31/10/2010 - 11:02

الانتخابات التركية إذ تحضّنا على معرفة تاريخنا../ حسن شامي

الانتخابات التركية إذ تحضّنا على معرفة تاريخنا../ حسن شامي
ما إن انتهت الانتخابات التركية مسفرة عن فوز كاسح لـ «حزب العدالة والتنمية الإسلامي»، حتى بدأت ترتفع أصوات في بعض أوساط النخبة العربية داعية الى الاستفادة، وربما الاتعاظ، من التجربة التركية. والدعوة هذه تتطلع، بطبيعة الحال، الى بعث التفاؤل والأمل في منطقة تبدو مشكلاتها عصية على الحل. ونحن بالفعل في منطقة تنظر وتتفرج وتستهلك أكثر مما ترى وتنتج وتصنع. في وضع من هذا النوع لا يعود أمراً غريباً أن يتسقط أصحاب النظر في تجارب هذه الأمة أو تلك نماذج ومثالات تصلح للاقتداء والاحتذاء.

يمكن القول ان اصطياد العبر بات سمة لسلوك ذهني يرقى الى عصر النهضة ويضرب بجذوره بطريقة شعورية أو لا شعورية، في موروث ثقافي إسلامي يدور على مبدأ «التقليد» في المعنى الواسع للكلمة. والحال التركية مؤهلة أكثر من غيرها ربما لمخاطبتنا ليس بسبب القرب الجغرافي فحسب، بل كذلك بسبب الموقع الملتبس الذي تحتله في المخيلة التاريخية للنخب العربية الحديثة. والالتباس هذا يجعل تركيا الحديثة قريبة منا وبعيدة في آن معاً. وقد يرى البعض مفارقة في أن نفتح النافذة التركية كي ننظر الى أنفسنا. ولا شيء يضمن أن يرى الناظر الى المشهد التركي ما يستحق بالفعل أن يُرى. ولا يمنع هذا من أن يكون الالتباس بناء، إذ ثمة التباسات بناءة كما تفيدنا تجارب التحديث والإصلاح في العالم العثماني منذ أواخر القرن الثامن عشر.

لا نعلم على وجه الدقة ما هي الدروس التي يمكن لصائدي العبر التاريخية أن يستخلصوها من الانتخابات التركية. ولا نعلم إذا كانت هذه الدروس تندرج في وجهة واضحة ولا إذا كانت تتوقف عند حدود معينة. فليس مستبعداً أن تقتصر العبرة على حصول انتخابات ديموقراطية تتمتع بالنزاهة والشفافية، في ظل وضع مأزوم سياسياً، ما يدل إلى إمكان إنتاج تسوية سياسية تحترم القواعد المشتركة والجامعة لسائر أطياف الكيان الوطني. على أن العبرة هذه يمكن أن تطاول وجوهاً أخرى تتعدى مجرد مرور الانتخابات على خير في ظل انقسام حاد بين العلمانيين والإسلاميين بحسب ما يستدل من التظاهرات الصاخبة التي شهدتها مدن تركية عدة في الأسابيع الأخيرة.

في مقدم هذه الوجوه يأتي الحفاظ على التعددية السياسية في مجتمع يعجّ بهويات إثنية وفرعية لا تعدم الجموح والنبذ لدى أوساط ناشطة فيها. وجاء تصريح رجب طيب أردوغان، زعيم «حزب العدالة والتنمية» الذي حصد نحو 47 في المئة من المقاعد، بمثابة طمأنة لقطاعات اجتماعية ومدينة ناشطة. فهو أعلن إثر الانتخابات عن تمسكه بمبدأين كبيرين يلخصان تقريباً برنامجه السياسي، وهما الحفاظ على علمانية الدولة ومؤسساتها ومواصلة السعي الى الانضمام الى الاتحاد الأوروبي.

صدور مثل هذا الكلام الجامع المانع عن زعيم أكبر قوة إسلامية تحظى بشعبية كبيرة في البيئة التقليدية التركية وما يعرف بتركيا العميقة المنتشرة في الأرياف والجبال وضواحي المدن الكبرى، من شأنه أن يجعل الكثير من الدعاة الإسلاميين في منطقتنا يفركون عيونهم في حال ما أثارت التجربة التركية اهتمامهم. وها هنا تجد العبرة التركية الوجه الأبرز والأكثر جاذبية لوجاهتها. ونعني بذلك نجاح «حزب العدالة والتنمية» في تقديم تصور توليفي لا يموت فيه الذئب ولا يفنى الغنم.

ثمة بالطبع البيئة المحافظة للحزب الإسلامي، وعلى أطرافه، أوساط متشددة وجذرية تفترض استحالة المصالحة بين الشريعة الإسلامية والحداثة. وثمة أيضاً في أوساط العلمانيين والعسكر جذريون يقفون عند الطرف المقابل. على أن المنحى الغالب هو العمل على تثبيت تقليد ثقافي وسياسي جديد بعض الشيء يقوم على صيانة التعددية والاحتكام السياسي الى الشرعية الوطنية. وإذا قيض لهذه التجربة أن تأخذ مداها من دون خضّات كبيرة، قد نصل بالفعل الى نوع من صياغة علاقة جديدة بين الإسلام والعصر الذي نعيش فيه.

