31/10/2010 - 11:02

الاقتصاد السياسي للهيمنة يتراجع../ د.عصام نعمان*

الاقتصاد السياسي للهيمنة يتراجع../ د.عصام نعمان*
في العام 1929 حدث كساد عظيم في الولايات المتحدة سرعان ما جرّ معه العالم بأسره. بعد ذلك الحدث الاقتصادي الجلل صار رجال الأعمال، ومعهم أهل السياسة، يقولون: إذا عطست أمريكا فإن العالم كله سيصاب بالزكام. هل يكرر التاريخ نفسه اليوم؟

لقد عطست أمريكا مطلع الأسبوع، لكن العالم لم يُصب إلاّ بزكام خفيف وإن كان الخوف، بل الذعر أحياناً، من أن يتطور الزكام الخفيف إلى آخر ثقيل لا يزال سائداً. "عطسة" أمريكا المدوية مردها إلى قيام مجلس الاحتياط الفيدرالي، وهو سلطتها النقدية المركزية، بفرض خفض جديد لسعر الفائدة بنسبة 0،75 في المائة لتصبح 3،50 في المائة. ذلك الخفض الكبير نسبياً وغير المتوقع لن يكون الأخير إذ يتوقع خبراء اقتصاديون كثر، في أمريكا كما في العالم، أن يُقدِم مجلس الاحتياط الفيدرالي في 30 الشهر الجاري على إجراء خفض جديد قد لا يقل عن 0،50 في المائة. ماذا يدفع قادة أكبر اقتصادات العالم إلى اتخاذ هذه الإجراءات الجذرية؟

ثمة أسباب عدة تقف وراء الأزمة التي تعانيها أمريكا وتدفع بها إلى حافة انكماش شديد قد يتطور إلى كساد خطير. أولى الأسباب أزمة القروض المنزلية التي اندلعت صيفَ العام الماضي وتركت آثاراً عميقة في سائر ميادين الاقتصاد الأمريكي، ثم امتدت مفاعيلها إلى أوروبا وآسيا الشرقية. ثانيها تقلّص حادّ في فرص العمل ارتفعت معه نسبة البطالة في الشهر الماضي من 4،7 في المائة إلى 5 في المائة. غير أن السبب الثالث، وهو ارتفاع سعر برميل النفط الذي لامس المائة دولار، كان له تأثير أكبر في تطور الأزمة لاسيما لجهة تظهير سببها الرابع وهو ارتفاع تكاليف المعيشة من غذاء ودواء ورعاية صحية وتعليم، ما أدى تالياً إلى انزلاق الولايات المتحدة إلى واحدة من أكبر وأخطر الأزمات الاقتصادية التي عانتها وتعانيها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية منتصف القرن الماضي.

تكتسب أزمة أمريكا الاقتصادية أهمية إضافية كون الاقتصاد الأمريكي الأكبر في العالم والمصدر الأساس لدور واشنطن العالمي وهيمنتها النابعة من وحدانيتها القطبية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. فالعالم يتطلع في هذه الفترة العصيبة إلى أمريكا ليرى ما تفعله حالياً وما تعتزم فعله مستقبلاً وانعكاس ذلك كله على اقتصادات مختلف الدول التي أضحت اقتصاداتها، بفضل العولمة، شديدة الترابط، بعضها ببعضها الآخر. في هذا السياق سيتقرر أيضاً مصير الاقتصاد السياسي لهيمنة الولايات المتحدة على الكثير من الدول والمناطق، لاسيما تلك التي تمتلك موارد طبيعية استراتيجية كالنفط والغاز. فهل يمكن التكهن بما يمكن أن تفعله أو تعجز أمريكا عن فعله في المستقبل المنظور؟

يعتقد بعض الخبراء الاقتصاديين بأن مجلس الاحتياط الفيدرالي سيلجأ إلى تدابير كينزية (نسبة إلى العالم الاقتصادي البريطاني جون ماينرد كينز) أبرزها خفض الضرائب، وزيادة الإنفاق العام، وخفض سعر الفائدة من أجل تحقيق هدفين أساسيين: توسيع الاستثمار وزيادة الاستهلاك. غير أن فريقاً آخر من الخبراء يستبعد أن تنتج التدابير الثلاثة المار ذكرها مفاعيل إيجابية كافية لإخراج الاقتصاد الأمريكي من أزمته، ذلك أنها باتت أزمة بنيوية لا تمكن معالجتها إلا باتخاذ قرارات سياسية جذرية، لا قدرة لإدارة بوش على اتخاذها في الوقت الحاضر ولا رغبة لها أصلاً في ذلك. أبرز مظاهر الأزمة البنيوية خمسة:

توسّع وتشعّب التزامات أمريكا العسكرية والأمنية في مختلف أنحاء العالم الأمر الذي رتّب عليها تكاليف ونفقات باهظة للغاية، هذا بالإضافة إلى التكاليف والنفقات الفادحة التي تكبدتها أمريكا نتيجة حروبها المتعددة من كوريا إلى فيتنام إلى الصومال إلى أفغانستان إلى العراق.

تراجع القدرة الصناعية للولايات المتحدة. فقد كانت حصتها من الإنتاج الصناعي العالمي غداة الحرب العالمية الثانية نحو 40 في المائة، وقد تدنّت تدريجيا بعد ذلك لتصبح حالياً أقل من 20 في المائة.

ظهور وتنامي الاقتصادات الناشئة في دول أمريكا الجنوبية والشرق الأقصى ولاسيما الهند والصين، علماً أن اقتصاد الصين سيصبح، حسب تقديرات علماء اقتصاديين أمريكيين ودوليين، الأكبر في العالم بحلول العام 2015.

