31/10/2010 - 11:02

الفلسطينيون والمفاوضات والسلوك التنازلي../ ناجي شراب*

الفلسطينيون والمفاوضات والسلوك التنازلي../ ناجي شراب*
من المفاهيم الشائعة أن المفاوضات تعني التنازل، وقد يكون ذلك صحيحاً إلى حد بعيد، لكن المفاوضات هي أيضاً شكل من أشكال وأدوات لجوء الدول إلى تحقيق أهدافها في سياق ما تملك من عناصر القوة، ولذلك فإن المفاوضات توظيف لعناصر القوة بهدف دفع الطرف التفاوضي الآخر إلى مزيد من التنازل.

وعليه تعرف المفاوضات من بين تعريفات عديدة بأنها فن إدارة تبادل التنازلات. والسلوك التنازلي محصلة لعوامل وتفاعلات كثيرة ما بين استراتيجيات التساوم التي يستخدمها المفاوض واستراتيجيات الجدل والإقناع. وليس بالضرورة أن يكون السلوك التنازلي ناتجاً عن ممارسات الطرف الآخر لأساليب وعناصر التأثير المتاحة له. بل قد يكون نتاج عوامل أخرى مرتبطة بمحددات العملية التفاوضية ذاتها، وهذه المحددات كتوازن القوى، والمؤثرات الداخلية، وطبيعة مسألة التفاوض، وأيضاً تأثير العوامل والضغوط الخارجية.

والمسألة ليست كما يتصورها المرء، فتتفاوت تكتيكات التنازل مثل البدء بعرض متطرف، أو ما يسمى أسلوب تكرارية التنازلات، وهو بمثابة عمل أو تقديم تنازلات صغيره لا تؤثر في موقفه وهو ما تقوم به “إسرائيل”، وأخيراً عرض الفرصة الأخيرة أو التنازل في النهاية، وهذا قد ينطبق إلى حد ما على المفاوض الفلسطيني في المرحلة الحالية، فهو قد قدم تنازلات كثيرة في بداية العملية التفاوضية، وهي تنازلات لم تمس القضايا الجوهرية، ولا يستطيع المفاوض الفلسطيني أن يستمر في هذه الاستراتيجية التنازلية، وإلا ستفقد المفاوضات النهائية مضمونها وجوهرها، ولذلك قد يبقى في يده بعض التنازلات للفرصة الأخيرة، لكن المهم ألا تصل إلى جوهر وقلب الثوابت الوطنية الدنيا، بمعنى ألا تمس جوهر الموقف الفلسطيني من قضايا المفاوضات الرئيسية، وهذا لا يعني التعامل من منظور مطلق أو من منظور الحلول الكلية النهائية.

ولعل من العوامل التي قد تفسر الموقف التفاوضي التنازلي عامل الزمن أو الوقت، فمع مرور الوقت تزيد المقاومة على مواجهة الضغوط الممارسة، وهذا ما حدث فعلاً مع المفاوض الفلسطيني الذي يفترض أنه قد أصبحت لديه القدرة على المقاومة أكثر، وبالتالي انخفاض معدل التنازل.

وعموماً فإن عامل الزمن يعمل في مصلحة الطرف الفلسطيني، وليس في مصلحة الطرف “الإسرائيلي”، رغم تفاوت عوامل القوة بينهما، وعليه لا ينبغي أن يكون المفاوض الفلسطيني مستعجلاً في أمره، على عكس المفاوض “الإسرائيلي” الذي يخشى من عامل الزمن الذي لا يعمل لمصلحته سواء من منظور العامل الديموغرافي، أو العوامل التي قد تدفع في اتجاه تغيير موازين القوى لمصلحة أطراف إقليمية أخرى، مع تراجع في سلم القوى للولايات المتحدة، وإمكان بروز قوى دولية أخرى مثل الصين وروسيا الاتحادية، ومن العوامل الأخرى الإيجابية التي قد تفسر السلوك التفاوضي الفلسطيني زيادة المعرفة بنوايا ومقاصد الطرف “الإسرائيلي”، ويفترض أن هذه المعرفة قد تدفع في اتجاه تنازلي أقل، وأخيراً المهارة التفاوضية والقدرة على التناور والتلاعب تسهمان بدورهما في زيادة المناعة التي اكتسبها المفاوض الفلسطيني في مقاومة حجم الضغوط التي قد تدفعه لتقديم مزيد من التنازل.

