31/10/2010 - 11:02

الحرب الباردة «الجديدة» وإطاحة الأحادية القطبية../ ماجد الشيخ*

الحرب الباردة «الجديدة» وإطاحة الأحادية القطبية../ ماجد الشيخ*
تتعجل روسيا بلوغ ما كانه الاتحاد السوفياتي السابق في عز ازدهاره؛ كقطب رئيسي من أقطاب النظام الدولي، يراودها طموح وضع حد للتفرد الأحادي الأميركي في شؤون العالم.

وفي هذا السبيل بدأت موسكو تسارع إلى تكثيف كل ما من شأنه الظهور بمظهر القطب الآخر، والسعي للاعتراف بها كذلك، منذ بدأت واشنطن تروج لمخططاتها نشر درعها الصاروخية وراداراتها في بولندا وتشيكيا، وهو الموقف الذي شكل شرارة إطلاق سلسلة المواقف الروسية، ما حمل في طياته سباقا جديدا للتسلح من جهة، وأعطى إشارات نحو تعمّد موسكو إثارة المزيد من فصول حرب باردة جديدة قبل انتهاء ولاية الرئيس فلاديمير بوتين في السلطة، وبهدف ضمان استمرار وتواصل نهجه في التعاطي مع الولايات المتحدة. إلا أن تنافسا جديا بين مصالح قومية متضاربة، لا يمكنه أن يخفي شكلا من أشكال «الحرب الباردة» المتواصلة منذ سنوات القرن الفائت، وهي «الحرب» التي ورثتها الرأسماليات العالمية في أعقاب حروبها الدامية الساخنة.

وها هي «الحرب» على درجات برودتها المنخفضة تتواصل؛ لكن لأسباب ومسميات وتحت عناوين جديدة، وذلك على خلفية فشل التوصل إلى تسويات مقبولة وراسخة؛ إزاء العديد من الملفات الموروثة والجديدة والمتجددة؛ في عالم أحادي القطب، لم تستطع الإدارة الامبراطورية الأميركية غير المتوجة أن تقوده إلى بر الأمان، أو الاستقرار أو السلام الدائم، وهي رائدة الحرب، بل الحروب الخارجية التي دشنتها منذ بداية القرن، ورغم إخفاقاتها؛ فهي تمضي بها الآن بلا هوادة من دون أن يرف لها جفن.

إن دخول روسيا عالم الرأسمال الدولي والتجارة الدولية؛ ومن موقع المنافسة، لم يكن إيذانا بخروجها من جلدها كدولة قومية كبرى، تسعى إلى استعادة هيبة قوتها ومكانتها الدولية، وسط عالم متغير؛ تغيرت فيه روسيا كذلك. وإن كانت سعت وتسعى لبناء اقتصاد قوي، فإنما كانت عملت وتعمل على الخروج من ترديات ضعفها السياسي الذي تركها نظام بوريس يلتسين تسبح في لججه، لتواجه الغرب الذي تعاطى معها كرجل مريض على غرار التعاطي الذي ساد مع الدولة العثمانية، إلا أن صعود العدوانية الأميركية ما بعد جرائم 11 أيلول الإرهابية، والتلويح بأهدافها الامبراطورية عبر قوة عسكرية أحادية طاغية، كان لا بد لهما من أن يدفعا الأطراف الأخرى إلى حلبة المنافسة، وإلى إعادة النظر في سياساتهم، وهذا ما فعلته كل من روسيا والصين.

وإن سلكت الصين وانتهجت الطريق الاقتصادي كعنصر رئيسي للمنافسة الشاملة مع الغرب، فقد اتجهت روسيا إضافة إلى محاولة استعادة وضعها الاقتصادي القوي، إلى المنافسة العسكرية ولو بحدود لا يستنزف معها اقتصادها، أو تتضرر معها سياساتها الاجتماعية، لا سيما أن أمامها تجربة الاتحاد السوفياتي السابق وخبرة انهياره أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، بعد غزوه أفغانستان وارتفاع وتيرة المنافسة العسكرية مع الغرب والولايات المتحدة تحديدا.

على هذا الطريق شهد التوجه الروسي نحو تطوير كل أنظمة التسلح الباليستية والتقليدية والنووية، المزيد من أشكال المنافسة، وذلك كرد عملي على نوايا واشنطن نشر أنظمة الدرع الصاروخية، وفي هذا نوع من التوجه العملي، أو هو خطوة متقدمة على طريق سباق التسلح، أملتها وتمليها معطيات الوضع الدولي الراهن بسماته الأحادية القطبية.

