31/10/2010 - 11:02

اسرار وخفايا مجزرة كفر قاسم .../الشيخ ابراهيم عبدالله صرصور *

-

اسرار وخفايا مجزرة كفر قاسم .../الشيخ ابراهيم عبدالله صرصور *
فوجئت القيادة الاسرائيلية بعد الاعلان عن استقلال دولة اسرائيل بوجودٍ عربي داخل حدودها. واضح أن هذا الوضع لم يكن مقبولاً، فقد سعت الحركة الصهيونية منذ البداية، وحرصت القيادات السياسية والعسكرية للتنظيمات اليهودية قبل قيام اسرائيل وبعدها، على اخلاء الدولة من اي وجود عربي مهما كان محدوداً ..ارادوا دولة ( نقية!!!) من اي وجود (غريب!!!) ارادوها دولة يهودية صرفة. لذلك كان لابد من استكمال عملية ( التطهير العرقي!!) التي لم تُستكمل تماماً قبل الاستقلال . وظلَّ السؤال الذي يراود بن غوريون رئيس الوزراء ووزير الدفاع حينذاك : كيف، ومتى يكون ذلك؟!!!

لقد كشفت محاكمة المجرمين الأحد عشر من جنود حرس الحدود الذين نفذوا المجزرة في كفر قاسم في التاسع والعشرين من شهر تشرين اول سنة الف وتسعمائة وستّ وخمسين ، والتي راح ضحيتها تسعة واربعون من سكان البلد الوادعين من الرجال والنساء ، ومن الشيوخ والشباب والاطفال ، الذين كانوا عائدين الى اسرهم وعائلاتهم بعد يوم عمل شاق قضوه في المزارع والمصانع اليهودية.. كشفت عن صلة وثيقة بين مجموعة القتلة الذين نفذوا الجريمة وبين القيادات السياسية والعسكرية العليا.. لقد نفذّ هؤلاء مجموعة اوامر محددة كان لها هدف سياسي واضح .. لقد كانت فرقة حرس الحدود في كفر قاسم اداةً وَعَت تماما ما تقوم به، وعرفت على وجه الدقة الاهداف التي تسعى اليها القيادة العليا من وراء هذه الجريمة..

لقد استغلت القيادة العليا والمقصود هنا اساساً بن غوريون رئيس الوزراء ووزير الدفاع موشي ديان ورئيس اركانه وسلسلة القيادة المرتبطة بهما، وحشية جنود حرس الحدود وطغيان غرائز القتل فيهم وتأجج نار الحقد والكراهية للعرب والمسلمين في قلوبهم ، بهدف تنفيذ المؤامرة بأبشع صورة يمكن ان يتصورها عقل.

ما زال دخول اسرائيل الحرب ضد مصر فيما سمي بالعدوان الثلاثي، جنبا الى جنب مع بريطانيا وفرنسا، دخولا اشكاليا التقت فيه مصالح الدول الثلاث، ولكنها مصالح ليست بالضرورة واحدة مئة بالمئة ، فبعضها يتقاطع وبعضها الآخر يتعارض ويتصادم ..الا ان اسرائيل ارادت من وراء هذه الشراكة ان تحقق اكثر من هدف. الا ول: الحصول على دعم بريطانيا وفرنسا في تطوير قدراتها العسكرية خصوصا في المجال النووي وهذا ما حصل فعلاً، والثاني: تنفيذ خطتها التي لم تغب ابدا عن خيال الساسة في اسرائيل في اخلاء وطرد وتهجير من تبقى من الفلسطينيين الى خارج الحدود حتى تبقى اسرائيل دولة يهودية ( لا يعكر صفوها وجود اجنبي!!)..

لقد جاءت الفرصة مع بداية العدوان على مصر، فانظار العالم مشدودة الى ما يحدث هنالك في سيناء ، فلا بد من التقاط هذا الظرف المثالي لتنفيذ المخطط ( س 59)، او ( مخطط خُلد (سمي بالعبرية حفرفيرت) والذي يقضي باخلاء المواطنين العرب من المثلث، وذلك في اطار حرب محتملة مع الاردن .. لقد ثبت من محاضر جلسات محكمة مالينكي قائد وحدة حرس الحدود التي نفذت المجزرة ، ومحكمة العقيد يسخار شدمي والذي كان قائد احد الالوية المسؤولة عن الحدود مع الاردن ، أن ( مخطط خُلد) لم يكن مجرد مخطط أو فكرة ، بل اعدّتْ العدّة لتنفيذه في اطار الخطط الكلية، استعدادا للحرب .