وعلى المفاوض الفلسطيني أن يدحض رؤية وإدراك المفاوض “الإسرائيلي”، ومفادهما أنه ضعيف وكلما تعرض لمزيد من الضغط أجبر على تقديم مزيد من التنازلات، وعليه تبدو أهمية تفويت أو تغيير هذا الإدراك أو هذه الصورة مما سيعمل أيضاً في النهاية على أن يكون معدل التنازل أقل، بل قد يدفع في الاتجاه المعاكس أي أن يكون المفاوض “الإسرائيلي” نفسه هو المطلوب منه تقديم تنازلات أكبر.

ولعل هذا ما يفسر لنا استراتيجيات التشدد التي انتهجها المفاوض “الإسرائيلي” في التعامل مع المفاوض الفلسطيني. وعليه على المفاوض الفلسطيني أن يتحرر من كافة القيود التساومية وضغوط الزمن والصورة الإدراكية المتكونة عنه بأنه مفاوض ضعيف قابل للتنازل. خصوصاً وأن التفاوض في المرحلة المقبلة سيركز على القضايا الرئيسية التي لا تحتمل مساومات وضغوطاً كبيرة، لكنها تحتاج إلى إبداعات بعيدة لا تمس جوهرها ومضمونها.

وليدرك الجميع أن المفاوضات عملية شاقة وصعبة، وهي توظيف لعناصر القوة المتاحة، وهنا أهمية الدور العربي المساند والداعم للمفاوض الفلسطيني، فـ”إسرائيل” اليوم تريد العرب كما أوضح أولمرت نفسه في خطاب افتتاحه في أنابولس، يريدون التطبيع والعلاقات والثروة حتى يبنوا عليها قوتهم، وهذه ورقة تساومية يحتاجها المفاوض الفلسطيني والسوري واللبناني في أي عملية تفاوضية مقبلة، والفلسطينيون في حاجة إلى المبادرة الذاتية مع أنفسهم وإعادة التوحد ضد حالة الانقسام وعودة حماس إلى العمل السياسي لتكون عنصر قوة لا ضعف، من خلال بناء ديمقراطي سليم يضمن للجميع دوراً وشراكة حقيقية في عملية تفاوضية للجميع، وكفانا مهاترات ومناكفات سياسية لن تحقق أي مكسب، بل ستضيع من بين أيدينا القضية.

والمفاوضات بحاجة إلى بيئة تفاوضية مساندة وداعمة داخلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً، وهذا يتطلب جهداً دبلوماسياً وسياسياً فاعلاً، وتفعيل دور السفارات الفلسطينية في الخارج بدلاً من انتظار الرواتب.

وأخيرا على الفلسطينيين تقع المسؤولية الكبرى، فهم الآن المتغير الرئيسي في إدارة قضيتهم، صحيح أن الدول العربية ما زالت تولي القضية الفلسطينية اهتمامها، لكنها لا تحتل المرتبة الأولى في الأجندات السياسية لهذه الدول لأنها مشغولة بقضاياها الوطنية. يحتاج المفاوض الفلسطيني إلى بيئة فلسطينية داعمة مساندة بعيداً عن المناكفات السياسية والرهانات الخارجية الخاسرة، مادامت محكومة بالثوابت الوطنية والأطر الشرعية، وهذه هي الضمانة لأي مفاوضات ناجحة.
"الخليج"

التعليقات