31/10/2010 - 11:02

اطلاق النار على الجماهير العربية../ محمد يوسف جبارين *

اطلاق النار على الجماهير العربية../ محمد يوسف جبارين *
في عز الحوار الساخن حول الجريمة التي أنزلتها دولة إسرائيل سفكا لدماء ثلاثة عشر عربيا، هم أفراد في أقلية قومية في الدولة، قلنا في أكثر من مقال ما معناه بأن دولة ترسل جنودا للحرب ضد الأعداء، لا تستطيب أن تستدعيهم إلى مقاضاة، وإذا فعلت فليس لإنزال عقوبة بهم، فأولئك جنود قاموا بتنفيذ مهمات صادرة إليهم من أعلى رأس في الأمن القومي الإسرائيلي، فكيف يتأتى الكشف عنهم بالاسم وبالصورة، ثم إنزال أي نوع من العقاب بهم، أما فكرة المساءلة فهي من ضرورات الأمن ولكنها داخلية في نطاق من البحث في كيفية تنفيذ المهام وهي مسألة سلامة نظام يقوم عليها النظام، وتبقى بدروسها للانتفاع بها في تنفيذ مهمات مثيلة ولاحقة.

وهي هكذا تظل مستورة مثل غيرها من المهمات التي لا يتم الكشف عنها، فهي أسرار أمن وليس من الأمن الاستجابة للأعداء باستباحة حيثيات وأسرار، يتسبب الكشف عنها في إحداث خلل يفضي إلى صعوبات تستجد حين تلح الضرورة على تنفيذ مهمات مثيلة.

لقد هبت الجماهير العربية سافرة عن حقيقتها.. بدت هويتها جلية واضحة، وبدا في المؤسسة الإسرائيلية، بأن هذه الجماهير تحدد سير حياة، وتحدد سير إدارة دولة، ولاح التحادد بين هوية هذه الدولة وبين هوية هذه الجماهير.. فمن يُسير من؟! من يقول للآخر ماذا عليه أن يفعل!!.. ولما كانت النزعة إلى التفاهم، والاعتراف بالهوية القومية لهذه الجماهير، هي ما لم يخطر على بال المؤسسة الإسرائيلية، فقد بدت هوية هذه الجماهير، بأنها خارج هوية الدولة اليهودية، فكان النزوع قويا إلى الإخضاع..

كان الهيجان في داخل الجماهير، في مواجهة هيجان في المؤسسة الإسرائيلية، يلح على ضرورة تأكيد الهوية اليهودية للدولة، فهناك في الوعي الصهيوني، وفي تأسيس قانون الدولة هوية واحدة للدولة. وإدارة سير واحدة، وهي يهودية ومن هنا كانت القوة تطل بكل عنفوانها، وكان الإخضاع هو الوعي الوحيد المطروح في تبرير استعمال القوة، في مواجهة هوية هذه الجماهير، فإطلاق النار على الجماهير العربية، كان بمثابة ترسيم لحدود بين هوية دولة، وبين هوية عربية في داخل الدولة. فهذه نار قد أطلقتها هوية دولة على هوية قد تم تحديدها على أنها هوية الأعداء.

فإذا ثمة قتلى وجرحى، وقد كان، وهم ثلاثة عشر ومئات الجرحى، فان ما أصاب هؤلاء، لا يتعدى كونه ترسيم حدود بالنار، لنقل الأبرياء الى الجنة، وترك الجرح في أجسام الأحياء ذاكرة متصلة بوعي الصراع.. تنبيها دائما إلى القيمة التي تساويها الدماء العربية في وعي دولة قدمت الدليل على أنها قادرة على تحريك النار في اتجاه لحوم الأبرياء، وذلك حين ترى بأن عليها أن تقوم بتنفيذ وعودها.

فهكذا دولة، الديمقراطية فيها توزع الموت على المواطنين العرب، وحكم القضاء فيها، يطل من حلقه، لسان جهاز المخابرات، لا يمكنها إلا أن تدير بذكاء مصاصات تتدحرج بالغضب للحق وبالمطالبة بالعدل في سياقات مثل لجنة "أور" والقضاء، ليتدحرج الغضب في طريق طويل، لا أمل فيه للباحث عن العدل أن يبلغ، ولا حتى ذرة من ثقة بعدل لتصل الدولة بصاحب الحق، بعد زمن طويل من إرهاقه، إلى موقف لا تتردد فيه بالتقدم إليه برغبتها أن يستريح من مطاردته السراب وتطلب منه أن يقبل مساومة.. تعويضا، مالا، في مقابل إغلاق ملفات دامية.. فالذي حصل قد حصل، والذي مات قد تحول ترابا، ويبقى المال يريح بعض الشيء .. يقلل من صعوبات الحياة.

