31/10/2010 - 11:02

أسئلة الخراب العراقي المؤجلة../ أحمد جابر*

أسئلة الخراب العراقي المؤجلة../ أحمد جابر*
يدفع المشهد العراقي الدامي نحو مواقف من السخرية المرة. مصدر ذلك تصريحات وسياسات الأطراف المتصارعة فوق مسرح السياسة العراقية، التي ينسب كل فريق فيها لنفسه، امتلاك ناصية الحقيقة، غير المنقوصة، والتي يجيز بموجبها لحراكه العام، كل الممارسات العملانية، العقلاني منها وغير العقلاني... وسط ذلك، تضيع المسؤوليات عن المآل العراقي، ويختفي الفاعلون، خلف براقع شعاراتهم المدمرة.

ثمة مسؤولية بدئية، عن مسيرة الخراب العراقية الحالية، هي مسؤولية الاحتلال الأميركي، وكل مباشرة للوضع العراقي تقتضي الانطلاق «المنطقي» من هذه النقطة، ومن ثم تكر سبحة التداعيات... والمزاعم والادعاءات المتبادلة. للتذكير، وعلى سبيل التكرار، جرى اقتحام العراق على خلفية «تصفية احتمال التهديد بأسلحة الدمار الشامل»، ما تلا ذلك كان عملية تدمير شاملة ممنهجة للبنيان العراقي، فصولها المتوالية بادية للعيان.

كان الجهل الأميركي بالعراق (وما زال) شاملاً، وعلى خلفية الجهل هذه، حيكت أكذوبة الديموقراطية الخلاصية الأميركية للمنطقة عموماً، ومن البوابة العراقية تحديداً. كان من «لزوميات الديموقراطية» الوافدة، حل الجيش، وتفكيك جهاز الدولة، وتقريب فئات عراقية وإقصاء أخرى... ثم الإكثار من الكلام عن «العراق الجديد»، من دون ارتكاز على مشروع سياسي واضح، ومن دون تقصد لأهداف سياسية محددة المعالم، تؤطرها مهل زمنية مشروطة بإنجازات سياسية ملموسة. «إنجاز» الاحتلال الأميركي، المدعوم دولياً، تمثل في إطلاق مكونات البنية الاجتماعية الأهلية العراقية، وفتح المجال أمام تعبيراتها التفكيكية، وذلك في دحض واضح لكل مزاعم الوحدة السابقة المدعاة، وفي تسفيه فوري لنظرية إعادة بعث «الوحدة العراقية» وفق دفتر الشروط الاميركي العتيد!! أريد للعراق ان يكون نموذجاً لما يجب ان تكون عليه بلدان عربية اخرى... صار البلد العربي العريق هذا، أمثولة حية لما يجب اجتنابه، ومصيراً يجب ان تنجو منه المصائر العربية الأخرى.

لقد سقطت، في حمأة الصراع العراقي، سياسات وأوهام، ترتبت عليها أثمان، وما زالت مدعاة وسبباً لخراب متصاعد، من شأنه ان يضع مصير الوحدة الجغرافية العراقية في «أنبوب اختبار» الاستعصاء على التفكيك... إزاء ذلك، لا بديل من السؤال: من المسؤول؟ وإذا كان هذا معروفاً، فما السبيل الى إحضاره الى محاكمة تقضي بأن يتحمل وزر أخطائه وخطاياه؟ هذا في جانب المسؤولية الخارجية التي يكملها جانب المسؤوليات الداخلية العراقية، وهنا ايضاً سقطت مقولات وانتكست مزاعم من حق «المتابع» ان يسأل عن الحفاوة «الفكرية» التي استقبل بها رهط من العراقيين اجتياح بلدهم!! مثلما من واجبه ان يستفهم عن سياسات تسويغ التحالف مع الاحتلال، بدعاوى «إزالة إجحاف تاريخي لحق بطائفة بعينها» أو باستسهال «استخدام» الهراوة الخارجية، لتحطيم الديكتاتورية الداخلية... استسهال يتخيل ان «الدولي» في سياساته، يقدم خدمات سياسية بالمجان... هذا من دون ان تكون له مطالبه الخاصة، أو حساباته المدققة لأصول الربح ولاحتمالات الخسارة. هنا ايضاً، لا مفر من الجهر بالقول: من المسؤول؟ وكيف يحاسب على ما اقترفت «مخيلته من أفكار»؟!

لقد أوصلت الحال العراقية الجميع الى ما يشبه الخلاصات السياسية والمجتمعية، الأولية، التي تجدر ملامستها بكثير من الصبر، وبكثير من الدقة والحذر، وذلك على سبيل التمهيد لبعض من الدروس المستفادة اللاحقة، التي قد تتعارض، أو تتناقض، مع الكثير من المقولات الشائعة، والمشاعة، حول «النجدة الديموقراطية الغربية» وحول الإفادة من موجة العولمة، والانضمام، من دون تدقيق، إلى مدّ «الأمركة»، وحول نقل ثقل جسم الصراع الى قطبه الخارجي من دون التفات الى مقدمات العامل الداخلي، الذي يشكل الحاضنة الطبيعية لكل دعم من خارج أطره المعروفة.

