31/10/2010 - 11:02

الفينيقيّة الصهيونيّة: تكريم المطران أغناطيوس مبارك../ أسعد أبو خليل*

الفينيقيّة الصهيونيّة: تكريم المطران أغناطيوس مبارك../ أسعد أبو خليل*
لم يكن مستغرباً أن تقرأ عن تكريم لبناني رسميّ وكنسيّ لصهيونيّ. فمي المرّ، التي مدَحَت الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982 وزادَت عليه زيارةً خاصة لأرييل شارون لمؤازرته بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، حظيت بتكريم ما بعده تكريم في الإعلام اللبناني، حتى في جريدة «الأخبار».

وطن ينتشي بأرزه (وبمغارة جعيتا التي شهدت عمليّات حجز وتعذيب نفذتها القوات اللبنانيّة التي تحبّ الحياة حبّاً جمّاً) كما ينتشي بزيارات ممثلي الرجل الأبيض القادم إليهم واعظاً من الغرب. هو وطن يرى في الاستكانة والخنوع بوجه العدو عملاً حضاريّاً وحداثة، هي الديكارتيّة المُتبكرة.

لكن ماذا تقول في وطن يرى في تدخّل الاستعمار الغربي في شؤونه دليلاً على تفوّقه على جيرانه؟ ماذا تقول في وطن لا يجد ما يفخر به في تاريخه، فيلجأ إلى أساطير وحكايات مُستقاة من تاريخ المسرح الرحباني وترّهات سعيد عقل وفؤاد أفرام البستاني؟

ماذا تقول عن وطن يندم لنفضه غبار المستعمِر عنه؟ ماذا تقول في وطن كان جزء أساسيّ من سياسيّيه يستجدي المستعمِر للبقاء في ربوعه؟ وماذا تقول في وطن يسمح لحلفاء إسرائيل بأن يأمروه بوأد كل مقاومة لإسرائيل؟
أما التزاوج أو «التناغم» بين لبنان وإسرائيل فليس بجديد، إلا إذا صدّقنا أكذوبة أن «الكلّ كان مع المقاومة»، وكأنّنا نسينا تعليقات جريدة النهار وافتتاحياتها في الثمانينيات والتسعينيات (يوم كانوا مع اتفاقيّة 17 أيّار)، وتبجّح غسان تويني أخيراً في وصف القرار 425 بأنه «من أهم إنجازاته».

لن نناقشه في إنجازاته الأخرى، إن وجدت، لكن ما أهمية هذا القرار الذي لم يؤدِّ إلى سحب جندي إسرائيلي واحد من لبنان، والذي تذكّرته الأمم المتحدة بعد أن انسحب الجيش الإسرائيلي بذلّ؟ ورقصة العار بين لبنان وإسرائيل جارية منذ بداية التأسيس، لكيانيْن مثّلا خنجريْن في خاصرة فلسطين العزيزة.

فالفكرة المؤسِّسة للجمهوريّة المشوّهة كانت متشابهة في نسقها مع الفكرة الصهيونيّة. ولم يكن في الأمر صدفة على الإطلاق. فبذرة الوطنية اللبنانية (أو النموذج اللبناني للنازيّة، وخصوصاً بعد انطلاقة حزب الكتائب وتسرّب عقيدته إلى الثقافة السياسيّة والشعبيّة في لبنان) نمت وترعرعت في كنف الصهيونيّة، ووعى لذلك مُؤسِّسون من الأوائل، حتى قبل أن يتفرّغ إميل إدّه والمطران اغناطيوس مبارك (حتى لا نتحدث عن عائلات سلام وتيّان وتويني وسرسق الذين باعوا بعلمهم أراضي في فلسطين للحركة الصهيونية) للحماسة في الدعوة الصهيونيّة من لبنان ومن محافل دوليّة.

