31/10/2010 - 11:02

ارفعوا ايديكم عن الصحافيين والكتاب../ ناصر السهلي*

ارفعوا ايديكم عن الصحافيين والكتاب../ ناصر السهلي*
من السخرية بمكان أن تذهب الساحة الفلسطينية، بكل ما تحمله من آلام التشظي والانقسام وسياسة الكيدية البينية، إلى ممارسات لا يمكن وصفها إلا بالمشينة في تلاقيها مع ممارسات دولة الاحتلال.. لقد ناقشنا مطولا هذا العري والانفصام الذي أصاب الحركة الوطنية الفلسطينية التي تحولت إلى ما يشبه البطة العرجاء في عدم وضوح الرؤية.. فلا هي عادت حركة تحرر وطني (بكل ما تحمله هذه من مسؤوليات تاريخية) ولا هي دولة حقيقية وإن كانت الادعاءات على غير ما هو الواقع..

في حالة التشابه التي تعد عارا حقيقيا دفع ويدفع الزملاء الصحافيين والكتاب والاعلاميين ثمنا فادحا، على الصعيد الشخصي والمهني، وعلى مدى سنوات طويلة من الاختلاف السياسي بين تيارات متعددة، أبرزها وأكثرها وضوحا ما وصلت إليه حالة "فتح" و"حماس".. ففي الوقت الذي لم تتوقف فيه دولة الاحتلال يوما عن ممارسات بشعة تصل حد التصفية الجسدية بحق الاعلاميين الفلسطينيين، هذا عدا المضايقات والاعتداءات المقصودة أكان على أيدي قطعان المستوطنيين أو جيش الاحتلال، فإننا وبكل أسى لا نفهم هذا التقاطع الحاصل بأيد فلسطينية بحق من إختاروا مهنة الاعلام والصحافة ورفضهم التحول الى أدوات دعائية في صفوف حزبية وفصائلية وسلطوية..

الفرق بيّن، ففي حالة الاحتلال لا يتردد في الاعتقال ولا في الاستهداف لتكميم الافواه وحجب الحقيقة وهي الممارسات التي عملت الحركة الوطنية الفلسطينية على فضحها ومناشدة العالم بمنظماته المختلفة التدخل لحماية هؤلاء من بطش دولة الاحتلال.. لكن أن تخرج علينا تقارير، كما هو تقرير المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الاعلامية "مدى"، عن الانتهاكات التي يتعرض لها الزملاء في كل من غزة والضفة يجعلنا نتوقف أمام هذه الحالة باعتبارها ممارسة صارت ممنهجة واستخباراتية بامتياز..

بمعنى آخر هي ممارسة لا ترقى ولا حتى لمفهوم واحد من مفاهيم المهنية التي يجب احترامها مهما اختلف الساسة على سياستهم.. والفرق الذي يكاد يضيع بين التغني بحرية التعبير والحريات العامة التي يصونها الدستور والقانون أضحت لعبة مضحكة مبكية..

نفهم أن الاحتلال لا يكون احتلالا ما لم يكن كما عرفناه في أفظع ألوانه التاريخية التي عايشها الشعب الفلسطيني.. لكن أي تفسير غير التفسير المخابراتي وفرض الرأي الواحد يمكن أن يبرر ليس فقط تكميم الافواه والمضايقات التي يتعرض لها هؤلاء الذين اختاروا العمل بمهنية، بل في أحيان كثيرة يجري الاستهزاء بهذه المهنة على لسان السياسي الذي يريد للاعلامي والكاتب والصحفي أن يكون متطوعا في بروباغندا قذرة تذكرنا بغياب الوعب او تغييبه عن وعي وقصد لمهنة الصحفي في الميدان أو الاستديو..

في فلسطين وخارجها كان الصحفي والكاتب والاعلامي الفلسطيني صاحب دور مميز في المهنية وتجذير الوعي الجمعي العربي، ولا يفهم المغزى من تقزيم دوره على أرض وطنه، في حين المنطق يقول نحن بحاجة لكل فكر وجهد في الطريق نحو الحرية.. ويبدو أن هذه الحرية باتت حكرا على أصحاب النفوذ والكراسي وليست حرية بالمعنى التي نظر لها ولسنوات أصحاب المشاريع المتصارعة على "تحرير فلسطين"..

يُراد وبكل بساطة تعزيز جيش المتملقين في المعسكرات المتخاصمة من خلال إظهار الولاء وتقديم الطاعة بدروس من الردح وتخطئة طرف لمصلحة آخر.. أو دفع هؤلاء الصحفيين والكتاب والاعلاميين إلى ممارسة الرقابة الذاتية، وبالتالي تحول هؤلاء الى مجموعة مروضة ومدجنة تخدم أجندات لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بمهنيتها وحريتها..