من جهة أخرى، لن تنجو «مصطلحات محلية» أخرى من التدقيق والمساءلة، من مثل «الوحدة العربية... والمصير العربي المشترك...»، ومن قبيل الوحدة الوطنية الناجزة لكل بلد، واستقرار العروبة كبطاقة تعريف محلية وكجواز مرور عابر نحو المشترك العربي والوحدة المجتمعية واستعصائها على الأصلي الموروث وتجاوزها للماضي الكامن في بنيانها. لقد قدم المثل العراقي في هذه المـــــجالات كافة عوامل فضح الادعاءات «الغربية»، مثلما قدم عناصر تعرية الأوهام العربية في بعديها: الوطني الداخلي والعربي الأشمل، مما بات يفرض ضرورة تفكيك المصطلحات والرؤى، في ضوء الوقائع التي يكذّب نصها الواضح كل اجتهاد مهما بلغت أسانيد هذا الاجتهاد من «الرسوخ» الفـــــــــكري والفقهي، ورغماً عن تطريزها بخيوط من القداسة الزمنية أو غير الزمنية!

لقد اريد للاحتلال «الدولي» للعراق أن يكون مثلاً، لكنه صار مأزقاً يحيق بكل اللاعبين فوق خريطته السياسية والاجتماعية والجغرافية. لم يقيض للإدارة الأميركية أن تثأر «لهزيمتها في نيويورك»، فها هي أمام احتمال فشل آخر. ولم يقدر «للنخبة الديموقراطية» الجديدة في العراق أن تستنبت كتلتها المجتمعية اللازمة لارساء «هيمنتها» بالاستناد الى ثقل الآلة العسكرية الخارجية.

أبعد من ذلك، أطلقت الخطة الهجومية الوافدة نقائضها المحلية المتعددة، وصار من «الحلم» استعادة شيء من «المدني» الذي تأتى للعراق، على رغم ظروفه السابقة المعروفة، بعد أن طغى الأهلي والعشائري والطائفي - المذهبي فأطاح كل الإرهاصات المجتمعية المدنية على ضآلتها. في امتداد ذلك، اتيح (وقد يتاح أكثر) للخطابات الدوغمائية القومية أن تتنفس برئات أوسع مثلما أفسح في المجال أمام أنظمة انقضى زمانها السياسي لتطيل في عمر «شرعياتها» انطلاقاً من صورة الخراب التي أتاحها المشهد العراقي والخوف من احتمالات تمددها نحو بنى عربية أخرى.

يمكن القول إن «المواطن العربي» بات مسكوناً اليوم بهاجس السلامة الشخصية أولاً، لأن الديموقراطية «ترف» لا تستطيع الركون إليه أعمار الناس القصيرة... وعليه، يمكن تأجيل كل الأسئلة المتعلقة بشروط «تطوير» هذه السلامة، وتأمين اطر «تفتحها الإنساني»، لأن كل ذلك ينهض على قاعدة الاستمرار في الوجود المادي أولاً!

وفقاً لهذه الصورة المأسوية، كيف لنا أن نسمي الأشياء باسمائها؟ وكيف ننادي «منتحلي الصفة» بصفاتهم الحقيقية؟ لا مناص، واقعياً، من القول إن الاحتلال الأميركي، المغطى دولياً، سبب أصلي واصل لدمار العراق وخرابه، وهما أمران قد لا يستدركان بمفاعيلهما الكارثية على المصير العراقي، في مدى طويل غير منظور، كذلك لا بد من رفع الصوت في وجه «المقاومة التدميرية» التي تكمل الجانب الآخر من العملية التي باشرها الاحتلال. لا ديموقراطية على طريقة المعلبات. ولا بناء للعراق الجديد، من خلال تقويض كل ما بناه، ولا استعادة للعراق «السليب» من خلال تشظي كل مكوناته... الارجح، ان الطموح الى بناء عراق آخر، ينهض على «عقل العالم» وعلى عقلانية الداخل، وعلى استنارة كل فعل تحريري ونهضويته وربطه بكل ما هو مشرق ومضيء في تراث العقلانية الانسانية، ووصله بكل ما هو نهضوي ومستنير في التراثين العربي والاسلامي، أي ما يمت الى حضارة «ما بين النهرين» بوشائج عميقة. وما سوى ذلك ليس أقل من تفريط بالوطن العراقي، من خلال «فتوى بديموقراطية أميركا» أو فتوى بتحريم النظر الى وجه الشمس... لأنها أنثى!! ودائماً دون ان يدفع أحد الثمن.

"الحياة"

التعليقات