31/10/2010 - 11:02

استخدام اليمين لكارل ماركس../ محمد سيد رصاص*

استخدام اليمين لكارل ماركس../ محمد سيد رصاص*
قد تكون عبارة ماكس فيبر (توفي عام1920) «إن الفكر الأوروبي هو منذ عام 1848 إلى اليوم، حوار مع ماركس، فهو إما معه أو ضده» صحيحة في وصف الحركة العامة للتاريخ الغربي الحديث. إلا أنها لا تقبض تماماً على الواقع الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى، حيث شهدنا منذ العشرينيات، ابتعاداً عن النزعة الخنادقية بين اليمين واليسار في النظر إلى ما قدمه كارل ماركس، هذا إذا لم نقل إنه كما كانت هناك نظرات مختلفة بين اليساريين الماركسيين إلى ماركس، امتدت خريطتها بدءاً من أوكتوبر 1917 بين لينين وستالين من جهة، إلى كاوتسكي وبرنشتاين ولوكاتش و«مدرسة فرانكفورت» من جهة أخرى، فإن اليمين كانت له أيضاً نظرات جديدة إلى ماركس منذئذ.

أتى هذا من إشكالية التحولات البنيوية التي حدثت في النظام الرأسمالي، التي نقلته من الشكل الكلاسيكي الذي كان عليه في القرنين الثامن والتاسع عشر إلى تشكّل جديد، أصبح فيه رأس المال المادّي بارزاً في العملية الاقتصادية على ضفتي الأطلسي، ولم تعد فيه السلعة هي أساس العملية الرأسمالية، لتكون هي «الجوهر» كما كان الاقتصاديون الكلاسيكيون البورجوازيون يرون منذ كتاب «ثروة الأمم» لآدم سميث الصادر عام 1776 فيما «التداول» و«التراكم النقدي» مجرد أعراض لذلك الجوهر.

انقسم اقتصاديّو اليمين حيال ذلك: استمر جون مينارد كينز (1883-1946) على الموقف الكلاسيكي، الذي يعتبر الاقتصاد الحقيقي في «السلعة» وحركتها، معتبراً أن «النقد والأرصدة» مجرد اقتصاد رمزي يعبّر عن «الحقيقي»، أو هو مجرد مرآة له، إذا لم يكن تعبيراً افتراضياً عنه.

في الجهة الأخرى المضادة يمينياً، رأى جوزف شومبيتر (1883-1950) أن قراءته (التي أسست لليمين الليبرالي الجديد المعادي للكينزية وصولاً إلى ميلتون فريدمان الذي وضع السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة من إدارة ريغان وصولاً لبوش الابن)، تعود إلى ماركس.

ويقول شومبتير «وفي معالجتنا للرأسمالية، إنما نعالج عملية متطورة. وقد يبدو من الغريب كل الغرابة أن يعجز إنسان عن رؤية هذه الحقيقة الواضحة التي أكّدها ماركس منذ أمد طويل. فالرأسمالية في طبيعتها والحالة هذه، شكل أو أسلوب من أشكال التحول الاقتصادي وأساليبه. ولا يمكن أن تكون جامدة».

