31/10/2010 - 11:02

أحسنت بكين../ جميل مطر*

أحسنت بكين../ جميل مطر*

مبالغات كثيرة اكتست بها التعليقات على دورة الألعاب الأولمبية الأخيرة، وتكهنات أكثر مازالت تتردد عن “عالم ما بعد أولمبياد بكين”، أي عن المستقبل، مستقبل الرياضة ومستقبل الصين ومستقبل النظام الدولي والسلام العالمي، ومستقبل الاقتصاد والتجارة. ودارت نقاشات ولم تهدأ حول الإنجاز الأمثل الذي تحقق في هذه الدورة أو بفضلها بين عشرات الإنجازات، بعضها استحق بالفعل أن يعتبره معلقون إضافة للحضارة الإنسانية.

تابع بعضنا بشغف الألعاب، وتابع عدد آخر، وبشغف لا يقل عن شغف المتابعين للألعاب، مواقف أجهزة الإعلام من هذه الدورة. لم تكن الإثارة التي صاحبت المتابعة لآراء الإعلاميين والمعلقين في دول بثقافات متباينة أقل من الإثارة التي صاحبت متابعة الناس، وبخاصة عشاق الرياضة، للألعاب.

ومع ذلك يجب أن نعترف في الوقت نفسه أن الدورة من يومها الأول إلى ليلتها الأخيرة لم تفلح في إثارة كثير من العرب، متفرجين كانوا أم إعلاميين، وإن نجحت في إثارة غبار كثيف في أجواء المنطقة أضاف تشوهاً إلى تشوه وعكس تدهوراً في حالة انكسار قائم وانتزع بذرة أمل ليغرس شجرة جديدة في غابة يأس.

قارنت بين صدى الألعاب في اليابان وصداها في دول الغرب وصداها في بلادنا، وبخاصة في مصر. وكانت فرصة ليزداد اقتناعي بأن البشرية تمشي فوق خطين متوازيين، يرفض كل خط منهما أن يلين أو يميل فيقترب من الخط الآخر. هناك بالتأكيد مؤشرات على أن دورة بكين دعمت إلى درجة قصوى مفهوم عولمة الرياضة وممارساتها. فالعالم، في أغلبه عاش على امتداد ما يزيد على أسبوعين، مشدوداً إلى شاشات التلفزيون وغيرها من أدوات الاتصال الحديثة.

انبهر بمايكل فيلبس وبولت وبعشرات السباحين والسباحات ولاعبي الجمباز ولاعباته، وانبهر بحفلتي الافتتاح والختام سعيداً بما حققه صاحبها المخرج الصيني كما لو كان هذا الإنجاز حقاً طبيعياً للبشرية وليس فقط للصين. لم تكن اللغة عائقاً أو دافعاً للمتابعة. ولم يكن المشاهد في حاجة لمن يشرح. وتأكدت ظاهرة انحسار أهمية مهنة التعليق على الألعاب الرياضية، وحلت محلها الصور والمعلومات الإلكترونية التي تظهر على الشاشة، وتعمقت معرفة المشاهد باللعبة وخلفياتها ولاعبيها. على هذا الخط، خط عولمة الرياضة، يمشي الإنسان المعاصر المتابع للرياضة والغارق فيها استمتاعاً وانبهاراً ملتزماً بالخط لا يخرج عنه، إلى حد أن بعض المحللين لفت النظر إلى أن عدداً متزايداً من المتفرجين صار يشجع الفريق أو اللاعب الأكفأ حتى وإن كان منافساً أو خصماً، ويسخر من فريقه أو لاعبه الوطني إن أهمل أو تراخى أو فسد.

هذا الإنسان نفسه، يمشي بقدم ثابتة وبالإصرار نفسه على طريق مواز لا يقترب من الآخر ولن يلتقي معه في الأجل المنظور. لقد رأينا جماهير المتفرجين الصينيين يهللون لمدربة الفريق الأمريكي للجمباز ويشجعونها على ما حققته من انتصارات للاعبات الأمريكيات. وسمعنا عن مشاهدين شجعوا فرقاً منافسة لأنها ضمت لاعباً أو أكثر من أصول ينتمي إليها المشاهدون. لقد تأكدت ظاهرة التمسك بالانتماء الوطني رغم الانتشار الكاسح لظاهرة اللاعب أو المدرب العابر للجنسيات. وتأكد ما هو أكثر أهمية. وتأكد أن “القومية” بمعنى الانتماءات الوطنية، عادت أقوى رغم مظاهر العولمة الرياضية وممارساتها. يكفي أن أنقل هنا بعض ما ورد في تقرير نشرته إحدى أكبر مؤسسات الفكر في أمريكا عن صدى أولمبياد بكين في أجهزة الإعلام اليابانية. يكاد التقرير مثل تقارير صحافية أخرى، يتهم اليابانيين صراحة بأنهم استسلموا لمشاعر الغيرة الشديدة وهم يتابعون الألعاب في الصين وعادوا إلى ما هو معروف عنهم تاريخياً من تطرف في المشاعر الوطنية.

