فيما تبدو سوريا منخرطة في مفاوضات جدية مع إسرائيل عبر تركيا، والعراق في مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة بعلم إيران، و«حماس» في محادثات غير مباشرة مع إسرائيل عبر مصر، وحزب اللّه في اتصالات كواليسيّة مع إسرائيل عبر ألمانيا لتحرير الأسرى...
وفي توقيت لافت أعقب انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، بعد نحو ستة أشهر من فراغ سدة الرئاسة وانزلاق لبنان إلى فصل دامٍ آخر من أزمته المزمنة، يقف الأمين العام لحزب اللّه وقائد المقاومة السيد حسن نصر الله ليعلن، في الذكرى الثامنة لتحرير البلاد من الاحتلال الإسرائيلي، تفعيل استراتيجية التحرير على مستوى المنطقة كلها، من لبنان إلى فلسطين وصولاً إلى العراق.
موقف السيد نصر الله يبدو، ظاهراً، كأنه متناقض مع تطورات لافتة في المنطقة. فمن دوحة قطر وصولاً إلى بيروت بدا كأن العالم، العربي والإسلامي والأوسع، قد تصالحت دوله وأطرافه المتنازعة وتوصلت إلى صيغة توافقية جرى تسويقها وتعميمها على الأطراف اللبنانيين المتصارعين. إذ بسحر ساحر تراجع هؤلاء، ولا سيما أطراف قوى 14 آذار الحاكمة، عن مواقف سلبية متشنّجة تمسّكوا بها طيلة سنة ونصف سنة، ووافقوا على انتخاب عسكري رئيساً للجمهورية، وتأليف حكومة وحدة وطنية يكون لقوى المعارضة فيها ثلث معطّل أو ضامن، واعتماد القضاء دائرةً في قانون الانتخابات المقبلة، والامتناع عن تضمين وثيقة المصالحة والوفاق أي إشارة سلبية إلى سلاح المقاومة.
في تل أبيب، أبلغ مسؤول ملف الأسرى الإسرائيلي عوفر ديكل إلى وسيط ألماني يعمل مستشاراً لدى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون موافقة ايهود اولمرت على إطلاق سراح الأسرى اللبنانيين، وفي مقدّمتهم عميدهم سمير القنطار، إضافةً إلى الموافقة على صفقة متكاملة يجري بموجبها الإفراج عن الجندي الإسرائيلي الأسير لدى حركة «حماس» جلعاد شاليط مقابل الإفراج عن نواب الحركة وعدد كبير من الأسرى الفلسطينيين.
وفي القاهرة، أكد مصدر أمني مصري رفيع المستوى لوكالة أبناء الشرق الأوسط أنّ هناك اتفاقاً تامّاً بين الفلسطينيين والإيرانيين على الرؤية المصرية للتهدئة في قطاع غزة. وأعرب المصدر عن أمله في فتح المعابر مع إسرائيل وتبادل الأسرى قريباً.
في أجواء انفراجات عربية وإقليمية، يقف الأمين العام لحزب الله ليتّخذ موقفين لافتين: مدّ يد الوفاق والتعاون إلى سعد الحريري بما هو الزعيم السني الأبرز في قوى الموالاة من جهة، ومن جهة أخرى، داعياً إلى تبنّي استراتيجية للتحرير على مستوى المنطقة، محرّضاً العراقيين على «اعتماد استراتيجية التحرير لدى المقاومة التي اعتمدها لبنان وفلسطين»، مقدّماً حرب تموز 2006 نموذجاً للإستراتيجية الدفاعية».
أكثر من ذلك، جهر السيد نصر اللّه بدعمه السافر، أقوى من أي وقت مضى، للمقاومة العراقية بقوله: «نحن في حزب الله من الطبيعي أن ننحاز إلى تيار المقاومة في العراق من موقع إيماني وعقائدي وفكري وسياسي وواقعي وتجريبي أيضاً». لماذا الآن؟ لأنّ «مؤيّدي العملية السياسية أخذوا وقتهم ووصلوا الآن إلى الامتحان العسير والصعب، والفيصل هو الموقف من المعاهدات والاتفاقات التي تريد أميركا أن تفرضها على العراق وشعبه...».
