31/10/2010 - 11:02

الانقسام الفلسطيني: أزمة مرجعيات وسياسات../ ماجد كيالي

الانقسام الفلسطيني: أزمة مرجعيات وسياسات../ ماجد كيالي
أماطت الأحداث المؤسفة، التي وقعت في قطاع غزة، اللثام عن حقيقة الانقسام الحاصل، بين حركة حماس ومجمل الحركة الوطنية الفلسطينية، بكونه ليس انقساما سياسيا محضاً، ولا مجرد صراع على السلطة، وإنما هو، إضافة إلى ما تقدم، خلاف على الأساسيات والمرجعيات السياسية والتشريعية.

معلوم أن "حماس"، وهي من حركات الإسلام السياسي، انخرطت في معمعان العمل الوطني الفلسطيني ضد إسرائيل، منذ العام 1987، في الأراضي المحتلة في الضفة والقطاع، أي مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وكانت هذه الحركة خرجت من رحم الجناح الفلسطيني لحركة الأخوان المسلمين، الذي نأى بنفسه عن الانخراط في عمليات المقاومة ضد إسرائيل، التي انطلقت منذ أواسط الستينيات بمبادرة من حركة فتح، بدعوى أولوية الجهاد الأكبر (جهاد النفس والجهاد في الداخل)، على الجهاد الأكبر (الجهاد ضد العدو الإسرائيلي).

بمعزل عن كل ذلك، فإن حماس، منذ قيامها، رفضت الانخراط في النظام السياسي السائد في الساحة الفلسطينية، وضمنه منظمة التحرير، ومن بعد ذلك السلطة الوطنية. وبديهي أنها في هذا وذاك ظلت لا تعترف بالشرعية الفلسطينية السائدة، وطرحت نفسها كقيادة وكشرعية بديلتين للشعب الفلسطيني.

لكن انخراط حماس في الانتخابات التشريعية (2006) شكل مرحلة فاصلة في تاريخها، وكان ذلك بمثابة انقلاب سياسي على أفكارها أو طريقتها في العمل. وفي الواقع فإن انخراط حماس في هذه الانتخابات كان بمثابة مفاجأة سياسية، كونها رفضت في السابق الانخراط في انتخابات السلطة (الرئاسية والتشريعية)، بدعوى مناهضتها للتسوية وخصوصا لاتفاقات أوسلو (1993)، التي قامت هذه السلطة على أساسها، وكونها رضيت الدخول في معادلة السلطة، في وقت ظلت ترفض فيه الانخراط بالمنظمة وتشكّك بشرعيتها، برغم من الفارق في الطبيعة والتمثيل والشرعية بين الإطارين (لصالح المنظمة طبعا).

فوق كل ما تقدم، فقد جاء فوز حماس الكاسح في الانتخابات مفاجئا أيضا لكل أطراف الساحة الفلسطينية، بما فيها قيادات حركتي فتح وحماس. ولم تتوقف مفاجآت حماس، أو تحولاتها السياسية عند هذا الحد، ذلك أن هذه الحركة أجرت مراجعة سريعة لحساباتها ومقولاتها وسياساتها، فهي بعد الانتخابات تمسكت، وبقوة، بحقها في تشكيل حكومة السلطة، ولو بصورة منفردة، في وقت كان يتوقع فيه منها، وهي المناهضة للسلطة ولكل الاتفاقات التسووية مع إسرائيل، أن تقوم بالإعلان عن حلّ السلطة، مثلا، من موقعها الشرعي الجديد، أو أن تقوم على الأقل بتشكيل حكومة من مستقلين، تحت إشرافها وإدارتها، حتى لا تورط نفسها مباشرة باستحقاقات السلطة والتسوية.

لكن حماس بدلا من ذلك بدت وكأنها أخذت بفوزها على حركة فتح، وأصيبت بلوثة السلطة، وبدا وكأنها باتت أكثر حرصا على حكومة السلطة من غيرها، بادعاء أن أي خيار أخر، يستبعدها عن ذلك، يعني استهدافها، واستهداف شرعيتها، وحقها في القيادة.

اللافت أن تحولات حماس السياسية لم تقف عند هذا الحد فهي بعد الانتخابات وتمكنها من حكومة السلطة نحت نحو التهدئة مع إسرائيل، في حين أنها كانت رفضت في السابق هذا الأمر، وحتى أنها كانت ترفض وقف العمليات التفجيرية (الاستشهادية)، ولو كان الأمر لصالح استمرار عمليات المقاومة المسلحة ضد الوجود الإسرائيلي، العسكري والاستيطاني، في الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة والقطاع؛ ما أدى إلى معاودة القوات الإسرائيلية احتلال المدن الفلسطينية ومحاصرتها، وعزل السلطة الفلسطينية واستهدافها.

وفي ظل هذه الأجواء بدا وكأن حماس باتت تستخدم لغة سياسية برغماتية بما يتعلق بالتعامل مع إسرائيل، ومع عملية التسوية، فهي لم تعد ضد المفاوضات مع إسرائيل من حيث المبدأ، فهذه المفاوضات باتت مشروعة لأنها ضرورية لتلبية حاجات الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وحتى أن حماس أجرت مقاربة لفكرة التسوية، والدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، بمصطلحاتها، لجهة الهدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، والعودة إلى واقع ما قبل الاحتلال (في 1967).

