31/10/2010 - 11:02

السياسة الأمريكية الخارجية.. المتحوّل في خدمة الثابت!../ عبداللطيف مهنا

السياسة الأمريكية الخارجية.. المتحوّل في خدمة الثابت!../ عبداللطيف مهنا
لم يبق للرئيس الأمريكي جورج بوش الابن الكثير من الوقت في البيت الأبيض، فترته الرئاسية الثانية تقترب من نهايتها، وزمن تربعه على سدة قرار العالم في المكتب البيضاوي هو إلى أفول، لكن فترتي هذه الرئاسة الزائلة بانقضاء العام القادم لن تكون إلا حقبة من عمر العالم سوف يتوقف التاريخ أمامها في قادمه من العصور، سوف لن يغفل كونها حقبة شهدت على امتدادها توتيراً قياسياً مستمراً لعالم كان فيها نهباً للقلق، واتسمت بتغوّل أمريكي بلغ مبلغاً أرعب جهاته الأربع... حقبة فيها بلغت الحماقات الاستباقية المترافقة مع الجموح الإمبراطوري للمحافظين الجدد مداها. مداها الذي لا يلوح من بعده إلا بدايات العد العكسي لمراحل الأفول... الإمبراطورية، القوة الأعظم، القطب الأوحد المتفرد بقرار الكون لغياب المقابل، ارتطم بسقف قدرته، ولا من سبيل بعد بلوغ القمة من البدء الإجباري في مسيرة الانحدار... إنها محتوم السيرورة التاريخية للإمبراطوريات... هذا ما يقوله لنا التاريخ...

الحقبة البوشية الأمريكية ليست نسيج وحدها، وإنما كان لها مقدماتها ولها ما يتلوها، أيضاً، وفق السيرورة التاريخية للإمبراطوريات، فإذا لم يأتها بوش فلسوف يستبدل ببوشات آخرين ذوي مسميات أخرى، ومعه محافظوه الجدد الآخرون... وهنا، نطرح تساؤلاً، ربما سبقنا إلى طرحه كل العالم مدار التوتير وحقل القلق: وإذا ما رحل بوش عن البيت الأبيض وافتقد العالم إطلالته المستفزة غير المرغوبة وغير المأسوف على فقدانها، فهل من اختلاف سوف يطرأ على الخطوط العريضة للسياسات الكونية الأمريكية؟!

هل من تبدل في الاستراتيجيات الإمبراطورية للقوة الأعظم، التي بلغت سطوتها الكونية مداها، الذي ترجمه المحافظون الجدد بلطجة استباقية وتخبطاً عضلاتياً استحق بجدارة عدائية كونية مستشرية شملت أغلب أمم العالم تجاه الولايات المتحدة المعبّر عنها زمنياً بهذه الحقبة البوشية ذات السمة التوتيرية ومثار قلق العالم؟!

الجواب، وبسرعة: لا اختلاف جوهريا، ولا تبدل في الخطوط العامة إنما في السياسات أو الاستراتيجيات... إذا ما أخذنا في الاعتبار ما اخبرنا التاريخ به عن صيرورات ما مر به من الإمبراطوريات... السؤال عينه، يجرنا إلى سؤال آخر، هو:
إذن ما هو الثابت والمتحول في السياسات الأمريكية الدولية، في بلادنا والعالم؟!

سوف نقصر مقاربة الإجابة على هذا السؤال على الحقبة البوشية إياها، وسياساتها اتجاه المنطقة، أنموذجاً، والتي لا تعدم الصحة عملية سحبها مستقبلاً على ما يخلفها من الإدارات، سواء أكان جمهورياً استباقياً، أو أكثر تعقلاً وأقل جموحاً إمبراطوريا، أم كان ديمقراطياً لا يجرؤ على مخالفة الخطوط العامة المرسومة لمسارب القوة الإجبارية، أو ما قلنا إنها الصيرورة المحتومة للإمبراطوريات. بين بوش وسواه، وبين الجمهوريين والديمقراطيين، لا خلاف في الاستراتيجيات أو نوازع المشروع الكوني الهيمني بعامة، وعلى الأخص ما يتعلق منه ببلادنا، ومن ذلك، تلك العلاقة العضوية بإسرائيل، أو بالتحديد هذا التطابق الذي يفتقد شاهداً واحداً على ثمة فارق ولو ضئيل، بين الإستراتيجية الأمريكية الأم والإستراتيجية الإسرائيلية الفرع المستظل بمظلتها والمحاول الانسجام المفيد معها. لنأخذ أمثلة:

في المتحوّل، وفيما يتعلق بالمنطقة. وهنا نضع جانباً كل ما ضخه الأمريكان في آذان العالم من أكاذيب وذرائع وأوهام سبقت ولازمت تنفيذهم لمخطط غزو العراق وتدمير الأسس التي تقوم عليها الدولة العراقية. وهذه المذبحة اليومية التي يواجهها العراقيون بإشراف و إدارة الاحتلال وكنتيجة موضوعة له، لاسيما بعد ان تعثر المشروع الكامن خلف استهدافات الغزو، وازدياد كلفته المادية والبشرية، نظراً لاشتداد عود المقاومة العراقية الأسرع اندلاعا في تاريخ العالم، ونكتفي بمتابعة سياسة المساعي اللحوحة توخياً لإيجاد المخارج من الورطة العراقية، والإصرار على تلمس سبل البقاء الدائم أو المهمين في العراق.

قبيل اللقاء البغدادي بين الولايات المتحدة وإيران للتباحث حول المسألة العراقية، والذي سبقه لقاء شرم الشيخ، إلى جانب ما قد يكون من تواصل بالواسطة أو من وراء الكواليس، قال طوني سنو معقباً على ما رشح من توقعات حول هذا اللقاء أو اللقاءات المزمعة، قبل إتمامها جميعاً: "لسنا بصدد عملية اعتراف ديبلوماسي بإيران". ويضيف: "يصف الكثيرون المشاركة الأمريكية في اجتماع إقليمي بأنها تغير في السياسة، وهذا غير صحيح"، ليعود فيقول:
ان المشاركة "لن تكون فرصة لتغيير في المشهد الديبلوماسي"!
ومع ذلك حدثت اللقاءات، وكانت كلها منصبه على محاولة مساوماتية لتلمس ما يعين على الخروج من الورطة والبقاء الدائم غير المكلف في العراق...

يقول وزير الخارجية الإيطالي داليما، والأوروبيون عوّدونا دائماً على الاندلاق لأخذ دور المروّج للسياسات الأمريكية أو تلطيفها لتمررها: إن حل المشكل النووي الإيراني يكون بمحاورة إيران حول الأمن الإقليمي!!!

سياسة المساعي اللحوحة بل المستميتة للخروج من الورطة العراقية والبقاء في العراق، والتي تندرج في المتحول التكتيكي الخادم للثابت الاستراتيجي، سرها يكمن في كلفة الاحتلال الملازم لتعثر المشروع... الخطة الأمنية أو آخر الخطط تعثرت وقد مضى عليها ثلاثة أشهر، لتحصد سراباً، أشرت عليه صحيفة "النيويورك تايمز" عندما نقلت عن تقرير عسكري أمريكي داخلي يقول بأن المحتلين وعراقييهم لا يسيطرون إلا على أقل من ثلث العاصمة العراقية، فمن بين 457 حياً بغدادياً بالكاد يسيطرون على 146 حياً، أي أن 311 حياً هو خارج هذه السيطرة... برر الناطق باسم الجيش المحتل الكولونيل كريستوفر غارفر ذلك بقوله: لقد "قلنا منذ البداية أن الوضع سيكون صعباً قبل أن يسير سهلاً. سيكون أمامنا قتال صعب في الصيف، والخطة لا تزال في بداياتها"!

غارفر اعترف بفشل الخطة، حتى أنه قال: "هناك بعض المناطق التي يجب أن نعود ونطهرها مجدداً، وهذا أمر صعب"...
... وفي سياق هذا المتحول خدمة لذلك الثابت، تتضافر جهود الإدارة والبنتاغون والسي آي إيه، لتصب كلها في مسرب محاولات الخروج من الورطة والبقاء المهيمن، ليس في العراق وحده وغنما سائر المنطقة...