أمامنا حالات كثيرة جرى سردها والحديث عنها تفصيلا، وأُعلن عنها بكل بساطة من خلال المنع والحجب والاستهداف والاستدعاءات الامنية، وهي تُذكر كثيرا بأنظمة قمعية تعيدنا الى المربع الأول في الاشكالية الدائمة بين علاقة الاعلامي بالسياسي.. والنماذج القريبة في المحيط العربي تقدم لنا الأمثلة الكثيرة عن دوران اعلامي في فلك السياسي باعتياش الأول على ما يقدمه الثاني من مغريات مادية بفتح قنوات وأدوات دعائية تخدم ماكينة التضليل التي ترفع من قيمة هذا وذاك الى مصافي الانبياء والقديسين والتعمية على كل الاخطاء الممارسة باسم "الشعب والوطن".. وتوزيع شهادات بالخيانة والوطنية على مقاسات ومعايير يضعها المتسلط والمتحكم بالقرار هنا وهناك..

إنتقال الممارسات المذكورة الى فلسطين، ومنذ سنوات الصراع السلطوي، يحمل الكثير من السخرية على واقع لم يكن ليكون لو أن السياسي التزم حدود مهمته في البقاء ضمن برنامج "التحرر الوطني".. لكن يراد للاعلامي والصحفي أن يكون طرفا يغلب هذا على ذاك، وإلا فالاستهداف وتكميم الافواه من الادوات التي تمنع الزملاء من التعاطي بالقضايا الوطنية التي تصبح حكرا على مجموعة موالية للبرامج التنظيمية.. من المستحسن أن لا ندخل بجدال عقيم عن الفعل الإعلامي الرسمي للمتخاصمين والمتحول إلى أدوات تزيد من الترقيع وتفتح شهية الردح والشماتة في كثير من أوجهها المطلة على الناس..

في أواسط التسعينات، بعد نشوة أوسلو، كتبت في السفير البيروتية "المثقف الفلسطيني على الصراط المستقيم للسلطة".. وعلاقة المثقف بالسلطة تتسم بحالة خاصة من التنافر والتقارب.. تصطبغ اليوم بمحفزات سلطوية، كما كانت في بداية "تكون الكيان"..

هي أزمة مستمرة منذ أن كانت الثورة حقيقة.. لكنها باتت اليوم أكثر فجاجة ووضوحا في هذا الفرز والاصطفاف الوهمي المُدعم أصلا بتوجهات إقليمية ودولية في حرب خفية وعلنية على عقل الانسان العربي عموما والفلسطيني منه خصوصا.. وقد لا يكون غريبا في هذه المعمعة أن ينعكس هذا الجو على قضية تجنب بعض الصحف ووسائل الاعلام نشر بعض الاخبار والكتابات إنطلاقا من سياسة "الحرص على مشاعر" السياسي المتسلط.. بغض النظر عن هالة القدسية التي يدعيها هؤلاء عن حرية الرأي والتعبير..وشفافية الخبر..

في الأزمة الطاحنة بين المشاريع يجد الصحفي والكاتب والاعلامي المنسجم مع نفسه أن عملية البحث وتقديم الحقائق تعوقها لغة الاقصاء وعدم التسامح ومحاولة الزج به في معسكرات تحول مهنته إلى مجرد مهنة تردد البيان والتوجه الرسمي أو الفصائلي.. والكارثة أن كل من هؤلاء يعتبر نفسه هو الحقيقة وصانعها، والبقية مجرد موظفين أو توابع تحت طائلة ما تتناقله المنظمات المعنية بحرية التعبير والحرية الاعلامية.. بل يمكنني الذهاب أبعد في القول بأنه ثمة تطاحن بين الاتحادات والمنظمات الصحفية يحاول بعضها ممارسة الدور السلطوي في اقصاء الاخر عوضا عن الاتفاق على هيكلية معينة تحفظ كرامة وشرف وآدمية من يمارس دوره عبر القلم والفكر.. وأولا وأخيرا أخلاقية وشرف هذه المهنة المعرض أصحابها دوما لانتهاكات لا يمكن السكوت عنها، وعدم السكوت لا يتطلب الاحتماء بالقوي لا في غزة ولا في الضفة..

نقول هذا الكلام ونحن ندرك كم من الجهد والعمل والفكر نحتاج على طريق دمقرطة ومأسسة العلاقات على الساحة الفلسطينية.. ونقوله رغم معرفتنا بالدور القذر الذي يلعبه الاحتلال في تعميق هذا المشهد التراجيدي.. لكن الأهم هو البحث عن الدور الذاتي في رفض كل ما هو شائن بدءا من المضايقات والتحقير والتهديد مرورا بالاعتقالات والاعتداءات وإعاقة حرية العمل..

للموضوع توابع وبقية.. لكن على أقله مطلوب أن يسمع هؤلاء الذين يقولون بالنقاء الثوري والطهارة الوطنية بأنه ليست بطهارة ولا ثورية هي تلك الممارسات المشينة الممتدة من المنع والرقابة والاحتجاز والتهديد بالقتل ضد من يحمل قلما وفكرا.. مهما اختلفنا مع هؤلاء!
* كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في الدانمارك

التعليقات