31/10/2010 - 11:02

الحراك التركي في المنطقة../ إلياس سحاب

الحراك التركي في المنطقة../ إلياس سحاب
يبدو أن الترهل المستحكم في أداء النظام السياسي العربي الرسمي، منذ عــقود ثلاثة أو أربعة، في ميادين مواجــهة تحـديات العصر الحديث، ومواجهة تحديات الصراع العربي ـ الإسرائيـلي، يبدو أن هذا التــرهل قد طال به الزمن، حتى استفحل أمره بين أهل المنطقة العربية، وأصــبح قادرا على دفعهم الى الاسـتهانـة بأمور لا يـجوز الاســتهانة بها، وتضخيم أمور ليـس من داع الى تضخيمها.

من ذلك مثلا ذلك الانبــهار المبــالغ فيه إزاء ما تقوم به الدولة التــركية، منذ مدة، وما قامت به مؤخرا، من النهوض بمهمات أداء دورها الإقليمي في أكثر من مسألة، ومنها مسألة العربدة الصهيونية التي بلغت في عدوانها على غزة، وفي وقاحتها في تهويد القدس والضفة الغربية، حدوداً لم يعد يجوز السكوت عنها دولياً، فكيف بالسكوت عنها إقليميا.

لقد بلغ من غرابة التناقض بين التصرفات التركية إزاء إسرائيل بالذات، منذ مؤتمر دافوس الأخير، وبين المسار المتهافت للإدارة العربية الرسمية لصراعــنا مع اســرائيل، حداً ذهب ببعض المحللين الى حــد اعتــبار هذه التصرفات التركية مؤشرات لقرب استعادة تركيا لدورها السابق أيام الامبراطورية العثمانية. وهذا رأي شط بأصحابه الى حد الإهمال الكلي للتــناقض بين طبيعة العصر الذي تأسسـت وانتشرت فيه الامبراطورية العثــمانية، وطبـيعة عصرنا الحاضر في مطلع القرن الحادي والعشرين، التي تقول لنا بكل وضوح أنه مهما بلغ نجاح تركيا في أداء دور سياسي إقليمي مميز، فإن من المستحيل أن تستـعيد بينها وبين سائر دول الإقليم (بما فيها الدول العـربية) علاقة شبيهة بتــلك التي كانت قائمة بين عاصمة السلطنة في الاستانة والولايات العربية التابعة للامبراطورية العثمانية، التي بقيت مترامية الأطراف، على مر قرون أربعة.

أما اذا سلطنا أضواء العصر الحديث على التصرفات التركية، فسنكــتشف أنها تعبير عن استعادة هذه الدولة للتــوازن الذي أفقدتها إياه صدمة الحداثة كما خطـطها ونفذها مصطفى كمــال أتاتورك، على أساس أن امتلاك الحداثة بكل عناصرها، يقتضي بالضرورة طلاقا كــاملا مع المكــونات التاريخية لشخصية الشعب التركي، والمجتمع التركي.

لقد بدأت محاولة استعادة التوازن هذه بأحزاب إسلامية متشددة في أصوليتها، فثبت عمليا أن اتجاهاً كهذا متصادماً بالضرورة مع روح العصر. وظلت الحركة الإسلامية في تركيا تتطور من حزب الى حزب، ومن صيغة الى صيغة، حتى وصلت الى الصيغة التي تمكن معها حزب التنمية والعدالة إيجاد التوازن العملي بين العناصر الأصلية المكونة تاريخيا للمجتمع التركي من جهة، وبين مستلزمات وعناصر الدولة الحديثة، في مطلع القرن الحادي والعشرين، على تخوم القارة الأوروبية.

وما التصرفات التركية الأخيرة تجاه اسرائيل، سوى تعبير عن المجتمع التركي والدولة التركية، بعد استعادة عملية التوازن بين العناصر التاريخية المكونة للأمة، وبين عناصر الدولة الحديثة في عصرنا هذا.

تنتصب تركيا الحديثة، بعد هذه الاستعادة العميقة والأصيلة للتوازن، مثالا غريبا وسط مجموعة الدول العربية، التي راحت منذ ثلاثة عقود تندفع في مسار يبتعد بها عن عنصري التوازن المطلوب:

ـ عنصر المكونات الحضارية التاريخية للأمة العربية.
ـ وعنصر بناء الدولة، الحديثة، المعاصرة.
فالتصرف الذي قامت به تركيا أخيرا إزاء الإهانة الفظيعة لكرامتها الوطنية من خلال المقابلة الغريبة الملابسات مع السفير التركي في اسرائيل، لا يمكن أن تقوم بها إلا دولة راسخة الأركان (كدولة وليس فقط كسلطة)، ودولة حديثة تفهم روح العصر، وتمتلك كل أدوات العصر، وتحسن استخدام هذه الأدوات استخداما عصريا.

ألم تلاحظ الدوائر الرسمية، بالذات في الأنظمة العربية «المعتدلة»، أن العلاقات الاستراتيجية بين تركــيا والولايات المتحدة، هي أقوى من تـلك القائــمة بين أي دولة عربية «معتدلة» وواشنطن؟ ومع ذلك فهي علاقة مبنية على الحد الأدنى المطلوب من الندية الذي تحتفظ فيه الدولة بقرارها المستقل، المدافع عن مصالحها، حتى لو كان ذلك متناقضا مع سياسة واشنطن، ومع مصالحها.

ألم تلاحظ الدول العربية التي تقيم علاقات رسمية مع دولة الكيان الصهيوني، أن مثل هذه العلاقات، وأقوى منها، قائم بين الدولة التركية ودولة الكيان الصهيوني؟ ومع ذلك فإن تركيا لا تترك فرصة (منذ مؤتمر دافوس بالذات)، تصدر فيها تصرفات اسرائيلية مرفوضة قانونيا وإنسانيا وأخلاقيا إزاء شعب فلسطين (وليس الشعب التركي)، إلا وتعلن اعتراضها الصريح على هذا التصرف، وبأعلى صوت، وفي كل المنابر الدولية المتاحة. ولما وصلت التصرفات الإسرائيلية الى حد المس بالكرامة الوطنية للدولة والشعب في تركيا، لم تختبئ الحكومة التركية وراء علاقاتها الاستراتيجية مع إسرائيل، ولا وراء الخوف من احتمال إغضاب واشنطن، بل فرضت على تل أبيب الحد الزمني الأدنى للاعتذار (24 ساعة) وإلا قامت بسحب السفير.

لم تعد تركيا بذلك فقط الى الإمساك بزمام الموقف، وفرض احترامها كدولة وشعب، بل حركت عددا كبيرا لعله يشكل غالبية أقلام الصحافة الإسرائيلية، لتوجيه الحملة الى الدبلوماسي الإسرائيلي الذي وصفت تصرفه بالحماقة والغباء، والى تذكير الحكومة والشعب في إسرائيل، بأن تركيا لا تحتاج إسرائيل في شيء، لكن إسرائيل هي المحتاجة لتركيا دائما.

فعلت تركيا ذلك دون إعلان الحرب على أميركا أو إســرائيل، وحتى دون صراخ إعلامي.

هذا هو سر الحراك التركي الأخير في المنطقة، وهذا ما يفسر الحسرة التي يشعر بها المواطن العربي العادي، عندما يقارن بين تصرفات الدولة التركية وتصرفات الدول العربية، في المواقف ذاتها.
"السفير"

التعليقات