المصادر الأمريكية، ما سواها، تقول: إن الإدارة الأمريكية، بعيداً عن أنظار الكونغرس، تشرف على عمليات لـ"حرب إعلامية سرية ومفتوحة"، وتوالي "جهوداً دعائية سوداء". وتبحث عن "حلفاء محتملين"، وتسعى لاستخدام بعض "الجماعات المحلية" في هذا السياق.
... وإن البنتاغون، يقود بدوره عمليات هي أيضاً "سوداء" بموافقة من مجلس الأمن القومي ومكتب نائب الرئيس ديك تشيني... أما السي آي إيه، فلا تقل صنائعها سوداوية من الإدارة و البنتاغون، إذ تقول المصادر إياها إنها أيضاً تشن "حرباً دعائية سوداء" ضد دول ومنظمات بينها إيران وسوريا وحزب الله...

والآن، ما هو الثابت؟!
يقول وزير الحرب الاستخباراتي المنشأ، روبيرت غيتس، إنه يرجح بقاء القوات الأمريكية في العراق "على مستوى منخفض بشدة، على غرار وجودنا في كوريا وألمانيا، وأماكن أخرى حول العالم... لفترة طويلة من الزمن"!

ومن أجل هذا البقاء، طلب من مجلس الشيوخ تخصيص 2.4 مليار دولار لتمويل الأبحاث الرامية إلى إبتكار وسائل للتغلب على القنابل التي تزرعها المقاومة العراقية على الطرق لاصطياد آليات المحتلين، والتي يقول الأمريكان أنها وحدها تسببت بمصرع أكثر من ألف جندي من جنود الاحتلال منذ غزو العراق.

النيويورك تايمز، أكدت على وجود رؤية واضحة ومفصلة لكيفية استمرار الوجود العسكري الأمريكي في العراق المستند إلى التجربة الاحتلالية في كوريا الجنوبية كأنموذج... إنه التمركز فيما بين 3 إلى 4 قواعد عسكرية رئيسة تتوزع في العراق شمالاً ووسطاً وجنوباً... "الأسد " في الأنبار والجويتان في "بلد" شمالي بغداد، و "تلّيل" في الجنوب!

إذن، هم لم يأتوا إلى العراق ليخرجوا منه... إي لا خروج لهم منه إلا مهزومين على يد المقاومة التي بدأت انتصاراتها تلوح لتدفع متحولات السياسة الأمريكية إلى الواجهة... هنا تجدر الإشارة إلى أكذوبة يروج لها المحتلون ويرددها ببغائياً الواهمون، ترد التعثر في المشروع الأمريكي في العراق وحتى المنطقة، إلى جملة من الأخطاء التي ارتكبها الأمريكان عقب احتلال بلاد الرافدين... والسؤال، ماذا لو كانت هذه الأخطاء سياسة معدّة وأقرت سلفاً، بغض النظر عن مردودها الكارثي على البلد والاحتلال معاً؟

"الواشنطن بوست: نشرت مقتطفات مما نسبته إلى تقرير سرّي للسي آي ايه قدّم للإدارة الأمريكية قبل سبعة أشهر من تاريخ البدء في غزو العراق، يقول بأن الوكالة تتوقع، ومنذ آب أغسطس عام 2002 أسوأ السيناريوهات في حال غزو العراق، وبينها: الفوضى، وانهيار الوحدة الجغرافية للبلد، وتزايد "الإرهاب الدولي"، وتنامي العداء للولايات المتحدة في العالم"

إذن، وبغض النظر عن خروج بوش من البيت الأبيض المقترب أوانه، الأمريكان لم يأتوا للعراق-المنطقة ليخرجوا منه أو منها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، أي لن تخرجهم منه ومنها لا المقاومة، هذا ما تقوله لنا الوقائع ويؤكده لنا تاريخ الإمبراطوريات...
تلك التي ليس لصدفة، دفنت جميعها، في بلادنا... اليونانية، الفارسية، الرومانية، الصليبية، البريطانية، الفرنسية... والأمريكية من قال أنها ستكون نشازاً؟!

التعليقات