31/10/2010 - 11:02

الأمن ولو في "حصون العشائر"../ محمد خالد الأزعر

الأمن ولو في
يميز مؤسسات النظام السياسي عن القوى المدنية، أن الأولى هي حصرياً صاحبة الحق في امتلاك أدوات القوة والإكراه لبسط الأمن داخل المجتمع أو الدولة. وعلى الكيفية التي تجري بها عملية صناعة القرار بشأن تنظيم حدود استخدام هذه الأدوات ينشأ الفرق بين النظم الديمقراطية ونقائضها السلطوية الديكتاتورية.. فكلما خضعت هذه العملية لسلطان القانون والرقابة والمساءلة والقضاء المستقل بمعزل عن سطوة أحد أو جماعة ما، بما في ذلك الحكام أنفسهم، كنا أقرب إلى ظلال الديمقراطية والعكس بالعكس.

على أنه في كل الأحوال، سواء كنا بصدد تراتب ديمقراطي أم سلطوي في دولة ما أو في أي نسق اجتماعي، فإن رخاوة المؤسسات الأمنية أو عجز أولي الأمر عن التحكم في أدوات تطبيق القانون وإنهاء مظاهر الفوضى، من العوامل التي تدفع قوى المجتمع للبحث عن ملاذات بديلة للحماية والطمأنينة وفض المنازعات. وبالطبع فان التنادي الى بعض الملاذات فئوية المحتوى، كالطائفة والمذهب والقبيلة والجهة والتقوقع داخلها، يصبح اكثر إلحاحاً وقابلية للانتشار والتمدد في حالات تصدع المجتمع أو انهيار الدولة ومؤسساتها الآمرة جزئيا أو كليا.

ونحسب أن الخضوع للاحتلال الخارجي المصحوب بمحاولة استئصال المجتمع من جذوره على غرار فلسطين مع المشروع الصهيوني، وتقويض الدولة وأدوات السيطرة والضبط فيها على شاكلة العراق تحت الغزو الأميركي البريطاني ومحازبيه، مثلان بارزان على صحة هذه التعميمات في الرحاب العربية.

والشاهد أن مظاهر الانكماش والتخندق الاجتماعي السياسي التي تنطوي عليها عملية البحث عن الأمن الذاتي، الشخصي والجماعي، تحت عباءات الانتماءات الاجتماعية الأولية والهويات الارثية، غالبا ما تحدث تلقائيا لدى كافة الخلق عندما ينتابهم الشعور بعدم الأمن.. لكنها تتواتر أكثر اذا أطل هذا الشعور بين يدي الشعوب أو الجماعات التي لم ترق إلى مرتبة الدولة الأمة، وكذا التي تفتقد للأطر التنظيمية الحداثية السياسية منها والمدنية العابرة للانتماءات الموروثة كالأحزاب والاتحادات والنقابات والروابط المهنية والجمعيات الخدمية.

والحال كذلك، قد لا يلام الفلسطينيون كثيراً على انهم تمسكوا طويلا بالنزعة القبلية العشائرية بسننها وأعرافها وتقاليدها. هذا ليس فقط لأنهم افتقروا للدولة وعلاقات المواطنة السوية ووجود مؤسسات الحماية وسيادة القانون الذاتية المؤطرة لهذه العلاقات بشكل انسيابي سلس، ولا لأنهم جزء من نسق اجتماعي اقتصادي سياسي عربي مازال مأخوذاً بهذه النزعة، وإنما أيضاً لخصوصية قضيتهم الوطنية والنمط الاستعماري الاستثنائي الذي لاحقهم وحط على رؤوسهم، فلقد كان المطلوب وفقاً لهذا النمط اجتثاث وجودهم من الأرض وتذريتهم بالكامل في الجهات الأربع وإنكارهم كحقيقة تاريخية اجتماعية أصيلة في فلسطين..

فإن لم يكن ذلك ممكناً حرفياً، وقد ثبت أنه غير ممكن بالفعل، فقد طمع المشروع الصهيوني ومحازبوه في منع الفلسطينيين من التنظيم والمأسسة بكافة أنساقها العصرية الجامعة ومطاردة ما يقوم منها، وذلك لحرمانهم من العودة إلى مناجزته وكسر طموحهم في التكوين «الدولتي» المناهض أو النقيض.

انطلاقا من هذه الحقيقة وتوابعها، لطالما تحصن المجتمع الفلسطيني بالميراث القبلي العشائري، العصي نسبياً على المطاردة والضامن إلى حد كبير لاستمرارية الوجود والحماية. لاحظنا ذلك في زمن الانتداب البريطاني إلى درجة أن أكبر الأحزاب الفلسطينية التي عرفتها تلك المرحلة كانت مجرد قبائل وعوائل وقد تدثرت بعناوين سياسية.. ونزعم أن أشكال التضامن والتلاقي العشائري ساهمت في صيانة الفلسطينيين بقوة من تبعات الانفراط الاجتماعي والعوز الاقتصادي والفناء السياسي التي لاحقتهم غداة نكبة 1948.