والفكرة اللبنانيّة تحمل الكثير من عناصر الفكرة الصهيونيّة من:

1) الإيمان بتفوّق عنصر ديني ــــ طائفي على العناصر الأخرى في الوطن.
2) اعتناق فكر النازيّة ــــ الفاشيّة الذي يقول بتفوّق النوع على الكم من البشر (عبّر عن هذه الفكرة في السنوات الأخيرة بصراحة عديدون، نذكر منهم جبران تويني وبيار الجميّل، الحفيد)، واعتماد نظام لاديموقراطي يعكس الفكرة المعادية للمساواة بين البشر، هم ليسوا سواسية «كأسنان المشط» في النموذجين: الصهيوني والفينيقي.
3) ربط الوطن (بهويّته وسياساته الخارجيّة) بالدول والأحلاف الغربية (والإسرائيليّة، وإن تخفّت وراء رداء ما يُسمّى «المجتمع الدولي»)، ومعاداة المحيط العربي والإسلامي (وإن أصبحت العروبة بتعريف الحريري وجنبلاط تعني الولاء المطلق للأمير مقرن بن عبد العزيز).
4) ربط الفكرة الأساسيّة لإنشاء الكيان بأساطير تتناقض مع الوقائع التاريخية ومع علم الآثار.
5) النظر إلى مشروع إنشاء الكيان كاستثمار استعماري غربي.
6) الاستعانة بنظريّات الاستشراق لتسويغ قمع فئة أو طائفة بحالها وقهرها (أو حتى تهجيرها).
7) الترويج لتحالف بين الأقليّات في المنطقة خدمة للمشروع الصهيوني.

والفينيقيّة الصهيونيّة (والمصطلح ورد في مقالة بالعبريّة للمؤرّخ الإسرائيلي، الياهو الياث في مجلة «كاثدرا» في عدد نيسان 1985) لم تَمُتْ بتأسيس ما سُميّ دولة الاستقلال (الأوّل أم الثاني أم الثالث لم نعد ندري لكثرة المزاعم والنظريّات)، لا بل نَمَت وترعرعت في كنف الدولة الجديدة، وانتشرت أفكارُها وسمومُها، سافرةً كانت أم مقنّعة، في الثقافة والسياسة في لبنان. وهي تبلورت في هذا العداء السافر للشعب الفلسطيني وقضيّته، مما يتيح لمي الشدياق (التي انتقدت أخيراً في برنامجها «بكل وقاحة» غياب الدماء في ثورة الأرز عبر القول إنه «ما فيه ثورة بلا دم»، مع أنها كانت هي نفسها ضحيّة لعمليّة اغتيال بشعة) أن تقول من شاشة «ال.بي.سي» إن الشعب الفلسطيني باعَ أرضَه.

وهذا العداء يفسّر الكثير عن مشروع رفيق الحريري للبنان، وقد كشف عن المستور أخيراً فؤاد مطر في جريدة الأمير سلمان بن عبد العزيز (وهي غير جريدة الأمير خالد بن سلطان، وهي غير جريدة الأمير خالد الفيصل وهي غير جريدة الشيخ سعد بن رفيق). فهو نشر ما جاء في حديث غير منشور أجراه هو مع رفيق الحريري الذي أبلغه بمخطّطه لتوطين الفلسطينيين في مزارع شبعا كجزء من مشروع «دولي ــــ عربي ضخم» (الشرق الأوسط، 15 حزيران 2008).

وسننتظر نفياً من قريطم كما ينتظر سمير جعجع بياناً رسميّاً من الحكومة الأميركية ضد التوطين، كما وعدنا أثناء زيارته المظفّرة إلى هناك.

ونعلم اليوم القليل فقط عن بداية العلاقات بين إسرائيل ولبنان (هناك كتابان لكرستن شزلتز وللورا زتلنغ ايزنبرغ عن الموضوع، تُرجم منهما واحد إلى العربية). لكن لبنان، الرسمي والكنسي، يتستّر على الموضوع، ويزيد من عنده روايات مختلقة عن بطولات للجيش اللبناني في حرب فلسطين، بينما نعلم اليوم أن جيش لبنان حرص، خلافاً للخطّة الموضوعة، على عدم تجاوز الحدود. كانت مسرحيّة هزليّة، لمن لا يكترث لمأساة فلسطين، أضاف إليها الأمير مجيد أرسلان شاربيه وبعكوره. وكان يُقال إن بعكور «المير» كان كافياً لردع إسرائيل وإخافتها. هذا هو لبنان الحقيقي، لا لبنان الوارد في المناهج الدراسيّة.

