31/10/2010 - 11:02

الناقض والمنقوض وبينهما مبادرة السلام العربية../ د.عصام نعمان*

الناقض والمنقوض وبينهما مبادرة السلام العربية../ د.عصام نعمان*

عظيمة هي اللغة العربية. عظمتها في طاقتها الاشتقاقية. من الفعل الواحد يمكن اشتقاق عشرات الكلمات والأسماء والأوصاف والمعاني. للشيء الواحد ممكن أن تكون أسماء وأوصاف ومعانٍ عدة وبالتالي استعمالات عدة. هكذا يستطيع المرء من خلال التعبير بالكلام أن يرضي، أو أن يستفز، مختلف فئات الناس وأذواقهم وطموحاتهم.

أهل السياسة أدركوا عظمة العربية أكثر من أهل أي حرفة أخرى. فقد ساعدتهم دائماً على قول أمور متعددة بمعان مختلفة، وأحياناً بلا معنى البتة. إنه، باختصار، “منطق” الناقض والمنقوض في جملة واحدة غير مفيدة.

آخر التمارين اللافتة في هذا المجال البيان الختامي الصادر عن هيئة متابعة قرارات القمة العربية في دمشق. ليس البيان فحسب بل التعليقات أيضاً على المتن والحواشي الصادرة عن عمرو موسى وغيره.

البيان أكد تمسك الدول العربية بمبادرة السلام العربية “كخيار استراتيجي لن يبقى على الطاولة طويلاً”. “استراتيجي” يعني أنه للمدى البعيد. كيف تكون مبادرة السلام العربية خياراً للمدى البعيد ولا تبقى على الطاولة طويلاً؟

يبادر بعض فقهاء “الكلامولوجيا” العربية (المصطلح من نحت أحمد بهاء الدين رحمه الله) الى التبرع بتفسير لهذا التناقض السافر بقولهم إن المبادرة المذكورة طرحت على طاولة قمة بيروت العربية سنة ،2002 وبقيت منذ ذلك الحين مطروحةً من دون أن تتلطف “إسرائيل” بقبولها. فلا بد، والحالة هذه، من إنذارها كي تسارع الى البت بها.

لكن، “إسرائيل” رفضت المبادرة ضمناً ثم قام بنيامين نتنياهو برفضها علناً، قبل تكليفه تأليف الحكومة الجديدة وبعده، وكذلك فعل شركاؤه في الحكومة المقبلة وفي مقدمهم أعتى العنصريين المتطرفين أفيغدور ليبرمان، فإلى متى تبقى مطروحة ما دامت اضحت مرفوضة؟

عمرو موسى محيط بهذه الواقعة بل هو لا يتردد في تأكيدها. فقد سئل عن مصير المبادرة مع احتمال وصول حكومة “إسرائيلية” متطرفة الى السلطة في “إسرائيل” فأجاب: “لا يوجد فرق بين الحكومة الحالية والحكومة المتطرفة لأن الحكومة الحالية رفضت كل شيء بما فيه المبادرة العربية. فليس هناك مأمول من هذه الحكومات إلا من خلال موقف عربي موحد لمواجهة مثل هذه التحديات”.

من معاني هذا الكلام أن أمين عام الجامعة يعرف من زمان أن الحكومة الحالية، أي حكومة إيهود أولمرت، رفضت المبادرة، كما يعرف سلفاً أن الحكومة المتطرفة، أي حكومة نتنياهو، ترفضها أيضاً. وهو يدرك، فوق ذلك، أن “ليس هناك مأمول من هذه الحكومات (الإسرائيلية) إلا من خلال موقف عربي موحد لمواجهة مثل هذه التحديات”، أي تحدي رفض المبادرة.

حسناً، إذا كان الأمر كذلك فهل الموقف العربي الموحد يكون باستبقاء المبادرة مطروحةً على الطاولة ام بإهمالها والاستعاضة عنها بمبادرة أخرى أو بموقف أكثر فعالية ومردوداً؟

ومن نماذج منطق الناقض والمنقوض قول عمرو موسى إن قمة الدوحة “ستقتصر على الأطراف العربية والمنظمات الدولية والإقليمية، وأن الدعوة لن توجّه الى إيران أو غيرها من الدول لحضورها”. لماذا؟ الجواب: “لأننا لسنا في احتفالية”.

