31/10/2010 - 11:02

العولمة والفوضوية وأهداف مشتركة../ جميل مطر*

العولمة والفوضوية وأهداف مشتركة../ جميل مطر*

هوارد زين مؤرخ أمريكي اجتمعت فيه صفتان نادراً ما اجتمعتا في رجل علم أو مؤرخ، وهما الشعبية الفائقة والمكانة الأكاديمية المرموقة. قرأ تاريخ الولايات المتحدة وكتبه بطريقة مختلفة ولغرض مختلف عن الطريقة التي يقرأ ويكتب بها التاريخ أقرانه من المؤرخين ولغرض يختلف عن غرضهم أو أغراضهم، فهو يقرأ التاريخ ويكتبه كمؤرخ لا ينتمي إلى المؤسسة الحاكمة ولا تقيده قيود الوظيفة، وكمؤرخ متحرر يقرأ التاريخ كما يجب أن يقرأه فرد عادي من أفراد الشعب، وحين يكتب فإنه يكتبه لهذا الفرد من أفراد الشعب.

الشائع في أمريكا، كما في الأغلبية العظمى من دول العالم، أن التاريخ الذي يدرسه الطلاب في المدارس والجامعات ويجري بثه وتلقينه إلى الشعب عبر مختلف أجهزة الإعلام، هو التاريخ الذي سجلته على مر العصور المؤسسات الحاكمة ومؤرخوها. وقد يحدث أن تتغير أنظمة الحكم أو تتبدل أيديولوجية الطبقة الحاكمة فيشتغل مؤرخون جدد، وأحياناً المؤرخون أنفسهم على “تصحيح” التاريخ.

وقع هذا التصحيح خلال الثورة الفرنسية وبعدها وكان القاعدة، وليس الاستثناء، في تدوين تاريخ مصر عبر كافة عصورها، وحدث الشيء نفسه في مختلف عصور الخلافة الإسلامية، ويعاد الآن كما نلاحظ ونقرأ كتابة تاريخ المرحلة الاستعمارية وعصور الهيمنة الإمبراطورية الأوروبية بهدف تبييض وجه الغرب، تراهم يعترفون بدورهم في تجارة الرقيق وبيع الأفيون ونشر الفتن وإساءة معاملة السكان الأصليين، فيعقدون لهم مؤتمراً في اليابان ليسبق اجتماع قمة الثماني. بمعنى آخر يعترفون بخطأ إبادتهم ويكفرون عن هذا الذنب بقرار دولي لا قيمة له من الناحية الواقعية وبمؤتمر وحملة اعتذارات بدأتها استراليا ثم كندا والآن اليابان، بقي أن تعترف إسبانيا والبرتغال والولايات المتحدة بأعمال الإبادة الجسدية والثقافية لشعوب كانت تسكن القارتين الأمريكيتين، ولم يتبق من نسلهم أكثر من خمسين مليونا مهددين بالانقراض بسبب الفقر وسوء التغذية وإهمال المؤسسات الحاكمة.

أعتقد أنه لو لم يوجد مؤرخون من نوع هوارد زين، أي مؤرخون يؤرخون للشعوب وما جرى لهم وبهم كما يؤرخ آخرون للطبقات الحاكمة، ما كان وصل إلى علمنا الكثير عن السكان الذين سكنوا ذات يوم استراليا ونيوزيلندا والأمريكيتين من أقصى نقطة في جزيرة فيكتوريا في كندا شمالاً إلى أقصى نقطة في جزيرة أرض النار في شيلي جنوباً.