من خلال هذا الرأي المأخوذ من ماركس، والمتناقض مع الاقتصاد السياسي البورجوازي الكلاسيكي الذي كان يرى الرأسمالية نقطة اكتمال ستكون أزلية وثابتة في شكلها القائم آنذاك لـ«انسجامها مع الطبيعة البشرية»، رأى شومبيتر أن هناك مساراً حوَّل بنية الرأسمالية من اقتصاد يعتمد على «السلعة» أساساً للحركة إلى اقتصاد أصبح أُسّه متمثلاً في «النقد والأرصدة»، وأن رجل الأعمال هو عماد الرأسمالية في القرن العشرين، لا الصناعي أو التاجر.
إلا أن ذلك الاقتصادي النمساوي، المهاجر للغرب الأميركي منذ العشرينيات، يخالف ماركس بأن تجديدات رأس المال، المتمثلة في أساليب وطرق الإنتاج بما تحدثه من تطوير في قوى الإنتاج، لا تؤدي ــ كما يقول ماركس إلى تدمير بنية الرأسمالية في النهاية بحكم التناقض بين تطور القوى المنتجة وثبات علاقات الإنتاج ــ بل إلى «عملية من الخلق الهدَّام» التي هي الحقيقة الجوهرية في الواقع الرأسمالي، وهي أساس حياة الرأسمالية ومصدر العيش للمشروعات الرأسمالية»، معتبراً أزمة 1929 وآثارها ليست «مجرد كساد بل علائم تحوّل بنياني في العملية الرأسمالية من النوع الذي توقّعه ماركس»، ويختم بأن سياسة «نيوديل» التي اتبعها روزفلت لمعالجة الأزمة معتمداً على وصفات كينز الداعية لتدخلية الدولة وضبط حركة الأرصدة و«تغول» النقد على السلعة «لا يمكن أن تنسجم على المدى الطويل مع العمل الفعال لنظام المشاريع الفردية» متنبئاً بانسداد الحل الكينزي.

لم يكتف شومبيتر ببناء نظريته عن «التحول البنيوي في الرأسمالية» اعتماداً على نظرية ماركس عن «تجديدات رأس المال»، أو باستخدامها لتفسير الأزمات الرأسمالية بوصفها «تدميرات خلاَّقة» داخل البنية ذاتها وضمنها، بل قبِلَ أيضاً بالافتراض الأساس في الماركسية الذي يقول بإخضاع «الأحداث التاريخية والأنظمة الاجتماعية نفسها لعملية الشرح والإيضاح القائمة على التحليل الاقتصادي»، وليقول إنه يقبل من خلال ذلك بنظرية ماركس عن «تراكم رأس المال وتركزه»، وإنه يتبنى عبارته الواردة في «البيان الشيوعي» بأن «تاريخ كل مجتمع إلى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ صراع بين الطبقات».

هنا، يقوم شومبيتر بمحاولة عزل ماركس المُنظِّر الاقتصادي ــ الاجتماعي ــ السياسي عن ماركس الثوري والسياسي العملي، معلناً «أن ماركس إذا عُرِّيَ من التعبيرات المتألقة يقر بتفسيرات تحمل طابعاً محافظاً، هو الوحيد الذي يجعلنا نحمل هذه التفسيرات على محمل الجد»، ومحاولاً تقليصه إلى حدود أن «نظريته الاقتصادية هي التي تعرض أجهزة المجتمع الرأسمالي وحيله»، والتي يعتبرها شومبيتر «من أعظم منجزات علم الاجتماع الفردية حتى يومنا هذا».

وإذا ابتعدنا عن شومبيتر، نجد عبارة قالها مستشار الرئيس الأميركي جونسون لشؤون الأمن القومي والت روستو إنّ ماركس هو، بإختصار، «مرشد هائل للسياسة الحكومية»، وهو الذي كان رئيساً لمجلس تخطيط السياسات بالخارجية الأميركية في عهد كينيدي، وقبلها أستاذاً للتاريخ الاقتصادي بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا بين عامي1950 ــ 1961، فيما ستكون عملية تلمّس ظلال ماركس في كتب هنري كيسنجر وزبغنيو بريجنسكي مجالاً لبحث علمي خصب.

كخاتمة، يمكن القول إن هذا المقال ما كان يمكن أن يكتب لولا أزمة «وول ستريت» وما أعقبها بشهر من خبر تناقلته أشرطة الفضائيات المتحركة عن أن كتاب «رأس المال» لماركس كان الأكثر مبيعاً في معرض فرانكفورت للكتاب: هل ستتكرر استخدامات اليمين لماركس بعد أزمة 2008 المالية ــ الاقتصادية الأميركية (ثم العالمية)، كما فعل شومبيتر على أثر أزمة 1929، وخاصة في ظل أزمة اليسار الماركسي الذي لم يفق بعد من صدمة انهيار 1989ــ1991؟
"الأخبار"

التعليقات