وإسرئيل تنشر بعض الوثائق لكن بعد عقود من تاريخها، وهناك ما لا يُنشر، وهناك ما يُنشر بانتقائية خبيثة. ولا تزال الدولة تتستّر، مثلاً، على خطط موضوعة لتهجير الفلسطينيين من أرضهم في عام 1948. ولبنان، مثله مثل الدول العربيّة ـ باستثناء مملكة القهر في السعوديّة، إذ إنها أصبحت قبلة الليبراليّين العرب، وهذا يفسّر سبب هذا التفجّع الذي أظهره رضوان السيّد على كل الشاشات عند وفاة الملك فهد بن عبد العزيز ـ لا ينشر وثائق تاريخية.

لا ندري إذا كان هناك من أرشيف رسمي مُعتمد، إذ إن كل وزير يأخذ أرشيفه معه بعد نهاية الخدمة. وهناك أرشيفات مهمة في بكركي، لكنها لا تُفتح إلا بإذن، وأمام الموثوقين فقط. وهناك طبعاً أرشيفات مهمة عند زعماء الإقطاع الطائفيّين، لكنها مُغلقة هي الأخرى. يتفرّغ لبنان لترداد ترّهات من طراز: «لم يضحِّ أي بلد عربي من أجل فلسطين كما ضحّى لبنان»، بينما نحن نعلم اليوم الكثير عن تآمر لبنان من أجل خدمة إسرائيل، لا من أجل فلسطين. ونحن نعلم أن لبنان خالف أُسس الميثاق الوطني (في شقّ السياسة الخارجيّة) الذي على أساسه قامت الدولة الفتيّة منذ الاستقلال عبر تحالفات، مُعلنة ومخفيّة.

وقرأنا في الصحف أخيراً خبر تكريم المطران اغناطيوس مبارك في الذكرى الخمسين لوفاته. ولم ينسَ بطريرك الموارنة، الذي كرّم عقل هاشم في تأبينه، أن يجعل التكريم عرمرياً ورسميّاً. وحرص الرؤساء الثلاثة (أو الآفات الثلاث) أن يرسلوا من يمثّلهم. وحضر ممثلون عن المعارضة والموالاة على حدّ سواء، حتى وديع الخازن حضر بالرغم من حاجته لزيارة إميل لحّود يوميّاً. المناسبة استحقّت، كما استحقّت أن تحضر صولانج الجميّل (التي وصلت إلى التمثيل النيابي بتزكية حزب الله وتيار المستقبل وحزب الكتائب) شخصيّاً، وهي، أكثر من غيرها، لا يمكن أن تفوّت المناسبة، وهي التي كانت تحرص على إعداد طعام أرييل شارون عند زياراته إلى لبنان كما روى هو في مذكراته، وهي التي دعته ليكون أول ضيف في القصر الجمهوري بعد تنصيب بشير (لم يكن لها ما تريد. ظروف...).

العلاقات بين الصهاينة وساسة لبنان بدأت مبكراً جداً. إميل إدّه، الذي لم يغفر لفرنسا تركها للبنان، أراد أن يقود انتفاضة مسيحيّة في بيروت في 1948 لتتزامن مع اجتياح واحتلال إسرائيلي في جنوب لبنان في عام 1948(راجع مقالة بني موريس في مجلة «دراسات في الصهيونية» عن العلاقات بين إسرائيل وحزب الكتائب في مجلد 5، 1984).