وبحسب هذه الصياغة يمكن الهوية الإسلامية أن تكون قيمة مرجعية ثقافية في وعي ذاتي مركب للوطنية التركية. وهذا ما يفسر ربما إقبال أوساط واسعة من الأقليات، الكبيرة والصغيرة، الاثنية أو الدينية، على الاقتراع لمصلحة الحزب الإسلامي الموصوف بالاعتدال والانفتاح. على انه يستحسن من الآن الالتفات الى تاريخية أو سوسيولوجية التجربة التركية، هذا إذا شئنا تفادي تحويلها الى وصفة شمولية جاهزة. ويتطلب هذا أن ننظر الى الظاهرة الإسلامية التركية وأن نقاربها بطريقة تتعدى المدى الزمني القريب لتطاول مستويات أبعد وأشد إيغالاً في الزمن التاريخي.

بعبارة أخرى ستكون صياغة المركب الإسلامي للهوية الثقافية الوطنية هي صياغة تركية في نهاية المطاف. فنحن أمام بلد كان مركزاً لامبراطورية واسعة الأرجاء، وكانت العاصمة اسطنبول في أواخر القرن التاسع عشر مقر السلطان العثماني ومدينة كوزموبوليتية في آن، بحيث ان أكثر من نصف سكانها والمقيمين فيها هم من غير المسلمين، الأمر الذي يستحيل العثور على ما يناظره في أي عاصمة أوروبية آنذاك وربما الى اليوم.

وقد خبرت السلطنة تجارب في الإصلاح والتحديث في ما عرف باسم «التنظيمات» منذ أن أدرك عدد من كبار موظفي الإدارة العثمانية، في أواخر القرن الثامن عشر، أن التوسع الأوروبي ليس حادثاً طارئاً، بل هو تحد مصيري لا يمكن مواجهته بالأسلحة المعهودة، بما في ذلك الأسلحة المعنوية والذهنية. ومحاولات التحديث والاصلاح التي شهدتها الولايات العربية للسلطنة، خصوصاً محاولات محمد علي في مصر، كانت تستلهم تجارب التحديث في مركز السلطنة وعاصمتها، أي في ما سيصبح بعد الحرب الأولى تركيا الحالية.

أضف الى ذلك أن هذا المركز لم يتعرّض لاحتلال أجنبي ساهم في توسيع الهوة بين دائرة حديثة تتطلع نحو أوروبا ومثالها الوضعاني ودائرة إسلامية تقليدية تحتكم الى الشريعة. وينطبق هذا التوصيف، على رغم بعض الاختلافات والفوارق، على إيران. وإذا كانت مصر (وفي معنى ما المغرب الأقصى) تمتلك منذ زمن قديم مواصفات كيان جغرافي خاص، إضافة الى تقاليد دولة مركزية متوارثة وتبلور هويات اجتماعية في المدن والأرياف، فإن هذه المواصفات من الصعب العثور عليها في كيانات المشرق العثماني الأخرى، وإن كان هناك سمات مشتركة للجماعات الموزعة على بلاد الشام.

قصارى القول ان هناك شرعية وطنية مستقرة نسبياً في تركيا منذ التخلي عن الخلافة عام 1924، ويمكن أن نرى في التجربة التركية اليوم نوعاً من استئناف تاريخي، ولكن في شروط كيانية وطنية حديثة، لمناظرات وانقسامات ترقى الى القرن التاسع عشر، على غرار تلك التي دارت حول «دار الفنون» و «مجلة الأحكام العدلية» ومدرسة غلطة سراي عندما اعتبرت القوى التقليدية وجهاز العلماء ان التحديث عمليات قضم لمواقعها ونفوذها.

العالم العربي شهد مساراً آخر، خصوصاً منذ اضطراب العلاقة بين قومية طورانية تركية حاولت بطريقة قاسية ومرتجلة أن تنقل منطق السيطرة من المدار الامبراطوري الى مدار الدولة القومية، الأمر الذي أدى، بعد انقلاب عام 1908 وخلع السلطان عبدالحميد الثاني الى نشوء ردة قومية عربية توالدت صياغاتها وتناسلت، ولكن بقي وجه الارتجال غالباً عليها. وفي هذا المعنى، إذا كان ثمة درس عربي يستقى من التجربة التركية فهو يكمن في تعهد تاريخ ومجتمعات لا تخلو من التنوع والتعدد، بما في ذلك التاريخ العثماني. يمكن عندئذ التخفف من سطوة شعارات شمولية وهويات جاهزة مثل الإسلام هو كذا وكذا والغرب هو كذا وكذا. هناك مجتمعات وثقافات متعددة تحتاج الى إطار وشرعية وطنيين.

"الحياة"

التعليقات