هل القمم العربية العشرين السابقة، ولا سيما سالفتها قمة دمشق، كانت “احتفالية” لمجرد ان الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد حضراها؟

الحقيقة أن معظم القمم العربية كانت احتفالية بامتياز، بحضور رؤساء غير عرب أو بغيابهم، فما هي التدابير والموضوعات المراد طرحها على قمة الدوحة كي تكون غير احتفالية حقاً بل جدية وفاعلة؟

إن جميع المسؤولين العرب يعرفون أن “إسرائيل” لم تكن يوماً جادة في مسألة السلام، وأن رئيس الحكومة السابق أرييل شارون رد على مبادرة السلام العربية غداة إطلاقها بالهجوم على مخيم جنين في الضفة الغربية وتدميره كلياً، فما الرد الذي هيأوه على تعنت “إسرائيل” الفاجر؟

في النقاش الدائر أمام البرلمان الأوروبي قبل أيام، أعرب وزير الخارجية المصري احمد ابو الغيط عن قلقه “من احتمال انبثاق حكومة لليمين المتطرف في “إسرائيل””، وأوصى “بتوخي الحزم الشديد من أجل معارضة كل من يريد مواصلة الاستيطان وإفشال فكرة الدولتين من خلال قضم الأراضي الفلسطينية يوما بعد يوم”.

حسناً، هل “توخي الحزم الشديد” يكون بمواصلة طرح مبادرة السلام العربية التي يرفضها نتنياهو وفريقه الحاكم؟ هل يكون بالاستمرار في إغلاق المعابر؟ ألم يؤدِ ذلك الى إضعاف مركز “حماس” التفاوضي إزاء حكومة أولمرت التي أفسدت “صفقة” تبادل الأسرى مشترطةً إطلاق أسيرها الجندي جلعاد شاليت كثمن لفتح المعابر؟

أشار عمرو موسى الى “وجود إصرار على التوسع في المصالحة العربية، ليس فقط لإنجاح قمة الدوحة، ولكن المصالحة للمصالحة في ذاتها”. لكن المصالحة مطلوبة أيضاً من أجل مهام أخرى بالغة الجدية ليس أقلها التخطيط لمواجهة التحديات الناجمة عن نقض “إسرائيل” اتفاقات أوسلو، ورفضها مبادرة السلام العربية، واستمرارها في الاستيطان وفي تهويد القدس، وقيامها بتدمير غزة، وإمعانها في إغلاق المعابر ومنع الإعمار، وتفشيلها صفقة تبادل الأسرى، وإصرارها على ضرب “حماس” وإقصائها عن حكومة الوفاق الوطني المقبلة.

“إسرائيل” في حرب مكشوفة ضد الشعب الفلسطيني بكل فئاته وألوانه وفصائله، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً ومعيشياً. فهل تكتفي الدول العربية بمواجهة حربها هذه بقمم احتفالية تعتبر خلالها مطلب المصالحة، على أهميته، هدفاً في ذاته ولذاته وليس لشيء آخر معلوم ومطلوب ومجدٍ وفعّال؟ أمَا آن أوان التخطيط لمواجهة “إسرائيل” بالتعاون مع فصائل المقاومة بعدما أثبتت فعاليتها في لبنان وغزة؟ وإذا كانت الدول العربية عاجزة، لسبب أو لآخر، عن مشاركة المقاومة فعاليتها القتالية، فهل كثير عليها، إزاء تعنت “إسرائيل” ورفضها كل صيغ السلام العادل، الإعلان على الملأ أن “إسرائيل” هي دولة محتلة لفلسطين، وأنه يقتضي إزالة احتلالها بتنفيذ كل قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة منذ سنة 1947؟

ثم، لو افترضنا أنها عاجزة عن اتخاذ مثل هذا الموقف السياسي الجذري، فهل كثير عليها، بعد ستين عاماً من قيام “إسرائيل” وفشل أو تفشيل كل مساعي السلام العادل ومشاريعه المجهضة، الإعلان عن وقفها التدخل في شؤون الفلسطينيين، والامتناع عن الضغط على فصائلهم، وتركهم بالتالي يقاومون أعداءهم بقدراتهم ولحساب قضيتهم وبمأمن من كل وساطة ملغومة أو طعنة في الظهر مسمومة؟
"الخليج"

التعليقات