وإلياس ربابي كان يتلقّى دفوعات نقديّة من إسرائيل لدعم حملات حزب الكتائب الانتخابيّة منذ أوائل الخمسينيات. وفي مرحلة ما قبل الخمسينيات، حيث تتوافر وثائق منشورة أو محفوظة، جرى الاتصال بين البطريركيّة المارونيّة والحركة الصهيونيّة على مستويات رفيعة (وهذا لا يشين الموارنة الذين (واللواتي) سقط منهم من قاتل في صفوف المقاومة الفلسطينية). وتبلور الاتصال طبعاً في عقد الاتفاقية المشؤومة بين الوكالة اليهوديّة (الأداة المنفذة للحركة الصهيونيّة) والكنيسة المارونيّة في عام 1946. والاتفاقيّة (أو الحديث عن العلاقات المبكّرة بين لبنانيّين وإسرائيل) لا تزال سرّ الأسرار في التاريخ اللبناني (باستثناء قلّة من المراجع التي تأتي على ذكرها مثل كتاب الرفيق فواز طرابلسي، «صلات بلا وصل» وكتاب الرفيق بدر الحاج، «الجذور التاريخية للمشروع الصهيوني في لبنان».

أما كتاب محمد زعيتر الضخم «المارونيّة في لبنان» فلا يمكن الركون إليه بسبب منحاه الطائفي، إذ يكنّ الكاتب ضغينةً للموارنة والمسيحيّين عامة)، وقد اعترفت الاتفاقية بحق اليهود في «الاستقلال» في فلسطين، مقابل اعتراف صهيوني بـ«الوجه المسيحي» للبنان (تُراجع مقالة لورا زترنغ ايزنبرغ في مجلة «دراسات في الصهيونية» مجلد 13، 1992). ووعدت الكنيسة المارونيّة في المادّتيْن الأولى والثانية بدعم الهجرة غير المشروطة لليهود إلى فلسطين (أي مخالفة بنود الكتاب البريطاني الأبيض في 1939)، بالإضافة إلى تبنّي مطلب اليهود في إقامة دولة ذات سيادة في فلسطين ـ في أرضكَ يا شعب فلسطين. لكن الاتفاقيّة، الحقّ يُقال، لم تنسَ شعب فلسطين، أو الشعوب العربية، فهي أشارت إليهم بـ«العناصر المعادية».

وتضمنت الاتفاقية بنداً خاصاً بالحفاظ على سريّة الاتفاقيّة. لا ندري ـ لا، ندري ـ إذا كان البطريرك صفير، الذي يرفض زيارة سوريا من باب الحرص على السيادة في الوقت الذي عاد فيه إلى لبنان أثناء العدوان الإسرائيلي عليه في 2006 على متن طوّافة عسكرية أميركية معتمراً قبّعة عسكريّة أميركية، بعد أن كان وعد في واشنطن أن نائب الرئيس الأميركي، ديك تشيني، يسعى لحلّ «الأزمة» في لبنان آنذاك، سيسمح بفتح الخزائن البطريركيّة في بكركي للنظر إلى ما عُقد من اتفاقيات مع الصهيونية، ومع إسرائيل لاحقاً.

وفي الجانب غير الرسمي من الاتفاقية، على عادة الحركة الصهيونيّة، كان هناك دفوعات مالية لدعم جرائد ومكاتب... في بيروت (تذكر وثيقة إسرائيلية عن دعم صهيوني لجريدة «صوت الأحرار» في ذلك الوقت). ولم يكتفِ البطريرك عريضة بذلك، بل تبادل رسائل «رسمية» مع ديفيد بن غوريون.

وقد بارك البطريرك عريضة دعم الدعاية الصهيونية حول العالم، وإن كان يتّبع التقيّة بعض الشيء داخل لبنان. فهو قد أرسل خطاباً في 1947 إلى رئيس تحرير الهدى (اللبناني الصهيوني على ما تذكر الوثائق الإسرائيليّة) لطلب الاتصال بوكلاء الحركة الصهيونية في أميركا. ولكن البطريركيّة لم تكتفِ بذلك.