لا شك عندنا في أن النتائج الكارثية لمجزرة دير ياسين على الشعب الفلسطيني والتي أدّت بعدما انتشرت اخبارها الى أن يتحقق لاسرائيل ما كانت تحلم به من هجرة غالبية الشعب الفلسطيني من وطنه، عادت لتدغدغ ادمغة نفس القيادات اليهودية التي شاركت بشكل مباشر وغير مباشر في تلك المجزرة .. أراد بن غوريون ان يعيد التاريخ من جديد، وان ينفذ نفس الخطة أملا في ان يحقق نفس الهدف... خطط لمجزرة في مكان ما ضد مواطنين مسالمين ، واختار كفر قاسم لهذا الغرض لاسباب ليس هذا مجال التوسع فيها او الحديث عنها، اما الهدف فدفع سكان المثلث العرب على الاقل والذين هم اقرب الى الحدود مع الاردن، الى قطع هذه الحدود في اتجاه الشرق تحت تأثير الرعب واخبار المجزرة تماما كما حدث في تداعيات دير ياسين ..الا ان رياح هذه المؤامرة الشيطانية لم تجر بما تشتهي سفن القيادة الاسرائيلية، حيث اصطدمت الارادة الصهيونية بارادة شعب تعلم الدرس من التجربة القريبة ، فقرر ان يبقى مزروعا في ارض وطنه مهما كلفه ذلك من ثمن، ومهما قدّم في سبيل ذلك من التضحيات ..

لقد جاءت شهادات جزّاري كفر قاسم من حرس الحدود لتؤكد الى ما ذهبتُ اليه، حيث شهد قائد السرية الثانية في كتيبة ملنكي ، يهودا فرينكنتل بوجود مخطط مسبق لطرد عرب المثلث، اما بنيامين كول والذي كان ضابطا تحت إمرة ملنكي ، فقد شهد بأنه( شعر مما جاء في المنشور أن الحرب ستكون على الجبهة الشرقية ضد الاردن ، ويجب تسديد لكمة لعرب المثلث حتى يهربوا الى الجانب الاخر للحدود، وليعملوا ما شاؤوا ).

المجرم جبرئيل دهان ، والمجرم عوفر ادليا هما ايضا بشهادة مفادها ، ان الاوامر التي اصدرها ملنكي لهم باسم القيادة العسكرية والسياسية العليا، قد فُهم منها أن اسرائيل معنية من وراء تنفيذ المجزرة بـ( دفع العرب على الهرب الى الاردن بضغط الخوف والرعب).

لقد كانت اسرائيل معنية، بدفع الاردن الى شن الحرب ضدها ، حتى تستطيع تنفيذ مخططها للتهجير كجزء من العمليات العسكرية ، الا ان هذه الرغبة اصطدمت بارادة بريطانيا التي كانت وصية على الاردن ،كما كانت ملتزمة باتفاقية دفاع معها يلزمها بتقديم الحماية لها في حالة تعرضها الى اعتداء ..
لقد التزمت اسرائيل عدم الاعتداء على الاردن حسب الاتفاق الثلاثي الموقع بين حكومات فرنسا وبريطانيا واسرائيل في ( سيفر) بالقرب من العاصمة الفرنسية باريس. وقد جاء في البند الخامس للاتفاق ما يلي:( تلتزم اسرائيل بعدم الاعتداء على الاردن اثناء العمليات ضد مصر ، ولكن في حالة حدوث اعتداء اردني على اسرائيل ، تلتزم الحكومة البريطانية بعدم التدخل لصالح الاردن).

لم تنجر حكومة سليمان النابلسي الوطنية في الاردن وراء استفزازات اسرائيل لاسباب تتعلق بقدرات الاردن على خوض مواجهة عسكرية لن تصمد فيها طويلا، في الوقت الذي التزم فيه بن غورويون لبريطانيا بعدم الاعتداء على الاردن ،الأمر الذي اربك القيادة ووضع خططها لتنفيذ مخططات التهجير على كف عفريت ...