لقد رحل عن الحياة منذ أسابيع قليلة رؤوف عباس، وهو مؤرخ كبير، لعله كان أقرب مثال ممكن بين المؤرخين العرب لهوارد زين ومدرسته. ولو كانت ظروف مصر السياسية والأكاديمية في وضع آخر لربما كنا نقرأ الآن فصولاً أطول عن التاريخ الشعبي لمصر خاصة وللدول العربية عامة، إلا أن ما حدث خلال المرحلة الأخيرة أحبط هذه الآمال، ففي هذه المرحلة ركزت حكومات المنطقة على إعادة كتابة فصول كاملة من تاريخ الدول العربية، والمثير في هذه المحاولات أنها جرت، وتجري، بهدوء وبتوجيهات مباشرة بعضها من خارج الإقليم أو تفرضه اتفاقات وضغوط خارجية ولا تتسرب منها تفاصيل كثيرة، ولكنها تظهر مجزأة في كتب المدارس ودروس التربية الوطنية ومقالات الصحف وبرامج الكلام في التلفزيون والمدونات وتصريحات الزعماء والقادة، هذه وغيرها هي المادة التي سوف يستند إليها المؤرخون العرب بعد عقود أو قرون في إعادة كتابة تاريخ هذه الأمة.

في المرحلة نفسها ارتفعت أصوات تطالب بحقوق فئات وقطاعات تجاهلها التاريخ الذي دونه مؤرخو المؤسسة السياسية الحاكمة أو مؤرخو مؤسسات الأغلبية المهيمنة في كثير من بلدان العالم العربي. تريد هذه الفئات والقطاعات أن يعاد كتابة التاريخ لتدون مراحل سقطت في سجلاته كانوا في أيامها يحكمون أو يسيطرون أو على الأقل يسهمون بذاكرتهم وبفيض حكمتهم في بناء تراث الأمة. في هذه الحالة تحديداً لا ننكر دور العولمة، فهي التي أنعشت ذاكرة هذه الفئات وشجعتها على المطالبة بحقها في التاريخ. وللعولمة فضل كبير لأنها قاربت بين الشعوب وفتحت على مصراعيها نافذة، بل نوافذ، على كنوز من المعلومات لم تكن متاحة بهذا القدر، أو بهذه السهولة.

يعيدنا الحديث عن العولمة إلى هوارد زين، المؤرخ الذي يكتب ويدون للشعب ولا يكتب أو يدون للمؤسسة الحاكمة أو الجماعة المسيطرة في المجتمع. ففي لقاء أخير أجرى زين مقارنة ممتعة بين العولمة والفوضوية كتيار من تيارات اليسار، شرح فيها كيف أن العولمة والفوضوية تسعيان إلى تحقيق أهداف واحدة. تسعيان لإزالة الحدود بين الدول، وللتقريب بين الشعوب، أو بمعنى أدق بين جماعات وطبقات في هذه الشعوب، وتضعان نصب أعينهما هدف إضعاف الدولة كلاعب أساسي في السياسة والاقتصاد. فالدولة في العولمة تخضع للسوق وإرادته وقوانينه ولا تتدخل فيها، والدولة حسب اليسار تخضع للطبقة العاملة وفي “الحالة الفوضوية” تنتفي الدولة ويخضع المجتمع لإرادة “الفرد”.

ويقول هوارد زين إن مبدأ خضوع الفرد لقرار الأغلبية، مبدأ ظالم. واستشهد بثورو الذي كان يردد “إننا يجب أن نتصرف وفق ضمائرنا حتى لو كانت ضمائرنا ضد الأغلبية”، وينقل عن جان جاك رسو قوله “إنه لو كان فرداً في جماعة تضم مائة شخص قرر تسعة وتسعون شخصا منهم إعدامي، فهل يطلب مني أن أوافق على قرارهم لأنهم أغلبية وأنا في وضع الأقلية”. ولن يكون المؤرخون الجدد أول أو آخر المفكرين الذي عادوا يكتشفون الأبعاد المتعددة للعولمة ليعرفوا أنها ليست كلها شراً وبالتأكيد ليست خيراً مطلقاً. فالعولمة التي تصنف الدولة لصالح الشعوب، وتزيل الحدود التي تباعد بينها، وتحث على الإبداع المستمر، كانت هي نفسها مصدراً لقمع الشعوب لصالح قوى الرأسمالية المتطرفة، أي أنها، حسب رأي أنصار اليسار الفوضوي، جعلت الشعوب تخضع لقمعين في آن واحد، قمع قوى العولمة الزاحفة لتحتل مواقع الدولة وقمع الدولة المستميتة في الدفاع عن نفسها ضد زحف قوى العولمة.
"الخليج"

التعليقات