لكنّ ذروة خدمة العدو الصهيوني تجلّت في نيسان 1947، عندما تطوّع إميل إدة (جدّ كارلوس، ولا يجوز تحميل الأولاد آثام وخطايا الآباء أو الأجداد، لكنّ إميل يذكّر بكارلوس في جانب واحد على الأقلّ: فقد كان إميل يصرّ على المرافعة في المحاكم اللبنانية باللغة الفرنسية ــــ يا للحضارة) والمطران مبارك للإدلاء بشهادة سريّة لدعم الحركة الصهيونيّة أمام لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين (يونسكوب).

وكان المطران مبارك غيرَ متحفّظ البتّة في تأييده لإنشاء الدولة اليهودية على أرض فلسطين. لم يكتف بالشهادة، فألحقها المطران مبارك برسالة قارن فيها بين «تنوّر» اليهود والمسيحيين و«تخلّف ورجعيّة» المسلمين العرب. وختم مبارك رسالته بالتشديد على أنّ «لبنان يطلب الحريّة لليهود في فلسطين كما يطلب حريته واستقلاله هو».

وتفرّدت جريدة «الديار» آنذاك بنشر نصّ الرسالة (وحصولها على النصّ كان لغزاً الألغاز، وإن رُجّح أن يكون التسريب قد أتى من وزارة الخارجيّة)، مما أدّى إلى اندلاع تظاهرات واحتجاجات يومها، كما أنّ نوّاباً موارنة (وغير موارنة) قادوا الحملة ضد رسالة مبارك (راجع مقالة وليام حداد عن «المواقف العربية المسيحية نحو الصراع العربي ــــ الإسرائيلي» في مجلة «العالم الإسلامي» (بالإنكليزية) عدد 2، 1977، وإن أخطأ حدّاد في وصفه لشارل مالك كمعارض للصهيونية، إذ إن أبا إيبان كشف في مذكّراته (كما كشف آخرون) أن مالك كان صديقاً لممثّل إسرائيل في الأمم المتحدة، وكان يتبادل رسائل صداقة ومداعبة في وريقات تحت الطاولة أثناء الخطب والمداولات. لعله كان يهزأ من المفارقة أن ممثل العرب في الأمم المتحدة كان صديقاً، إن لم نقل مناصراً، للصهيونية.

كما أننا نتذكر أن مالك تقاعدَ من تقاعدِه بعد الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982، ودعا إلى «محاكاة حضاريّة» بين لبنان وإسرائيل آنذاك. لعلّ تلك الدعوة إلى المحاكاة هي التي دفعت الحكومة اللبنانيّة إلى إطلاق اسم مالك على جادة في العاصمة). لكن موقف مبارك المُجاهر أحرج البطريركيّة المارونيّة، مما أدّى إلى إصدار إدانة (ماكرة) من البطريرك عريضة الذي كان يصرّ على السريّة في مواقفه الداعمة للصهيونيّة. ونفى عريضة أن تكون رسالة مبارك معبّرة عن موقف بكركي.

وأثارت رسالة مبارك التي تضمنت كلاماً مُحقّراً بالعرب وبالمسلمين مواقف متعددة. بشارة الخوري لمّح إلى أن كميل شمعون كان على أقلّ تقدير مطلعاً عليها، كما أن المؤرخ حسّان حلاق (الذي أسبغ شهادة الدكتوراه على الطالب النجيب رستم غزالة، الذي نال إعجاب اللجنة الفاحصة) أصاب عندما لاحظ أن بشارة الخوري ورياض الصلح (والأخير يحتاج إلى دراسة خاصة بالنسبة إلى ما ورد عن علاقاته بالصهاينة) «لم يقدما على أي عمل قانوني يحد من نشاط المطران وتحدياته وممارساته...» (راجع حسان حلاق، «موقف لبنان من القضية الفلسطينية، 1918ــــ1952"، ص. 175).

