغ الخرافي كارل ماركس وهيغل وتوكفيل وجان جاك روسو وابن خلدون وابن رشد وابن عربي وغيرهم وغيرهم من أصحاب المبادئ والقواعد الحقوقية. أما الأدلة فهي أكثر من أن تحصى. ألم يسقط الاتحاد السوفييتي “بلاد العمال والفلاحين” أمام سحر الرأسمالية (الدولار) الظاهر والخفي؟ ألم يسقط روسو ومونتسكيو أمام جحافل بونابرت الذي احتل سويسرا وصادر أموالها ليصرف على حملته المصرية وليبني مستعمرة فرنسية في بلاد النيل تقطع طريق الثروات الذي يسيطر عليه البريطانيون من الهند الشرقية الى أوروبا؟ ألم يستولي أحفاد فلاسفة الحقوق وتقرير المصير على الهند الصينية والجزائر بعد تدمير اقتصاد الانسان البلدي وسلبه كل حقوقه؟ ألم تنتصر تجارة العبيد في إفريقيا على كل المبادئ الانسانية والشرائع السماوية؟ هل صمدت مخطوطات بغداد ومعارفها الانسانية أمام شهوة المغول في نهب ثروات العباسيين المكشوفة؟

تندر الوقائع عن انتصار الحق على الثروة، في حين تضج صفحات التاريخ بأمثلة ووقائع يتبين من خلالها أن المبادئ تنتصر فقط عندما لا تعترض الثروة بل تتماشى معها وتنصرها على أعدائها. ولعل الثورة الفرنسية خير دليل على تحالف المبادئ مع القوة البرجوازية الناهضة، ألم يطلق عليها اسم الثورة البرجوازية في فرنسا؟ ألم تقهر هذه الثورة بالحديد والنار كومونة باريس العمالية؟

وإذا كانت صفحات التاريخ تنوء بأوزار الوقائع الدالة على هذه الحقيقة، فالصحيح أيضاً أن العلاقات الدولية الراهنة مبنية على وقائع مشابهة. أليس احترام حقوق الانسان في عصرنا مطلوب من الدول الفقيرة ومعفية منه الدول الغنية؟ هل تتساوى تشاد الفقيرة مع جنوب إفريقيا الغنية في احترام الحقوق؟ هل تجرؤ الدول الكبرى على تشكيل لجنة دولية للتحقيق في مجزرة “تيان ان مين في الصين”؟ بل هل يجرؤ رئيس أمريكي على الحديث عن حقوق الانسان الصيني خلال زيارة رسمية للصين او خلال زيارة رسمية صينية للولايات المتحدة؟ ألا تجرؤ أمريكا يوميا على تدبيج لوائح عن اختراق حقوق الانسان في الدول الفقيرة وعلى توجيه إنذارات والتهديد بالعقوبات ضد دول ضعيفة لابتزازها وتعريضها للضغط الدولي؟ وهل يجرؤ أحد في العالم على الاقتصاص من امريكا عندما تنتهك حقوق الناس في العراق وافغانستان وغوانتانامو؟ حتى عندما تتحدث الصحف ووسائل الاعلام عن انتهاك الحقوق في الولايات المتحدة، ما قيمة هذا الحديث ومن يعبأ به ومن ينتصر للمنتهكة حقوقهم؟ ألا يبين ذلك أننا نعيش في ظل شريعة غاب حقيقية عن شريعة الغاب الأولى سوى نسبة التقدم المرتفعة التي حققتها الإنسانية منذ القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا؟ في شريعة الغاب القديمة كان القوي يقتل الضعيف للفوز بطريدة أو اتقاء من الجوع، أما اليوم فالقوي يقتل الضعيف للسيطرة على الثروات الطبيعية وبخاصة النفط منبعا ومصبا وطرق مواصلات.