يبدو ان القيادة الاسرائيلية وبعدما فشلت في خلق مناخ مناسب يساعدها على تحقيق اهدافها في طرد العرب، لجأت الى اسلوبها القديم الجديد الذي تتقنه تماما .. لم يعد امام اسرائيل الا ان تذبح سكان كفر قاسم تحت مختلف الذرائع لتدفع العرب الى الهجرة كما جاء في افادات وشهادات جلادي كفر قاسم من حرس الحدود. ارادت اسرائيل بعدما فشلت في معركتها السياسية مع بريطانيا والاردن ، ان يكون الدم البرىء للمواطن المسالم والذي من المفروض ان يتمتع بحقوقه كمواطن يحمل الهوية الاسرائيلية ، ان يكون هذا الدم هو السبيل لتحقق اسرائيل حلمها الاجرامي.. فكانت مجزرة كفر قاسم.

يمكننا الاشارة الى فصول اربعة اساسية لمجزرة كفر قاسم

الاولى: مجموعة الأوامر التي صدرت قبل المجزرة والتي مهدت لتنفيذها .

الثانية: المجزرة واحداثها وبشاعة اعمال القتل التي تمت بدم بارد.

الثالثة: المحاكمة الصورية التي انتهت باحكام ، خُفِّضَتْ فيما بعد، وانتهت بعفو عام أصدره رئيس الدولة ، ليتسلم بعدها المجرمون مناصب رفيعة في الدولة .

والرابعة: المصالحة التي كانت وبكل المعايير مذبحة اخلاقية ضد الضحايا واسرهم وضد كفر قاسم بشكل عام.

البداية : لقد ابلغ الجنرال تسفي تسور قائد المنطقة الوسطى ، العقيد يسخار شدمي قائد اللواء في منطقة المركز مجموعة الاوامر المتعلقة بفرض منع التجول في منطقة المثلث والحفاظ على هدوء الجبهة الشرقية اثناء العمليات في سيناء .

امر العقيد شدمي بدوره القائد ملينكي قائد وحدة حرس الحدود بتنفيذ خطة منع التجول بكل صرامة وقوة ...وأصدر ملينكي بدوره اوامره بذلك مطالبا ومؤكدا على ان يكون التنفيذ صارما ومن خلال استعمال السلاح بهدف القتل. من خلال المتابعة لمجموعة الأوامر نلاحظ تردد التعابير التالية:(" الله يرحمه" - اجاب شدمي على سؤال لملينكي حول مصير المواطن العائد من عمله دون علم بأمر منع التجول)، ( "افضل وقوع بعض القتلى على اتباع سياسة الاعتقالات" - رد ملينكي على سؤال حول امكانية تنفيذ اعتقالات )، (" لن يكون هنالك مصابين"، رد ملينكي على سؤال لاحد الجنود حول ما يجب فعله بالمصابين)، ( "بلا عواطف" - اجاب ملينكي على سؤال لأحد الجنود حول ما يجب عمله مع النساء والاطفال)،( "الله يرحمهم ، هكذا قال القائد" - جواب ملينكي عن سؤال حول مصير العائدين من العمل).

كانت هذه الأوامر صريحة ، تدعو الى اطلاق الرصاص بدم بارد ودون تمييز بهدف القتل، لقد كان القتل هو الوسيلة ، اما الهدف فكان الطرد لمن تبقى حيا..

وقوع الكارثة : بدأت المجزرة ، وبدأت اعمال القتل والابادة الجماعية ..كان العمال والفلاحون من كل الاعمار ومن كل الأوساط ، يصلون الى ( ساحة الاعدام ) في مدخل القرية الوحيد، حيث تأمرهم وحدة حرس الحدود بالوقوف صفا واحدا، ثم يطلق الرصاص عليهم ، ويستمر اطلاق الرصاص حتى يتأكد الوحوش من موت ضحاياهم . لم تشفع لهؤلاء المواطنين هوياتهم الاسرائيلية ، ولا ضعفهم وتعبهم بعد يوم عمل شاق . لم تشفع للأطفال طفولتهم ، ولا للفتيات انوثتهن وقلة حيلتهن . لم تشفع للجرحى أنّاتهم ولا جراحاتهم .. لقد قررت اسرائيل اعدامهم ، فكانت المجزرة عملية اعدام بشعة لم يشهد لها التاريخ مثيلا الا في ملفات جباري العالم وجزاّريه.