صدرت إدانات وبيانات واستنكارات آنذاك، لكننا سننتظر عقوداً قبل كشف المخبّأ عن طبيعة التورّط في التحالف مع العدو الصهيوني. (كما أن جريدة النيويورك تايمز ذكرت في عددها الصادر في 28 آب 1948، أن الإذاعة اللبنانية تحدّثت، وحدها من كل الإذاعات العربية، عن «فرصة» لتحقيق «حلّ معقول» بين العرب والإسرائيلييّن عبر مفاوضات مباشرة، وكان هذا قبل زيارة السادات إلى إسرائيل بعقود. وتحدثت الصحيفة في العدد نفسه عن وجود فئة من اللبنانيّين تؤيد إقامة دولة يهودية في فلسطين).

وكانت الوكالة اليهودية قد طلبت من إميل إدّة ومن المطران مبارك الإدلاء بشهادات دعماً للصهيونية أمام لجنة «بيل» البريطانية في عام 1937، وأمام لجنة التحقيق الأنجلو ــــ أميركية في عام 1946 وأمام لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين في 1947. قَبِلَ إدة ومبارك، وإن أصرّا على سريّة مرافعتيْهما.

وكانت الحركة الصهيونية جدّ مدينة للمساهمة اللبنانية في الدعاية الصهيونية، إلى درجة أنها عرضت تمويل مكتب إعلامي لبناني في واشنطن. وجمعية «أصدقاء لبنان» في أميركا لم تكن آنذاك بعيدة أبداً عن الخط الصهيوني، أو الخط الفينيقي الصهيوني. وليس مستغرباً أن رئيس الجمعية كان المطران اغناطيوس مبارك عينه.

ويتضمن الأرشيف الأميركي رسالة من الجمعية إلى الأمين العام للأمم المتحدة في كانون الأول 1949 يبلغونه فيها أن «لبنان لم يكن يوماً دولة عربيّة، بل هو فينيقيّ في الأصل ومسيحي في العقيدة».

والمصادر الإسرائيلية لاحظت أن مبارك لم يكن يحتاج إلى حثّ أو إقناع. كما أنه لم يكن، مثلاً، مثل الياس ربابي الذي كان يقرن عروض تأييد الصهيونيّة بطلبات متكرّرة من أجل دفع مبالغ ومرتّبات مقطوعة، ومن أجل إدارة جريدة العمل باتجاه صهيوني، كما قال في مراسلات سرّية مذكورة في المراجع الإسرائيليّة. مبارك كان «عقيديّاً مخلصاً»، كما تقول عبارة أجنبية. صحيح أنه لم يكن ضالعاً في التحضير للاتفاقيّة بين البطريركية المارونية وبين الحركة الصهيونيّة، لكن يبدو أن البطريرك عريضة لم يكن يثق بقدرته على الكتمان.

وقاحته، لا جرأته، في الدفاع عن إسرائيل، مثّلت إحراجاً قد يكون سبّب استقالته غير المعلّلة من المطرانيّة. والمراجع الإسرائيليّة عبّرت عن خيبة أمل من تجربة المطران مبارك. لم يكن هناك قدرة أو رغبة على تغيير الرأي العام اللبناني من جانب صهاينة لبنان. ساند كثيرون من شعب لبنان ـ آنذاك على الأقل ـ قضية فلسطين وثورتها. حتى بعض حلفاء محمد دحلان وعبد الستّار أبو ريشا في الحكومة اللبنانيّة الحاليّة مشوا في تظاهرات دعم لفلسطين.