كان لافتاً للنظر أن يقع ما يشبه الإجماع بين المعلقين اليابانيين على أن نجاح الدورة الأولمبية في الصين يعود إلى دكتاتورية الحكم واستبداده، وأن هذا النجاح نذير شؤم لأنه يعني أن الحكم سيشتد تطرفاً وابتعاداً عن الديمقراطية. وتنبأوا بأن الصين بعد الأولمبياد ستنتهي إلى ما انتهت إليه روسيا بعد أولمبياد موسكو، أي إلى الانهيار والانفراط. قالوا إن الحزب الشيوعي الصيني كان المهندس الحقيقي للأولمبياد، ومن دونه ما نجحت الألعاب. ويذكرون بأن الشعلة كانت تنتقل من مدينة في الصين إلى أخرى يحملها بنفسه السكرتير الإقليمي للحزب ليسلمها إلى سكرتير الحزب في المدينة الأخرى. يريد المعلقون اليابانيون الإيحاء بأن الصين استغلت الأولمبياد، كحدث رياضي، لتحقيق أهداف سياسية.

أستطيع تفهم غيرة اليابانيين واشتعال ثورتهم الوطنية من جديد بمناسبة أولمبياد الصين، فالتاريخ بين الشعبين لم يكن في أغلب مراحله ناصعاً أو طاهراً، ومع ذلك لم أتصور يوماً أنني سأقرأ لكاتب شهير في اليابان يقول إن الأولمبياد كان مزيفاً لأن الصين بالغت في استخدام إبداعات تكنولوجية لم تعرفها الرياضة أو العالم من قبل، أفهم أن يأتي هذا التعليق بقلم معلق عربي أو حتى أوروبي لم تصل تكنولوجيا الاتصالات في بلاده ما وصلت إليه في الصين، ولكن لا أفهم أن يصدر هذا التعليق من مفكر في دولة شمخت ذات يوم وتفاخرت على كل الأمم بالانجازات التكنولوجية. هنا يبدو المغزى واضحاً وإن أليماً. فاليابانيون بهذا الموقف من الأولمبياد يعبرون عن واقع يزداد تجذراً في المجتمع الياباني، أو لا يخفي أن في اليابان خوفاً شديداً من المستقبل، أو كما قال أحد المتخصصين الأمريكيين في الشأن الياباني، لقد فقدت اليابان بوصلة المستقبل، ولم تعد تعرف إلى أين يذهب بها قادتها السياسيون وجماعات رجال الأعمال فيها. ويضاعف من الشعور بهذا الواقع الصعود المتنامي، والواثق من خطواته أو قفزاته، للصين سياسة واقتصاداً.

من ناحية أخرى، وعلى العكس تقريباً من هذا المزاج الياباني القلق والمتوتر، كان المزاج الغربي، والأمريكي خاصة، موضوعياً ومعتدلاً. وأظن أن أهم ما لفت النظر في التعليقات الأمريكية كان الاتفاق على أن أولمبياد بكين أعلن وبشكل قاطع وحاسم نهاية “خرق الانكسار القومي” في الصين وضرورة الابتهاج بهذا التطور. ولا شك أن من حق الأمريكيين، والغربيين عموماً، أن يبتهجوا. فالانكسار الصيني على امتداد قرنين أو أكثر على أيدي الغرب ظل العامل الأخطر في العلاقات الصينية الغربية. ولا ينسى الغرب أن ثوار الصين استخدموا، وطنيين وشيوعيين، هذا الانكسار أكفأ استخدام ووظفوه أفضل توظيف لتطهير بلادهم من الفساد ولإعادة بناء الأمة.

وبينما يؤكد اليابانيون أن هذا الانكسار القومي مازال وسيبقى قائماً وفاعلاً، يميل أغلب المتخصصين في الغرب إلى الرأي القائل بأن الشعور بالانكسار يختفي ويحل محله شعور بالنهضة والتقدم بل والعظمة، ودليلهم أن خطاب رئيس الصين في افتتاح الأولمبياد تعمد الإشارة بوضوح إلى أن هذا الأولمبياد تتويج لمسيرة نهضة بدأت في عام ،1978 أي بدأت بالانفتاح الاقتصادي وبالرغبة في النظر إلى المستقبل والاندماج في العالم بدلاً من سياسات الانتقام والانكفاء على الذات.

يرددون في دول الغرب عبارة أن الصين أصبحت دولة عادية، مدللين على ذلك برفعها في الأولمبياد شعار “عالم واحد وحلم واحد”، بينما يؤكد اليابانيون أن الأولمبياد كان يجسد شعاراً مختلفاً كلية، بل لعله يجسد العكس تماماً. كان يجب أن يكون الشعار، حسب رأي اليابانيين، “فراش واحد وأحلام متعددة” بمعنى أن الصين ستظل تحلم بأشياء أخرى غير تلك التي يحلم بها العالم الغربي واليابان، وأنها تبطن غير ما تعلن.

هكذا اشتركت السياسة والاقتصاد والثقافة والتقدم التكنولوجي كعناصر تقييم لحدث تاريخي. وهو بالفعل حدث تاريخي لأسباب كثيرة تكرر ورودها في أجهزة الإعلام، وإن كان السبب الأهم في رأيي هو أن هذه الدورة أبرزت أجمل ما في الإنسان وفي الحضارة وفي العلم وفي الرياضة. لقد أعلت دورة بكين من شأن “الجمال” حين اختارت أن تكون القيم الجمالية أهم معيار للتفوق والتقدم.. رأينا الجمال في الأجسام.. ورأيناه في سلوك اللاعبين والحكام والمنظمين، ورأيناه في الشارع... كانت بكين أجمل والناس أجمل وخرج المشاهدون في معظم أنحاء الدنيا يحملون مشاعر أرقى وأجمل مما كانوا يحملون قبل انطلاق الألعاب.
"الخليج"

التعليقات