31/10/2010 - 11:02

الدولة التي قتلها العرب.. مراراً../ كرم الحلو

الدولة التي قتلها العرب.. مراراً../ كرم الحلو
ليس أكثر التباساً في الفكر العربي المعاصر من إشكالية الدولة. فهل الدولة هي السلطة أو هي «نصاب تمثيلي» مستقل عن الأفراد والجماعات والسلطات قائم فوقها جميعاً؟ وما علاقتها بالأمة أو بالمجتمع المدني أو بالمجتمعات الأهلية؟ وهل ثمة دولة في عالم عربي مرتد إلى عصبوياته؟ ثم ما هو التصور السائد في الفكر العربي لمفهوم الدولة؟ هل هو الدولة في صورتها السلطانية الاستبدادية القهرية وفق التصور الخلدوني أو هي الدولة في شكلها الليبرالي المستحدث أو في أصلها ومضمونها الطبقيين وفق التصور الماركسي أو في وجهها التسلطي الراهن والمتداول على الساحة العربية؟

أسئلة مربكة لخطابنا السياسي قد لا نجد لها أجوبة جدية، إلا أن ما لا يمكن إنكاره أو تجاوزه حقيقة أن الدولة ليست مضافاً في تاريخ المجتمع، بل هي ماهيته التي من دونها لا يكون مجتمع، بل فضاء لجماعات منفصلة بعضها عن بعض. وهي ثورة في تاريخ المجتمع الإنساني بمقدار ما كانت تأسيساً جديداً لمعناه ولوجوده التاريخي.

ثمة تلازم ماهوي إذاً بين الدولة والفرد والمجتمع المدني، بل بينها وبين الحداثة في كل تجلياتها، إذ لا مبادرة ولا نمو ولا تقدم ولا تطور ولا حرية من دون دولة. حتى أن التفكير في الحرية هو بالأساس تفكير في الدولة، وتصور أي حل فرداني خارجها يناقض المفاهيم السائدة، لأن الحرية كتفلّت مطلق من قيود الدولة «ضرب من الطوبى» على حد تعبير عبد الله العروي. كما أن الحرية مستحيلة كذلك في كنف المجتمع الأهلي وعصبوياته القبلية والعشائرية التي لا تعترف بالفرد ولا بالمجتمع المدني المتلازم مع حريته وإرادته وخياره المستقل. من هنا فإن أية حركة إصلاحية حداثية يجب أن تبدأ من الدولة وأن تكون الدولة مناطها وأداتها.

لعل هذا بالذات ما أربك التوجه الحداثي في العالم العربي منذ بدايات النهضة العربية في القرن التاسع عشر إلى الآن. فالدولة كانت ولا تزال موضع ريبة ومساءلة، إن بإزاء العصبويات الأهلية المتجذرة في المجتمعات العربية أو بحكم التنازع بين الواقع والطوبى الذي أفقدها شرعيتها الشعبية وعمقها الجماهيري.

هذا المأزق الحداثي للدولة العربية عبّر عنه المفكر النهضوي الرائد فرنسيس المراش الذي رأى في ستينيات القرن التاسع عشر، مأخوذاً بروح التنظيمات العثمانية التحديثية، أن العرب قد لا يخرجون من دولة الخشونة والبربرية إلى دولة التمدن إلا «بقوة المعجزات، وبعد ألف عام» لأنهم شعب منقسم على نفسه من كل قبيلة وملة تحت السماء، وكل حزب منهم يجتهد بخراب الآخر ودثاره، فضلاً عن أنه ليس لديهم محبة وطنية منزهة عن أغراض الطائفية والتعصب الطائفي.

ولم يكن قسطنطين زريق بعد قرن وثلث القرن على رؤية المراش التشاؤمية لقيام الدولة الوطنية العربية، أقل إحباطاً وتشاؤماً، إذ قال في آخر كتبه «ما العمل» قبيل رحيله: «عليّ أن أعترف بأنني كنت أتكلم وأكتب في الماضي عن «الأمة العربية» فإذا أنا أتجنب هذه التسمية لبعدها عن الواقع المعيش... بل إنني غدوت أشك في صحة التكلم على «المجتمعات العربية القطرية» أو على «المجتمع العربي العام» نظراً إلى قصور أهل كل منها وأهلها جميعاً عن تكوين ما يصح أن يدعى «مجتمعاً» أو «شعباً» وإلى استمرار خضوعهم لنزعات ضيقة مفرقة ولمطالب فاسدة مخرّبة، وبالتالي إلى عجزنا جميعاً عن تحقيق التكتل الوطني أو القومي، وهو الشرط الأول من شروط البقاء».

عند زريق إذاً كما عند المراش، الدولة مفتقدة لشرعيتها الليبرالية، الوطنية والقومية، نظراً لانقساماتها العصبوية وغلبة النوازع الأهلية، الطائفية والقبلية والعشائرية على بنيتها، وعلى المنحى التوحيدي الذي به تكون دولة، سواء بالمعنى الوطني أو القومي.

أما الدولة السلطانية السائدة في العالم العربي في القرون الوسطى وقبل الثورة الحداثية في الغرب وانفتاح العرب على مفاهيمها الليبرالية، فقد كانت هي الأخرى تفتقد الشرعية الشعبية، إن بحكم تناقضها مع طوبى الخلافة الإسلامية، أو بحكم الجماعات القبلية والعشائرية والطائفية التي كانت تعيش في كنفها ولا تنتمي إليها إلا قسرياً، مفضّلة إدارة شؤونها بنفسها.