ويبدو أن مشكلة روسيا الحقيقية الآن، من وجهة نظر موسكو ذاتها، أنها تكمن في ضمان نجاح نهج بوتين. لكن السؤال الذي يلح هنا: هل روسيا مؤهلة سياسيا وعسكريا للدور الذي يريد بوتين لها أن تلعبه؟ لا شك في أنه أصبح لدى روسيا قدرات اقتصادية عالية، بفضل أسعار النفط المرتفعة وعقود الغاز واستثمارات أخرى أتاحت تدفقات مالية هائلة؛ في ظل نمط من أنماط عولمة استفادت منها ولم تتضرر جراءها؛ كما أن رفع مبيعات الأسلحة الروسية إلى حلفاء الاتحاد السوفياتي السابق، اعتبر نوعا من التمدد الاقتصادي الذي يساهم في النهوض الاقتصادي الروسي، إلى حد الدخول في منافسة اقتصادات أخرى في العالم الغربي، وذلك في سياق ابتناء قاعدة اقتصادية قادرة على استعادة هيبة الردع والقوة القومية الروسية. ومن ضمن توجهات موسكو في هذا الاتجاه حماية مصالحها الاقتصادية الهامة في إيران والدفاع عنها، ورفض الانسياق خلف الأهداف الأميركية الساعية إلى ضرب بنية مفاعلاتها النووية أو فرض عقوبات قاسية عليها.

إن الاعتماد على منطق «الحرب الباردة» قد يؤدي إلى حسابات خاطئة، فما نشهده اليوم من تبريد وتسخين فوق سطح واحد، يشير إلى أن «الحرب الباردة» الحالية ليست كتلك القديمة؛ ايديولوجية أو فكرية تستنزف الاقتصاد تدفقات واستثمارات مالية هائلة، لتصرف على التسلح والعسكرة. «الحرب» الحالية تأخذ شكلا تنافسيا، بل صراعيا على المصالح القومية، والتسابق للهيمنة على مناطق ومفاتيح النفوذ، إنما عبر الاقتصاد ورزمة من أشكال أخرى تتعدد فيها وسائل الصراع غير العنيف، حتى ولو عبر استعمال أدوات عسكرية كالصواريخ والأساطيل والرادارات... وغيرها.

إن فشل العولمة في طبعتها الأميركية الراهنة، في تلبية احتياجات ومتطلبات الدول والقوميات والشعوب، يعيد الاعتبار لمنطق التصارع على مناطق المصالح والنفوذ والأسواق بين رأسماليات متنافسة؛ كما هي الحال الآن بين روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة ودول الغرب الأوروبي من جهة أخرى، حيث يذهب الروس إلى مناطق كانوا يستسهلون الدخول إليها أيام العز السوفياتي، وذلك بهدف الدفاع عن الأمن القومي الروسي، لا سيما أن واشنطن عبر درعها الصاروخية ونشر راداراتها في كل من تشيكيا وبولندا، اعتُبرت من جانب موسكو انها تقترب من حدود الأمن القومي لروسيا، الحالمة باستعادة أمجاد الدولة السوفياتية، والطامحة إلى التعاطي معها كدولة عظمى، لا تختلف عن الدول العظمى الأخرى الحليفة للأميركيين؛ سوى أنها كانت يوما القطب الآخر في نظام عالمي قديم، وتطمح اليوم لاستعادة مثل هذه القطبية في نظام عالمي جديد، لم تستطع واشنطن حتى الآن حسم إمكانية قدرتها للاحتفاظ بموقعها الامبراطوري فيه.

في المحصلة يمكن القول إن «الحرب الباردة» لم تتوقف منذ أن بدأت في سنوات القرن الماضي، وها هي تتواصل بعناوين جديدة؛ وفي ظل معطيات مستجدة، باتت موسكو ترى في ذاتها قدرة إزعاج وممانعة متنامية للاحتكار الأميركي، عبر استئناف مكانتها كدولة عظمى، والدخول إلى رحاب منافسات جدية بين مصالح قومية متضاربة. فهل تتعمد موسكو إثارة المزيد من «فنون» (حربها الباردة) الجديدة قبل رحيل بوتين من السلطة.. وإمكانية عودته إليها بشكل أو آخر، في محاولة لضمان استمرار وتواصل النهج الروسي (البوتيني) في التعاطي مع الولايات المتحدة وأحاديتها القطبية التي تشهد الآن منافسة جدية من جانب روسيا عسكريا وسياسيا، ومن جانب الصين اقتصاديا، ومن جانب أوروبا على أصعدة أخرى مختلفة، رغم الانسجام الظاهر في وحدة الهدف الغربي عبر ضفتي الأطلسي؟؟
"السفير"

التعليقات