ارتفاع أسعار النفط بمنحى تصاعدي الأمر الذي زاد من كلفة المنتجات الصناعية الأمريكية وجعلها في مركز تنافسي صعب مع دول الاقتصادات الناشئة لاسيما الصين والهند.

انخفاض المداخيل في الولايات المتحدة بوتيرة مستمرة منذ نحو عشر سنوات الأمر الذي حدّ من الاستهلاك الداخلي وانعكس بالتالي سلباً على حجم الاقتصاد الأمريكي.

هذا المنحى الانحداري في الاقتصاد الأمريكي أضعف الولايات المتحدة حيال أوروبا الآخذة في استكمال وحدتها وتوسيع سوقها القارية، كما تجاه اليابان وخاصة تجاه الصين التي تتمتع بمعدل نمو سنوي لا يقل، على مدى سنوات عدة، عن 7 في المائة. وقد كشف المفكر الأمريكي البارز ناحوم شومسكي منذ مطالع التسعينات في كتابه الأشهر "إعاقة الديمقراطية" محاولة "الاستبليشمانت" (الطبقة الحاكمة) الأمريكية تعويض الضعف الاقتصادي ببناء قدرة عسكرية وتكنولوجية متفوقة واستخدامها للابتزاز من أجل الحصول على مزايا ومصالح استراتيجية لاسيما تجاه الدول المنتجة للنفط وحصص وازنة في الأسواق العالمية.

غير أن شومسكي نبّه مبكراً إلى محدودية الاعتماد على سياسة عدم التكافؤ بين القدرة الإنتاجية الصناعية والقدرة العسكرية والتكنولوجية. فالخلل في هذا المجال سينعكس، عاجلاً وآجلاً، على وزن أمريكا ودورها عالمياً، خصوصاً مع تنامي قدرات الصين وروسيا ونزوع الثانية إلى استعادة دورها الإقليمي والعالمي. وغني عن البيان أن تنامي قدرات أوروبا والصين وروسيا سيؤدي في قابل الأيام إلى تقليص قدرة أمريكا على الانفراد بزعامة العالم، كما يفضي إلى عودة التعددية القطبية التي طبعت العلاقات الدولية نحو 50 عاماً قبل انهيار الاتحاد السوفييتي.

إلى ذلك كله، اقترن التراجع الاقتصادي الأمريكي على النحو المار ذكره بيقظة العالم الإسلامي واتجاه القوى الحية فيه إلى مقاومة الهيمنة الأمريكية في عالم الجنوب عموماً والمنطقة الإسلامية خصوصاً. صحيح أن إدارة بوش تنعت مقاومة الشعوب لهيمنتها بالإرهاب وتحاول احتواءها بجرّ دول أوروبا وكندا واستراليا واليابان إلى مشاركتها "حربها على الإرهاب"، إلا أن مجهودها السياسي والعسكري في هذا المجال لا يلقى نجاحاً، بل هو في تعثّر مطرد لاسيما في منطقة الشرق الأوسط. ولن يطول الزمن قبل أن تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى تقليص وجودها وبالتالي نفوذها في مناطق التمرد والمقاومة المتصاعدة لهيمنتها.

إذ يتراجع الاقتصاد السياسي للهيمنة الأمريكية، تجد دول العالم نفسها، لاسيما الدول النامية والدول ذات الأسواق الناشئة والدول المنتجة للنفط والغاز، أمام تحديات ثلاثة: الأول، مجابهة الضغوط الأمريكية لاستتباعها سياسياً واقتصادياً. الثاني، التحسب للتدابير الاقتصادية التي تتخذها أمريكا في سياق مواجهة أزمتها الاقتصادية البنيوية وذلك لتفادي انزلاقها إلى حمأة هذه الأزمة مع ما يرافقها من أضرار ومتاعب. الثالث، اغتنام فرصة ضعف أمريكا الاقتصادي وانحسار نفوذها باطراد في شتى مناطق العالم من أجل ترسيخ استقلالها الوطني، والخروج من دائرة التبعية لأمريكا وأوروبا، وضمان بنائها الاقتصادي والحضاري وتنميتها المستدامة.

ثمة تدابير وإجراءات متعددة تستطيع الدول النامية والمنتجة للنفط والأخرى ذات الأسواق الناشئة أن تتخذها لمواجهة التحديات الثلاثة آنفة الذكر، لعل أبرزها خمسة:

الصمود في وجه أمريكا وعدم التحالف معها لخوض حروب ظالمة ضد دول وقوى تستعديها إدارة بوش لأسباب تتصل بـ"إسرائيل" أو بمصالحها الاقتصادية أو بمحاولة تمديد هيمنتها على العالم.

الخروج من "نظام" التعامل بالدولار الأمريكي كعملة صعبة للتقويم المالي والاقتصادي وللتسديد التجاري، والاستعاضة عنه بسلّة عملات متطورة.

إقامة أسواق قومية وقارية واسعة على غرار السوق الأوروبية المشتركة التي تطورت إلى اتحاد أوروبي ذي سوق قارية وقدرات اقتصادية قوية ومميزة.

التركيز على التنمية الداخلية المستقلة كسبيل للتقدم والارتقاء من جهة وكطريقة لتفادي الانزلاق إلى دوامة إعادة تدوير عائدات النفط لتصبّ في خزائن أمريكا وأوروبا، من جهة أخرى.

مقايضة توريدات النفط بالحصول على أعلى مستويات التكنولوجيا من الدول الصناعية، بما فيها الصناعة النووية للأغراض السلمية.

آن الأوان كي يبدأ العالم بالانتقال من الاقتصاد السياسي الأمريكي للهيمنة الاستبدادية إلى الاقتصاد السياسي للتنمية المستدامة والحرية والعدالة والسلم والإبداع الحضاري.
"الخليج"

التعليقات