31/10/2010 - 11:02

أربعون "النقد الذاتي بعد الهزيمة"../ فيصل جلول

أربعون
احتل نابليون بونابرت مصر في العام 1798. دامت معركة الهرم ساعتين تمكن بعدها الفاتح الفرنسي من السيطرة على الجزء الأكبر والأهم من بلاد النيل. كان عدد سكان القاهرة حينذاك لا يتعدى المائتي ألف نسمة، في حين كان عدد جنود الحملة الفرنسية وضباطها يفوق ال 35 ألفاً مزودين بأهم أسلحة العصر آنذاك وخبراته القتالية.

في التحليل العسكري كان يمكن لبونابرت أن يحتل بجنوده الماهرين أية مدينة في العالم بحجم القاهرة وسكانها وقد فعل ذلك إذ اجتاح سويسرا قبل الحملة المصرية، واجتاح قبلها العديد من المدن الإيطالية مع فارق حاسم في تفسير نتائج الاحتلال. هناك اعتبر المعنيون أن هزيمتهم عسكرية وقد عملوا من بعد على محو آثارها، وهنا اعتبر بونابرت أن الهزيمة حضارية وليست عسكرية، وبالتالي لا جدوى من البحث عن نصر عسكري ما دام حالهم ليس كحال الغرب حضارياً، وقد عمل جيش من المثقفين الفرنسيين اصطحبه إلى مصر على تثبيت هذا الاستنتاج في وعي مصريي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

الواضح أن التفسير “الحضاري” للحملة العسكرية الفرنسية على مصر ما زال سائداً حتى اليوم لدى نخب عربية حداثية، بل إن هذا التفسير صار قاعدة للنظر في شؤوننا المختلفة وبالأخص في صراعنا مع “إسرائيل”: نحن نهزم لأننا لسنا كالغرب ولم نبلغ مستوياته الحضارية. “إسرائيل” تنتصر لأن حالها كحال الغرب، ما يعني أن المشكلة عندنا وليست عند الغرب. وبما أنها مشكلة حضارية وليست عسكرية فهذا يعني أن مصيرنا سيظل محجوزاً ومعلقاً، ذلك بأننا لسنا كالغرب ولن نصبح غربيين أو كالغربيين لسببين حاسمين: الأول أن الغرب لا مصلحة له في أن نكون مثله، وإلا لما عاد غرباً، والثانية أننا ننتمي إلى حضارة أخرى يصعب حلها وتحويل مكوناتها إلى مكونات غربية.

يعبّر كتاب صادق جلال العظم “النقد الذاتي بعد الهزيمة” والصادر قبل أربعين عاماً عن هذه الحال إذ تستمد طروحاته من ثقافة سياسية مازالت مبنية على خلاصات حملة بونابرت حول التقدم والتخلف. حول النصر العسكري “الحضاري” والهزيمة العسكرية “الحضارية”.

كان يمكن لهذا الكتاب أن يكون شاهداً على ثقافة مرحلة ما في حياتنا السياسية، وأن يكون محاولة من بين محاولات أخرى مختلفة لتفسير هزيمة يونيو/ حزيران 1967 محصورة في زمانها لو لم يعمد الكاتب إلى إعادة نشر كتابه في الذكرى الأربعين لتلك الحرب، معتبراً أن استنتاجاته في ذلك العام مازالت صحيحة وأننا مازلنا على حالنا ومازالت “إسرائيل” على حالها.

لم يرد هذا التأكيد في طيات الكتاب فحسب، وإنما أيضاً في مقابلة صحافية في 15/8/2007 لمناسبة صدور الطبعة الجديدة من كتابه، إذ يقول “ما زلنا نعاني نتائج الهزيمة، ولم نر حتى الآن أي معالجة حقيقية وجدّية للأسباب العميقة لها. ما أراه هو ضرورة إصلاح البنى الاجتماعية والتعليمية والتربوية وليس الإصلاح العسكري هو المطلوب”. هكذا يرى العظم ما رآه الفاتح الفرنسي لمصر في القرن التاسع عشر: الإصلاح العسكري غير مجد. الإصلاح “الحضاري” هو الأصل. الهزيمة العسكرية ليست الأصل. الهزيمة “الحضارية” هي الأصل.

ويتوغل المؤلف في استنتاجه من دون وجل “.. الكتاب هو أول عمل يستخدم تعبير الهزيمة بدل النكسة، وإن كنت أرى أن مصطلح الهزيمة غير كاف للتعبير عما حدث خلال عام ،1967 لأن ما حدث هو انهيار فاق كل التوقعات”. هنا يتوجب لفت الانتباه إلى أن وصف “النكسة” ينطوي على إرادة قتال وتعبئة تمثلت في حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام ،1973 في حين يفترض وصف الهزيمة استدعاء تغيير بنيوي أو إصلاح “حضاري” على طريق الغرب وهديه، والظاهر أن المؤلف إذ يؤكد مجدداً ما قاله في هذا الصدد قبل أربعين عاماً، مازال يهمل حقيقة هرمية الحضارات التي تأسست مع الحملة المصرية والتي تحفظ بالدم والنار الفروقات “الحضارية” المزعومة بين العرب والغرب وتسعى إلى تأبيدها.

هكذا كان من الصعب على الدكتور العظم أن يرى هزيمة “إسرائيل” في جنوب لبنان في العام 2000 بعين مختلفة، وهي هزيمة عسكرية واضحة وجلية لم يتمكن خلالها المحتل من فرض أي من شروطه “الحضارية” على الطرف المنتصر وكان من الصعب أيضاً أن يرى هزيمة أخرى العام الماضي في جنوب لبنان ربما تفوق الأولى معنى ومبنى.

أغلب الظن أن إعادة نشر “النقد الذاتي بعد الهزيمة”، من دون الأخذ بعين الاعتبار ما جرى في لبنان وهو ما يحمله العدو والعالم بأسره على محمل الجد، بل يرى “إسرائيليون” أنه قضية حياة أو موت بالنسبة لهم، تعني في ما تعنيه أن الحرب هي استمرار للحضارة بوسائل أخرى، وليست كما وصفها كلازوفيتز مؤسس علم الحرب بأنها استمرار للسياسة بوسائل أخرى.

بين هزيمة مصر في العام 1798 وبين هزيمتها عام 1967 أكثر من قرن وثلاثة أرباع القرن وبين الأولى وهزيمة “إسرائيل” في حرب تشرين 1973 ثم في لبنان 2000و 2006 أكثر من قرنين ما زال خلالها بعضنا نحن العرب يعتبر أن الحرب استمرار للحضارة بوسائل أخرى، كما أوحى بونابرت آنذاك، مع فارق أن عدداً من مثقفي مصر في حينه كان يملك تفسيراً مضاداً وفعالاً لدعاوى الفاتح أما نحن فنحتفل بأربعين “النقد الذاتي”... ببلادة تفوق الوصف.
"الخليج"

التعليقات