دفن من غير نظرة ووداع : بعد ان صدرت الأوامر بوقف عمليات الاعدام ، نقلت جثث الشهداء الى مكان قصيّ، لتتم عملية الدفن بعدها ، دون ان يمنح المجرمون لذوي الشهداء واسرهم الحق في القاء النظرة الأخيرة على اعزاء قلوبهم ، وفلذات اكبادهم ..جاء القتلة بمجموعة من اهلنا في جلجولية وأمروهم بحفر تسعة وأربعين قبرا في مقبرة كفر قاسم ..لم يعرفوا لماذا ، حتى جاءت شاحنة تحمل جثث الشهداء المكدسة فوق بعضها ..لم يقو الرجال من جلجولية على تحمل المنظر ، فانفجروا في البكاء والعويل ، وقد رأوا اصحابهم مضرجين بدماءهم ، جثثا هامدة .. وتم الدفن وقد حط جبل من الهموم على صدور الدافنين .. لم يسمح لاسر الشهداء ولسكان القرية بزيارة المقبرة والاطلاع على اعزائهم الا بعد ثلاثة ايام ..انفجرت بعدها كفر قاسم تبكي بصوت شجي ، وتشكو الى الله ظلم الظالمين.

محاولةٌ لأخفاء الجريمة : حاولت الحكومة طمس معالم المجزرة ، وخرج بن غوريون في البداية ليتحدث عن( حدث - وقع في قرية عربية حدودية) . لم يرد احد ان يتحدث ، ولم تقبل الحكومة ان تعترف بوقوع المجزرة ، الا بعدما فرضت بعض وسائل الاعلام ، وبعض القيادات السياسية العربية واليهودية ، منهم توفيق طوبي ولطيف دوري واوري أفنيري، على الحكومة الكشف عن حقيقة ما حدث.

المحكمة المؤامرة والصلحة المجزرة : تم تقديم المجرمين الى محكمة علنية . انتهت هي ايضا بمجزرة جديدة ضد كفر قاسم ، يوم صدرت الاحكام المخففة ضد السفاحين ، رغم اعتراف المحكمة بفظاعة الجريمة .. ويوم صدر العفو من رئيس الدولة، وأخيرا يوم تسلم عدد كبير من هؤلاء المجرمين مناصب رفيعة في الدولة حيث، تسلم مالينكي وظيفة ضابط الأمن في مفاعل ديمونة النووي ، وتسلم جبرئيل دهان - ويا للسخافة - منصب مدير الدائرة العربية في بلدية الرملة.

يتقدم الزمان بعدها خطوات ليسجل صفحة سوداء جديدة، فرضت اسرائيل فيها صلحة بين الدولة وبين كفرقاسم ، وخرجت الصحف ووسائل الاعلام الاسرائيلية مستهترة بمشاعر اهلنا ، ومتحدثة عن انه ( ذبح في تلك المناسبة 15 خروفا و100 دجاجة حسب الشريعة اليهودية، وعلى حساب الجيش الاسرائيلي). لقد فرضت اسرائيل الصلحة من اجل ان تكون العصا التي يعتمد عليها بن غوريون لمنح العفو لملينكي واغلاق الملف نهائيا ، ومن اجل قطع الطريق على أسر الضحايا في المطالبة بالتعويضات المرتكزة الى مسؤولية الدولة المباشرة عن المجزرة ، واعفاء الدولة من تحمل اي مسؤوليات مستقبلية عن هذا الملف.
اليوم وفي الذكرى التاسعة والاربعين للمجزرة، لا نلمس اي تغيير في السياسة الاسرائيلية ، فما زالت ترى في العرب الفلسطينيين سكان هذه الدولة ومواطنيها ، خطرا امنيا وديمغرافيا ، وما زالت الدولة تربي اجهزتها على كراهية العرب، والتنكيل بهم مع اول فرصة .. ما زالت الدولة تعتمد سياسة تزييف الحقائق ومسخ الوقائع في كل ما له صلة بالوسط العربي.احداث يوم الارض عام 1976، احداث ومجزرة تشرين اول 2000 ، والممارسات الاسرائيلية اليومية تثبت ما ذهب اليه تقرير( لجنة اور) من أن الدولة واجهزتها ما زالت وبعد مرور ستة وخمسين عاما على قيامها عاجزة عن استعياب مواطنيها الفلسطينيين حسب المعايير التي تعتمدها الدول المتحضرة .. ما زالت اسرائيل مصره على تبني خيار الصدام معنا ومع الشعب الفلسطيني، وما زال الشعب الاسرائيلي - حسب آخر الاستطلاعات - يؤمن بعدم حقنا في العيش الكريم على أرضنا وفي وطننا ..اما نحن فلن ننسى ولن نغفر ..

------------------------------------------------------
* رئيس الحركة الاسلامية

التعليقات