ولم تعمل الإيديولوجيات الحداثية في العالم العربي باتجاه الاعتراف بالدولة ومدّها بالشرعية المفتقدة. فالإيديولوجيا القومية تعاملت معها باعتبارها كياناً مصطنعاً وتجزئة قسرية بغيضة للأمة العربية الواحدة، والإيديولوجيا الطبقية أعرضت عنها باعتبارها عائقاً أمام الأممية البروليتارية، فضلاً عن كونها التنظيم السياسي للطبقة السائدة وأداة الطبقة المستغلة لقمع الشعب المستغل، والإيديولوجيا الأصولية انشغلت عنها بطوبى وحدة المسلمين والأمة الإسلامية فوق كل الاعتبارات الأخرى قومية أو وطنية أو طبقية.

في كل الحالات كانت «الدولة» هي المتهمة والمضحّى بها في سياق التنازع بين الواقع والطوبى بكل أشكالها واتجاهاتها. بتعبير عبد الله العروي كانت الدولة العربية بحاجة دائماً إلى «أدلوجة دولويـة» تمدها بقدر معين من الإجماع العاطفي الوجداني الفكـري بين المواطنــين. ولهــذا ظلت واهنة واهية على رغم جهازها السلطوي القمعي، وعلى رغم ما تسديه من إنجازات اجتماعية وإنمائية لم تكسبها ولاء ولم تُنشئ إجماعاً حولها.

هل يمكن أن يستمر التعامل مع «الدولة» على هذه الحال بينما يبدو العالم العربي اليوم على وشك التمزق إلى عصبوياته، على ما تنذر به الانقسامات الحادة الراهنة، من العراق واليمن والسودان إلى لبنان وفلسطين والجزائر، إلى أرجاء متعددة من الأمة العربية، حتى أن التوحيد القومي والوطني أو حتى المجتمعي، بات من المستحيل التفكير فيه، في ظل الانهيار المتمادي والمتسارع في بنية الأمة والممتد إلى عمق تكويناتها كافة.

ما يبرر التساؤل عن المستقبل العربي إزاء التحديات الوجودية الكبرى التي تهدد الكيانات التاريخية العربية في الصميم، وصولاً إلى طرح الانتماء العربي بالذات على بساط البحث. ما كان قد أوجس المفكر القومي العربي محمد عابد الجابري، إذ ساوره الشك في نهاية القرن الماضي، في إمكان ومشروعية التفكير في مستقبل واحد للعرب.

عوامل أساسية وقفت وراء مأزق الدولة في العالم العربي. فهي لم تبحث جدياً في خلفيات البنيات المجتمعية العربية وإرباكاتها الذاتية التي أجهضت أو أعاقت تطورها المدني، وحالت دون ارتقائها من واقع الدولة السلطانية على النمط القروسطي إلى النمط المواطني الحداثي. فثمة انقسامات ممتدة في الجسم السوسيولوجي العربي وثمة تكوينات أقلوية لم تؤخذ بما تستحقه من الأهمية، ولم يُعبأ بدورها في تهديد بنية الدولة من داخلها. لقد قلل الفكر الوطني والقومي من الدور المركزي لهذه التكوينات، وعوض أن يذهب إلى احتضان مقولة الدولة الوطنية، باعتبارها شكلاً متقدماً من أشكال الوحدة المجتمعية، أمعن في العداء لها من منظور إيديولوجي بحت.

والدولة العربية لم تعبأ بما للديموقراطية من دور في وحدتها وقوتها. تعاملت مع الشعوب بوصفها «جماهير» أو «رعايا» عليها أن تتنازل عن حقوقها من دون مقابل، وأن تضحي من أجل شعارات زائفة ومخادعة لا طائل لها فيها. فكان أن تقدمت «التسلطية» القائمة على العصبية والعنف لتؤجج الصراع بين الأمة والدولة، وتقودها إلى خواء شامل عمّم الفقر والأمية والانحدار الثقافي والأخلاقي، وقَمَعَ عملية التحديث فأخليت الساحة أمام زحف القرون الوسطى من جديد، وأجلت ولادة الدولة الحديثة.

والدولة العربية لم تدرك التلازم الضروري بين الحرية والعقلانية والتنمية، وأحالتها إلى خلفية اهتماماتها، فكان أن بقيت التركيبات القبلية المتخلفة تعمل في موازاة الأفكار والتحديثية إلى أن انقلب العقل الأصولي على كل ما تحقق من تحديث وعصرنة.

والدولة العربية لم تواجه مسألة الفصل بين السياسي والديني، ولم تعين حدود الدين في الحياة السياسية والاجتماعية من منظور حداثي، فكان أن اكتسح الديني السياسي، والأصالة الحداثة، والماضوية العصرنة.

والدولة العربية لم تجابه إشكاليات أساسية تهدد البنية الوطنية في الصميم، كإشكاليات الفقر والانفجار الديموغرافي وتريّف المدن وتخلف المرأة العربية، ما أدى إلى انسحاب العقل الريفي وأعرافه المتخلفة على العقل المدني، وطغيان العلاقات الشخصانية بالتالي على العلاقات المدنية والمواطنية.

في ظل هذا الواقع، ليس غريباً أن تكون الدولة العربية في مأزق، وأن تبقى مطروحة كإشكالية إلى جانب الإشكاليات العربية التاريخية المستعصية.
"السفير"

التعليقات