لقد شاهد العالم الاسبوع الماضي في باريس “ملهاة” حقوقية سيئة الاعداد والإخراج. جاء العقيد معمر القذافي إلى “عاصمة النور” حاملا في حقيبته مشاريع اتفاقات اقتصادية للتفاوض بقيمة عشرة مليارات دولار وربما أكثر. العقيد يعرف قواعد اللعبة التي يعرفها أيضا مضيفه نيكولا ساركوزي، بيد أن قواعد الحكم في فرنسا تختلف عن تلك القائمة في ليبيا. في باريس هناك من لا يرغب في مباركة الاختراق الليبي الذي حققه ساركوزي بنجاح في قضية الممرضات البلغاريات وفي المصالحة مع الجماهيرية الليبية. أما في طرابلس الغرب فالحكم لا يخضع لقيد أو شرط وعندما يقول القذافي إنه ليس رئيس دولة وإن “الشعب يحكم البلاد” مباشرة في حين يوقع هو عقودا بالمليارات فلا أحد يناقش قوله. صوبت المعارضة الفرنسية سهامها نحو الضيف والمضيف تحت شعار حقوق الإنسان ما اضطر ساركوزي للقول إنه تحدث مع مضيفه عن ضرورة استكمال التقدم (؟) الذي حققته ليبيا في هذا الشأن. رد فعل القذافي لم يتأخر. نفى أن يكون قد تحدث مع مضيفه في هذه القضية، ثم طالب فرنسا باحترام حقوق المهاجرين الاجانب قبل ان تتحدث عن حقوق الناس في بلدان اخرى. رد ساركوزي من بعد في مقابلة محلية أن على بلاده ان تكون بالفعل نموذجية في مجال الحقوق اذا أرادت للآخرين ان يكونوا نموذجيين.

تجاوز ضغط المعارضة الفرنسية على الزيارة هذا الحد فقد استجاب وزراء في الحكومة للضغوط وانتقدوا الزيارة أو تغيبوا عن عشاء الإليزيه التكريمي للضيف وتم اختصار العشاء الذي حضره كبار رؤساء الشركات المعنية بالعقود الليبية إلى حد قياسي، ومن بعد تمت تلبية كل رغبات الضيف من بينها احترام الخيمة التي نصبها في حديقة قصر مارينيي المخصص لكبار ضيوف فرنسا. إقفال كل الجسور القائمة على ضفتي نهر السين اثناء جولة القذافي النهرية. تنظيم رحلة صيد برية للوفد الليبي في غابة “رامبوييه” وهذا التقليد تخص به فرنسا ضيوفها الكبار. تنظيم زيارة للضيوف إلى متحف اللوفر وقصر فرساي. تنظيم استقبال للوفد الزائر الى الجمعية الوطنية. في هذه الاثناء كان الوفد الزائر يتساءل بحيرة: لماذا يقاطعنا وزراء فرنسيون جاؤوا إلى بلادنا في يوليو/ تموز الماضي وتناولوا الطعام على موائدنا وتظاهروا بالود نحونا؟ والتساؤل لا يخلو من الواقعية، فالوفد الليبي هو نفسه وبالتالي من غير المعقول أن يكون جيدا في ليبيا وسيئا في باريس.

ما من شك، أن أحداً في فرنسا لن يجرؤ بعد مغادرة الوفد الليبي على شن حملة ضد انتهاك “حقوق الانسان” في ليبيا، ولماذا يفعل طالما أن الزيارة قامت على طي صفحة الماضي وبناء شراكة جديدة على قاعدة المصالح المشتركة والتجارة الحرة التي تنطوي على حصة فرنسية معتبرة من احتياطي العملة الصعبة في الجماهيرية، والمقدر بعشرات المليارات من الدولارات. هذه المليارات التي تتيح لوزير الخارجية الليبي أن يحدث الصحافيين الفرنسيين بمنطق الند: أنتم تعتبرون “الزواج المثلي من “حقوق الإنسان” وتحرمون تعدد الزوجات احتراما لحقوق الإنسان” وهذه ليست ثقافتنا. هل يجرؤ الرئيس السنغالي المسلم عبدالله واد على التفوه بمثل هذه العبارات خلال زيارة رسمية لباريس؟ نعم لكل ثروة مقال في هذه “الحظيرة” الدولية التي تقرر فيها البورصات العالمية مصير المبادئ والحقوق والأخلاق.
"الخليج"

التعليقات