المطران بولس مطر في تكريمه لذكرى المطران مبارك أغفل كل ذلك التاريخ. لا بل وصف مبارك بأنه «حبر من أحبار الكنيسة» و«علم من كبار أعلام لبنان» («المستقبل»، 8 حزيران، 2008). لم يتحفّظ المطران مطر في التكريم، وشاركه ممثّلو الرئاسات الثلاث وآخرون من الذين (واللواتي) تقاطروا من كل أنحاء لبنان. لم ينسَ المطران مطر أن يشيد بعمل المطران مبارك «الوطني». وتعريف الوطنيّة أمر شائك في بلد مثل لبنان، حيث غلّفت شعارات الوطنية تحالف الكتائب والقوات اللبنانية، الذيلي طبعاً، مع إسرائيل، بالإضافة إلى استضافة جوني عبده (هذا المُحاضر الجديد في الوطنية الذي، على ما روى محمد حسنين هيكل في واحد من أحاديثه التي لا تنتهي، كان مُرشّح رفيق الحريري للرئاسة اللبنانية منذ الثمانينيات) لأرييل شارون في منزله، فيما كان شارون يدير الاجتياح والاحتلال الإسرائيلي للبنان في 1982.

ولكن لمَ العجب. فبوادر الظهور الصهيوني كانت دائماً حاضرة في لبنان، وهو ازداد صفاقة بعد ثورة الأرز. لم يستوعب لبنان مغزى تكريم جون بولتون من فريق متعدّد الطوائف من 14 آذار: جون بولتون الذي انتقد حكومات إسرائيل لرأفتها بشعب فلسطين، ولشدة اعتدالها في التعامل مع الأعداء العرب. سلّمه غازي يوسف وآخرون درع الأرز والترمس، وإن عاد يوسف واعتذر من محمد حسين فضل الله عن فعلته، وزعم أنّ آل الحريري «ورّطوه». لا ندري إذا قالوا لبولتون إن «مجد لبنان» أُعطي له هو أيضاً. ثم تقرأ استطلاعاً للجامعة الأردنية في لبنان (حتى قبل ثورة الأرز والبلّوط) يظهر فيه أن نسبة غير قليلة من شعب لبنان ترى في أي عمل عنفي ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي (ليس فقط ضد شعبه المدجّج) عملاً إرهابياً. ثم تقرأ لـ«رمزي سعد» مديحة في عزّام عزّام في جريدة الحياة، وتقرأ رسالة حب وحنين من بلال خبيز إلى مدينة تل أبيب (ثم يحاول ملحق النهار أن يعلّل عبر التذكير بـ«ماضي» خبيز، وكأن الماضي اليساري للكثير من المحافظين الجدد يشفع لهم: يستخدمون ماضياً يسارياً لتسويغ حاضر يميني ـ صهيوني)، وتقرأ أخباراً مختلقة في جريدة المستقبل (التي وصفت مناورات جيش العدو الموجهة ضد لبنان قبل أشهر بأنها «دفاعية») وعلى محطة القوات اللبنانية عن وصول مختلق لجيش الحدود إلى نهر الليطاني أثناء عدوان تموز، فيما تمنّعت مارون الرأس على جيش العدو الذي يُقهر.

هذا زمن يصفّق فيه حضور مؤتمر (ايباك) في واشنطن لمجرد ذكر كلمة لبنان على لسان الخطباء الذين (واللواتي حتى لا ننسى عضوة مجلس النواب الأميركي الينا روس ـ ليتنن وهي، لشدة عدائها لكل ما هو عربي ومسلم، تستضيف ثوار الأرز وتحيّيهم، وقد زها المرشح الرئاسي الهزلي شبلي الملاط أنه جلس إلى طاولتها في حفل للحزب الجمهوري) لهجوا بحمد ثوار الأرز والبلّوط. هذا زمن أصبح فيه إيلي حبيقة زعيماً وطنيّاً بإرادة النظام السوري وحلفائه في لبنان، أرادوا من تنصيبه نكء جروح الناجين من مجازر صبرا وشاتيلا. هذا زمن الإعجاب بساركوزي في نشرة آل الحريري لأنه أراد دمج إسرائيل في حلف متوّسطي. لكن إذا كان أنطوان لحد (القريب من كميل شمعون) قد كُنّي بصفة «جنرال حمّص» من الصحافة الإسرائيليّة بعد فتحه مطعماً لبنانياً في فلسطين المُحتلّة، فهناك في لبنان من يستحق لقب «ماريشال بابا غنّوج».
"الأخبار"

التعليقات