إلى هنا تكون الدولة قد سارت من القمع الدامي، إلى ترويض أليم رجت منه أن يرتضي الذين عصفت بهم وضعية المقهور الذي لا حول له إزاء القوة والسلطة التي لم تزل تديم قهره، فليس له إلا أن يرضخ ويتنازل ويقبل بما تحمله يد السلطة إليه، مما تتفضل به، وهي ليست مكرهة عليه.

وليس هذا العنف وحده الذي عصف ولم يزل يعصف بالمواطنة، فعلى الامتدادات الزمنية للصراع، بكل وجه كان عليه.. مواجهات.. لجنة أور.. قضاء.. قد كان التحريض على من نزفت دماؤهم، بل على الجماهير العربية، وعلى قادتها ، فقد عربدت مخالب الكلمات في الإعلام قاصدة زراعة المخاوف، تحديدا وتعريفا لمعاني المواطنة على حد رؤية السلطة لها، وتحريفا للوعي بالصراع عن حقائقه، وما كفت تستدعي الأسباب لتحيد بها عن سياقاتها الحقيقية لتعيد ربطها بذكاء ماكر، لتلقي على الجماهير وقادتها، بأنها كانت هي السبب في سفك الدم وفي القهر، كأنما الجماهير التي تصرخ من شدة العنف والقهر، إنما تستدعي أدوات القهر لتنزل بها وذلك من أجل أن تقول بأنها مقهورة.

فهذه دولة قد تشرنقت في وعي، هو أن دولة يهودية، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وبكل ما تستدعيه من عصف هو ضمان سلطة الدولة وهو ضمان الأمن القومي للدولة.

فتأكيد الهوية اليهودية تمثله السلطة والقوة معا، وأما مفهوم مواطنة العربي، فهو كما يتفق للدولة أن تدرجه، وعلى ذلك فالمواطنة كما يليق ويتفق للعربي أن تكون، فهي خارج الوعي الصهيوني بالدولة اليهودية، فإذا احتد صراع، وقد حصل فالسلطة تتقدم بالقوة لتأكيد الهوية اليهودية للدولة، حتى وان اقتضى ذلك قمعا داميا واستدراجا في سياقات زمنية يضيع في خلالها أمل أهل المقتول (الشهيد) في الوصول إلى الشخص القاتل.

فإذا هذا هو حال الصراع، فماذا دعا نفرًا ممن طابت لهم السطحية، إلى القول بان تقديم المال في مقابل إغلاق ملفات الموت، بحد ذاته ينطوي على اعتراف بالجريمة، فهل ثمة قول بأن الشهداء لم يقتلوا، أو بأن مئات الجرحى لم يجرحوا برصاص قناصة، جنود أو شرطة قد حشدتهم الدولة في مواجهة الجماهير العربية.

فالاعتراف بان هناك قتلى وعددهم ثلاثة عشر وجرحى بالمئات ليس بذاته غير مقبول، لكن الدولة، وبالذات الشرطة وجهاز الأمن منها ومن يخدم اتجاهاتهم الأمنية قد قاموا جميعا على زحزحة الفهم لمجريات الصراع في اتجاه القول بان القتل كان دفعا لخطر كان يتهدد القاتل، فالقتل كان ضرورة دفاعية أملت لمن كان له الحق كاملا في الدفاع عن نفسه وحمايتها وهو من جاءت به الدولة وبيده أدوات القمع ليقيم النظام سليما على قدميه.

فهذا وجد نفسه في لحظة من الزمن على الحافة بين الحياة وبين الموت فاختار الحياة وهذا حقه، لقد أراد أن يحمي نفسه فوجد نفسه قاتلا مكرها على القتل. فهو قتل مشروع وأنساني وذلك لأنه الدفاع عن النفس بعينه.

فليس هناك اعتراف بأي نوع من مسؤولية عن القتل، فالمقتول هو من كان سببا في جعل القاتل قاتلا، فالمقتول هو من انشأ وضعا جعل من القاتل "معذبا" طيلة حياته بأنه قتل.

وكان ينقص دولة كهذه، أن تخرج الموتى من القبور لتأتي بهم إلى القضاء ، لإنزال أشد العقاب بهم..

التعليقات