ثم ان هذه الأشكال مارست حضورها وفعاليتها في مواجهة المشروع الصهيوني على نحو قياسي بعد احتلال بقية الوطن الفلسطيني عام 1967. ففي هذا السياق، جرت منازلة كبرى بين التكتيكات الإسرائيلية لتفكيك بنى المجتمع الفلسطيني وبين خطوط هذا المجتمع الدفاعية. ولنا أن نلاحظ هنا مثلا كيف سعى المحتل إلى فرض قوانينه في الضفة وغزة والقدس، فيما اجتهد الفلسطينيون في تنحية هذه القوانين وما تستبطنه.

وكانت الأطر القبلية بأعرافها وتقاليدها القضائية أهم الوسائل على هذا الصعيد.. حتى إن لجوء بعض المتنازعين إلى مراكز الشرطة والقضاء الاسرائيلية كان سلوكاً مشيناً يلحق العار بأصحابه. هذا دون الاستطراد إلى الأدوار الاجتماعية والاقتصادية وعمليات الضبط الأخلاقي التي اضطلع بها التكافل العشائري في سياق ضغوط حالة الاحتلال الممتد.

ندرك تماما أن الأحانين والتجليات والفيوض السلوكية العشائرية لم تلحق الهزيمة بالمشروع الصهيوني وانها انطوت على عيوب ونقائص، لكننا نزعم أنها أدت أدواراً حمائية إيجابية فلسطينياً على أكثر من مضمار، ولم تكن جميعها من طبيعة سلبية أو رجعية مثلما يفترض البعض ويشيعون، ومع أن عهد الثورة والكفاح الوطني الفلسطيني قد شهد تبلور تنظيمات سياسية ومدنية حداثية عابرة للتكوينات الإرثية، بما فيها العشائرية، إلا أن هذه التنظيمات لم تقم مقام هذه التكوينات ولا كانت بديلاً منها.

أحد أسباب هذه الظاهرة أن ذلك العهد افتقد لبرامج التغيير الاجتماعي الاقتصادي، إذ استحوذت الأبعاد السياسية عليه وغمرته بموجاتها العالية وأولويتها الطاغية، ولم تمنحه فرصة العناية الكافية بالمشروعات التنموية الفارقة اجتماعيا.

وتقديرنا أن هذه الخاصة لم تغادر الحالة الفلسطينية كثيراً بعد قيام السلطة الوطنية. ففي الانتخابات النوعية المهنية والسياسية التشريعية العامة، غالباً ما أطلت الطقوس العشائرية بما أضفى طابع القبائل السياسية على الأحزاب والفصائل والقوى المتنافسة.

أكثر من ذلك مدعاة للاعتقاد في رسوخ هذه الطقوس ما يقال، عن حق، بأن الفصائل السياسية وعلى رأسها القطبان فتح وحماس، ضالعة في التعاون والتواطؤ مع وجهاء العشائر وأزلامهم وتوظيف كلمتهم المسموعة اجتماعياً لأجل استمالتهم في هذا الاتجاه أو ذاك. وأنه في غمرة التدافع متعدد المستويات بين هذه الفصائل، فقد المجتمع الفلسطيني، في غزة بخاصة، ثقته في حماية مؤسسات السلطة الأمنية والشرطية والقضائية، وتعلق أكثر بطبائعه العشائرية بحثاً عن الأمن بطريقته التقليدية.

يقول تقرير حديث للهيئة الفلسطينية لحقوق الإنسان ان «فتح وحماس وغيرهما يمتلكون أدواتهم المسلحة المختلفة والمتناحرة، والتي تعمل بشكل مستقل وبمفاهيمها الخاصة لتطبيق الأمن والضبط القضائي دون إجراءات قانونية»، والنتيجة أن «الناس لم تعد تقتنع بالقانون، وراحت تبحث عن الأمن في دوائر العائلة والقبيلة والحي».

هذا التوصيف يتسق تماماً مع قناعتنا بأن الانفلاتات والاستقطابات الأمنية والسياسية الرسمية سابقة على ما عداها من انفلاتات ومسببة لها، وأن «ثقافة الأمن العشائري» تنتعش في مناخ الفوضى والتدافع العنيف بغض النظر عن مصدره، غزواً خارجياً كان أم فتناً داخلية. وعموما، حدثني عن انضباط منظومة الأمن وهيبة القانون والقضاء وأحوال الوفاق السياسي، أقل لك ما هو مصير هذه الثقافة.

"البيان"

التعليقات