31/10/2010 - 11:02

الصراع الأبدي بين القوة والقانون../ إلياس سحّاب

الصراع الأبدي بين القوة والقانون../ إلياس سحّاب
من المؤكد والثابت أن الصراع بين القوة والحق ولد مع ولادة البشرية، وهو صراع كانت محطته التاريخية الأولى حادثة قابيل وهابيل.

وإذا كانت القوة وممارساتها، مفهوماً شديد الوضوح، منذ بداية الحياة البشرية على وجه كوكب الأرض، فإن الحق قد تطورت أشكال التعبير عنه، مع تطور الحياة البشرية. وإذا كانت بداية التطور قد تجسدت في اعتبار الحق قيمة أخلاقية عليا في المجتمعات البشرية الأولى، فقد تطور مفهوم الحق إلى درجات أرقى وأقوى، مع ظهور الديانات السماوية، بشكل خاص. لكن المؤكد أن اكتمال تطور أساليب التعبير عن الحق، في المجالين المعنوي والعملي، تم مع ظهور الشرائع القانونية التي تنظم حياة البشرية الاجتماعية والسياسية.

وإذا كان القرن العشرون قد دخل التاريخ كواحدة من أبشع الحقب الإنسانية وأقساها، بحربيه العالميتين، الأولى والثانية، وبمجزرتي هيروشيما ونجازاكي النوويتين، وبمجموعة الحروب الصغيرة التي ملأت القرن، من أوله حتى آخره، فإن هذا القرن العشرين نفسه، قد دخل التاريخ أيضاً كواحدة من أزهى حقب التاريخ البشري، بإنتاج الوثائق الدولية التي حولت قيم الحق، على جميع الصعد الفردية والاجتماعية والدولية، إلى نصوص قانونية ذات قوة معنوية عليا. ويمكن القول باختصار شديد إن هذه الوثائق قد جاءت، سواء من داخل الأمم المتحدة أو من خارجها، تلخص كل التطور الحضاري للبشرية عبر تاريخها الطويل، وتشمل كل المواضيع والمجالات التي يمكن أن ينشب فيها صراع بين القوة والحق، فتجعل الحق دائماً، في موقع أعلى من القوة وأسمى.

حتى أن البشرية توصلت مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، إلى إبرام نص معاهدة في مدينة جنيف السويسرية، تنظم العلاقة التي يجب أن تقوم بين قوة محتلة وشعب تعرضت أرضه للاحتلال، ما دامت عملية الاحتلال قائمة. وهي وثيقة قانونية رفيعة المستوى، تشمل كل احتمالات هذه العلاقة، وتضع لكل احتمال حدوده الأخلاقية والقانونية.

غير أن كل هذه التحولات البشرية الحضارية الإيجابية، لم تستطع أن تسيطر على الصراع الأبدي في حياة البشر بين القوة والحق، وبين القوة والقانون. بل، على العكس من ذلك تماماً، فإن القرن العشرين، كما شهد ولادة أرقى وأرفع الوثائق الفكرية البشرية التي حولت قيم الحق إلى صياغات قانونية دقيقة وصارمة، سعياً وراء مزيد من العدالة والتوازن في نشوب الصراعات البشرية، فإنه شهد أيضاً سلسلة من الأحداث، كانت مسرحاً عملياً يثبت من خلاله أنه مثلما كانت القوة أعلى من الحق، طوال حياة المجتمعات البشرية، فقد بقيت القوة أعلى من القانون أيضاً، حتى عندما تحول إلى شرعة دولية ذات مواثيق تنص على حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل، وتحاول تنظيم صراعات القوة الدائرة بين البشر، ووضع ضوابط خلقية وقانونية صارمة لهذه الصراعات.

لا تطمح هذه السطور طبعاً إلى تأريخ مفصل لكل محطات الصراع المتأجج بين القوة والقانون في القرن العشرين، لكن من المهم (على سبيل المثال لا الحصر)، التوقف ولو بسرعة أمام محطتين يمكن اعتبارهما نموذجاً لانتصار القوة على القانون، في الحياة الدولية في القرن العشرين:

1- ولادة “إسرائيل” على أرض فلسطين العربية.

2- تفرد الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة النظام الدولي الجديد.

لقد أصبح العالم كله يعرف، وليس العرب فقط، من مراقبة الدور السياسي الإقليمي والدولي للكيان الصهيوني في فلسطين، على مدى ستة عقود كاملة، أنه لم يسبق لدولة طبيعية في التاريخ، أو دولة كانت مدينة بوجودها لقرار دولي (مثل “اسرائيل”)، أن وضعت نفسها فوق كل القرارات الدولية، بل فوق القانون الدولي نفسه، بل هي تفعل ذلك بدعم كامل من الدولة العظمى في المجتمع الدولي، التي تضع في خدمتها حقها في استخدام النقض (الفيتو)، ضد أي قرار دولي يدينها، أو يحد من حركتها في العدوان والتوسع والاحتلال.