طبعا كان يمكن اعتبار كل هذه التحولات، بمثابة نوع من التطورات التي فرضتها الظروف الموضوعية، أو باعتبارها بمثابة تحول طبيعي، أو نوع من النضج السياسي، لحركة باتت في موقع المسؤولية والسلطة. لكن الأمور لم تكن البتة على هذا النحو، فثمة مستويين في خطاب حماس، المستوى الأول وهو الخطاب الأيدلوجي، وهو يتعلق بالثوابت والأساسيات، والخطاب الثاني هو السياسي وهو التاكتيكي والبرغماتي. والمسألة هنا لا تتعلق بنوع من التعامل أو المزج العقلاني بين الأيدلوجي والسياسي، أو بين الثابت والمتحول، أو بين الاستراتيجية والتاكتيك، فهذه الأمور ليس لها علاقة البتة بطريقة حماس في العمل أو في اتخاذ المواقف.

هكذا فإن حركة حماس يمكن أن تبرر الذهاب نحو أي خيار بفلسفتها الخاصة، فهي كونها تمكنت من السلطة يمكن أن تذهب نحو التهدئة، وحتى نحو التسوية بمصطلحات الهدنة، بدعوى إعطاء أولوية لإصلاح البيت الداخلي، والعودة إلى إعطاء الأولوية للجهاد الأكبر.

وفي واقع الحال فإن حركة حماس، شأنها شأن كثير من حركات الإسلام السياسي، لا تولي أهمية للمرجعيات أو الشرعيات الدنيوية. هكذا فإن شرعية منظمة التحرير لا تعني شيئا لهذه الحركة، فما بالك بشرعية السلطة المرتبطة باتفاقات أوسلو مع إسرائيل. وبالنهاية فإن هذه الحركة، بأجندتها الاسلاموية، ليست معنية بالكيانية السياسية، ولا بمدلولات الهوية الوطنية الفلسطينية.

ومعضلة حركة حماس هنا أنها تعيش التنازع بين مسارين، أي بين كونها حركة سياسية وطنية، محدودة في الزمان والمكان، وبين كونها حركة سياسية إسلامية، ذات أجندة ابعد وأعمق في الزمان والمكان. ولاشك أن كل نازع من هذين النازعين له استحقاقاته ومتطلباته وخطاباته. المعضلة الثانية تتعلق بمرجعية هذه الحركة بين كونها حركة وطنية فلسطينية، مرتبطة بمتطلبات النظام السياسي الفلسطيني (المنظمة والسلطة)، وبين كونها حركة إسلامية ذات مرجعيات أبعد من ذلك (ايدلوجيا وتنظيميا وسياسيا وإقليميا). والمعضلة الثالثة وهي تتعلق بمدى إيمان هذه الحركة بالنظام الديمقراطي، بما لها وما عليها، بمعنى عدم التعامل مع الديمقراطية باعتبارها وسيلة أو سلم للصعود إلى السلطة، من دون هضم مجمل تمثلات العملية الديمقراطية، وضمنها قبول الرأي الآخر والاعتراف بالتعددية، وإعلاء شأن القانون والمؤسسات والقبول بتداول السلطة، وحل النزاعات والخلافات بوسائل الحوار، وبالطرق السلمية والشرعية.

وفي الواقع فإن ممارسات منتسبي حماس في خضم أحداث غزة كشفت الكثير عن المرجعيات الحماسية المتناقضة مع المرجعيات الوطنية الفلسطينية، التي جرى ترسيخها خلال عقود من النضال الفلسطيني، بالمعاناة والتضحيات والبطولات.

هكذا شهدنا أن حركة حماس رفعت أعلامها الخضراء (ذات المدلول الديني) على حساب العلم الوطني الفلسطيني. وبينما كانت بعض خطابات حماس تبرر ما حدث في غزة بمواجهة الفاسدين والعابثين بالأمن، ظهرت خطابات حماسية تتحدث بروح استئصالية، وبعبارات تخوينية وتكفيرية، في مواجهة العلمانيين؛ علما أن حركة فتح بالذات هي الأقرب لحماس فكريا بين باقي المنظمات.

وبينما كان بعض قادة حماس يتحدثون عن احترام الشرعية الفلسطينية، ظهرت صور بعض منتسبي حماس الملثمين وهم يعبثون بالمقرات الرئاسية وينهبوها، وينتهكون حرمات بيوتات القادة الفلسطينيين، وضمنهم الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الذي تم دوس صورته. هذا فضلا عن العديد من الصور التي لا تعتبر انتهاكا سياسيا فحسب، وإنما انتهاكا أخلاقيا لصورة الكفاح الفلسطيني، ومن ضمن ذلك صور الإعدامات، وإجبار بعض منتسبي الأجهزة الأمنية على تعرية أجسامهم ورفع أياديهم (في صور أبرزها تلفزيون الأقصى التابع لحماس!). وكل ذلك يؤكد بأن ما جرى لا يقتصر على مجرد فعل سياسي، وإنما هو فعل أيدلوجي بامتياز، كونه شفع بفتاوي بعض مشايخ حماس، الذين أباحوا كل شيء في سبيل حصول ما حصل!

الآن ليس المطلوب الوقوف على الاطلال وندب ما حصل وإنما اجراء مراجعة حقيقية وجادة لأوضاع الساحة الفلسطينية لإعادة بنائها على أسس جديدة، تعددية وديمقراطية وتشاركية ومؤسسية، وضمن ذلك سؤال حماس عن مرجعياتها، وعن أين ستذهب من هنا بعد ما حصل في غزة؟!

التعليقات