موقف نصر اللّه الصارم هذا، هل يتعارض مع موقف حكومة إيران؟ إنّ طهران لا تقف، ظاهراً على الأقل، موقفاً سلبياً من حكومة نوري المالكي الساعية إلى تمرير معاهدة طويلة الأمد مع الولايات المتحدة تنظّم أوضاع قواتها التي يُراد لها أن تبقى في العراق. فهل طهران موافقة على سياسة حكومة المالكي أم تعارضها ضمناً من خلال دعمها سراً لمختلف تنظيمات المقاومة العراقية بالمال والسلاح والعتاد؟
هل فترة السماح التي منحتها طهران للمالكي وفريقه تهدف إلى عدم استفزاز واشنطن، وبالتالي تقطيع الوقت لتفادي الاصطدام بها عسكرياً، وإنّ مدتها تنتهي بانتهاء ولاية جورج بوش في منتصف كانون الثاني 2009؟
ثم، هل يتعارض موقف نصر الله مع موقف حكومة سوريا المنخرطة في مفاوضات مع إسرائيل عبر تركيا؟ ليس سراً أنّ حزب الله متحالف مع المقاومة الفلسطينية التي تقيم قياداتها الراديكالية في دمشق، وأنّه يقوم بدعم وحداتها القتالية العاملة في الأراضي المحتلة، ولا سيما في قطاع غزة. فهل تشعر دمشق بحرج في مفاوضاتها مع إسرائيل عندما يدعو قائد المقاومة اللبنانية إلى تفعيل المقاومة ضدها وضد الولايات المتحدة على مستوى المنطقة كلها؟
أم أنّ دمشق تحاول، من خلال ولوج باب المفاوضات، الإيحاء لواشنطن بأنها مستعدة للتفاهم معها على مستوى المنطقة لتفادي حرب مدمرة قد تشنها الولايات المتحدة وإسرائيل ضد إيران وربما ضد سوريا أيضاً؟
صحيح أنّ حزب اللّه متحالف مع سوريا وإيران وينسّق سياسته معهما، لكنه حريص أيضاً على أن يبقى مستقلاً وغير تابع لأي منهما. ولا شك في أن دمشق وطهران تقيمان وزناً كبيراً لحزب الله وللمقاومة وقائدها، وتستفيدان سياسياً واستراتيجياً وإعلامياً من مكانة وسمعة وأداء هؤلاء. فهل يعقل، والحال هذه، أن يقول نصر الله ما قاله عن استراتيجية التحرير على مستوى المنطقة لولا وثوقه بأن دمشق وطهران لا تمانعان في ذلك، بل ربما لهما مصلحة في تعميم الدعوة إلى اعتمادها وتفعيلها؟ أم هل تراه كان يحذّر سوريا وإيران مداورةً لئلا يجد نفسه مضطراً يوماً ما إلى تحذيرهما مباشرةً؟
الحقيقة أنّ السيد نصر الله لا يعتقد بأن دور المقاومة ينتهي بإخراج إسرائيل مما تبقّى من أراضٍ لبنانية محتلة (مزارع شبعا)، ذلك أنّ الكيان الصهيوني الاستيطاني، بمجرد وجوده، يمثّل عدواناً مستمراً على الوجود العربي، وأنّه لن يكفّ عن التوسع والعدوان، وأنّ للولايات المتحدة مشروعاً إمبراطورياً للتسلّط والهيمنة يتكامل مع المشروع الصهيوني. كل ذلك يدفع نصر الله وحزبه المقاوم إلى الاستمرار في الاضطلاع بمهمة المقاومة والتحرير، أو دعم الناهضين بها على مختلف جبهات المواجهة مع قوى الاستعمار الأميركي ـ الصهيوني.
ولعلّ تعثّر إدارة بوش في أفغانستان والعراق وأخيراً في لبنان، كما تعثّر إسرائيل في قطاع غزة، وإعلان اولمرت في الكنيست أن «التأكيد الدولي لحلّ الدولتين للشعبين يتراجع مع مرور الزمن وأن المجتمع الدولي أخذ يؤيد حلاً تكون بموجبه دولة واحدة لجميع مواطنيها»، وإعلان الرئيس الإيراني خلال لقائه في طهران وزير الدفاع السوري «إنه على ثقة بأن القيادة السورية لن تتخلى عن الخط الأمامي حتى القضاء تماماً على تهديدات الكيان الصهيوني»، يشير إلى احتمال فشل المفاوضات بين سوريا وإسرائيل... كل ذلك شجّع ويشجع قائد المقاومة اللبنانية على حسم موقفه باتّجاه تفعيل المقاومة على مستوى المنطقة ضدّ المشروع الأميركي ــ الصهيوني.
من مفارقات السياسة والصراع في عالمنا المعاصر أن يترافق، أو يكاد، انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً لجمهورية لبنان وسط احتفالية دولية توافقية لافتة مع انتداب حسن نصر الله نفسه، أو ما يشبه ذلك، قائداً لحركة المقاومة والتحرير في المشرق العربي وسط احتفالية شعبية تعبوية مدوّية.
الصراع مستمرّ... ومتفاقم.
"الأخبار"
التعليقات