أما سجل الولايات المتحدة كقوة عظمى تحتكر زعامة النظام الدولي الجديد، فإنه على قصر عمره (منذ بداية تسعينيات القرن المنصرم إلى يومنا هذا) يبدو سباقاً، ليس فقط في تاريخ القرن العشرين، بل في التاريخ البشري كله، في احتلال المركز الأول في إعلاء حق القوة، على قوة الحق، وقوة القانون.

إن هذا السجل يمتد في العقدين الأخيرين، ليملأ مساحة مجلدات عدة، لكننا نكتفي في هذه العجالة، بنماذج منه:

الولايات المتحدة رفضت وما زالت ترفض التوقيع على أي اتفاقية قانونية دولية، يمكن من خلالها أن يخضع دبلوماسيوها أو جنودها لأي محاكمة أو مساءلة قانونية، خارج حدودها. فتضع قوتها بذلك فوق أي قانون دولي.

الولايات المتحدة رفضت وما زالت ترفض، منذ عهد جورج بوش الأب، التوقيع على أي معاهدة دولية للحفاظ على سلامة البيئة البرية والجوية للكرة الأرضية، في مواجهة الاحتباس الحراري الناجم في القسم الأكبر منه، عن النشاط الصناعي اللامضبوط للدول الصناعية الكبرى.

ومع أن عدم الالتزام بهذه المعاهدات، وعدم تطبيق بنودها بالسرعة المطلوبة، يهدد مصير الكرة الأرضية والبشرية كلها (بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها)، فإنها من دون سائر دول العالم تصرّ جهاراً نهاراً على وضع مصالح صناعاتها الكبرى (أي مصادر قوتها) فوق مصير البشرية كلها، وليس فقط فوق الحق أو القانون الدولي.

غير أن آخر نموذج في هذا السجل الأسود واجهناه منذ أيام، على شكل قرار رئاسي من حاكم البيت الأبيض (الرئيس بوش)، باستخدام حق النقض الرئاسي، لإلغاء قرار صادر عن الكونجرس الأمريكي، يقضي بمنع أجهزة الأمن وأجهزة المخابرات من استخدام التعذيب كوسيلة لاستخراج المعلومات من أي معتقل أو متهم.

وبدل أن تكون القيمة الخلقية أو القانونية لهذا القرار، موضع نقاش من حاكم البيت الأبيض، فإنه وجه حملة شعواء لغالبية أعضاء الكونجرس التي صدّقت على القرار، بحجة أن التعذيب أثبت أنه إجراء عملي مفيد جداً لانتزاع المعلومات من المتهمين. وأنهم بوقوفهم ضد التعذيب، إنما يقفون ضد أمن الولايات المتحدة الأمريكية.

قبل هذا القرار الرئاسي، كانت كل المنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان (مثل هيومان رايتس ووتش). تؤكد في دراساتها أن دول العالم الثالث هي صاحبة الكلمة العليا في اتباع أساليب التعذيب مع المتهمين. لكن هذه المؤسسات كانت تعزو هذا “التفوق” الذي تمارسه دول العالم الثالث، إلى غياب الديمقراطية عن أنظمتها الحاكمة، وعن علاقة الحاكم بالمحكوم فيها، بحيث يفعل الحاكم ما يحلو له، بلا أي حسيب أو رقيب. فجاء جورج دبليو بوش، يقول لكل منظمات حقوق الإنسان، وبالفم الملآن، ومن دون أي حاجة لأي مواربة أو تحايل: “ما دام تعذيب المتهم يخدم مصلحة الإدارة الحاكمة في واشنطن، فليحيا التعذيب، ولتذهب الأخلاق وليذهب القانون إلى الجحيم”.

لكن المفارقة هنا، أن بوش لا يقول ما يقول أو يمارس ما يمارس في دولة من العالم الثالث، بل في الدولة التي تتباهى بأنها زعيمة الديمقراطية والحريات العامة في العالم، والتي تمنن العالم بإرسال جيوشها إلى كل بقعة من العالم لنشر “الحرية” بقوة السلاح، وقوة البطش والعدوان والاحتلال.

إنه الصراع الأزلي الأبدي بين القوة والحق، وبين القوة والقانون، وهو صراع كانت الكلمة العليا فيه، وما زالت، للقوة. وكلما كانت القوة غاشمة عمياء، كانت كلمتها هي الأعلى.
"الخليج"

التعليقات