31/10/2010 - 11:02

النكبة وسؤال النهضة/ عوض عبد الفتاح

النكبة وسؤال النهضة/ عوض عبد الفتاح
يكتفي البعض في توصيف حصيلة الصراع الدائر بين الحركة الصهيونية وشعبنا الفلسطيني ومنذ أكثر من مائة عام، على أنه فشل لهذه الحركة الإستعمارية بالقضاء على الشعب الفلسطيني ووأد طموحاته في العودة والإستقلال وفي أن يكون له وطن مستقل مثل كل الشعوب.

في حين يذهب بعض آخر عبر صورة سوداوية الى إعتبار هذه الحصيلة هزيمة نكراء للحركة الوطنية الفلسطينية ولحركة التحرر الوطني العربية.

البعض الأول يُسهب في إستعراض المؤامرة الإستعمارية واستخدام الحركة الصهيونية التي تلاقت مصالحها مع هذه المؤامرة منذ القرن التاسع عشر، لاحتلال فلسطين وتحويلها من وطن للفلسطينيين الى وطن لفئة أجنبية استحضرت الأساطير التوراتية لتحفيز يهود العالم وتضليلهم بمغامرة خطيرة وغير أخلاقية، بدل إيجاد حل ديمقراطي وإنساني لهم داخل دولهم الوطنية، روسيا، بولونيا، ألمانيا، فرنسا وغيرها.

والبعض الثاني ينقسم الى قسمين، القسم الأول لا يزال يعيش على سطح الأمور، ويريد أن يبرر ثقافة الإستسلام والخضوع والعجز والقبول بحلول ظالمة.

أما القسم الثاني فإنه ينطلق من رؤية معمقة وعلمية لعوامل الهزيمة، فهو ينبش بنية المجتمع العربي التحتية وبناه الفوقية ليدلنا على أسباب نجاح الإستعمار في تجزئة الوطن العربي الذي كان خاضعاً لحكم الدولة العثمانية. وبالتالي يدلنا على العوامل الحقيقية لحصول النكبة الفلسطينية الكبرى عام 1948.

كما أنه يقودنا الى فهم فشل قوى النهضة العربية التي حاولت التصدي لحالة الفوات الإجتماعي والحضاري للأمة العربية مثل مشروع محمد علي باشا لتحديث مصر، بعد هزيمة حملة نابليون عام 1798 ومبادرة رواد القومية العربية في بلاد الشام ضد ظلم الحكم العثماني بداية وضد الإستعمار الغربي لاحقاً.

لقد شهدت المائتا عام الماضية ظهور مئات السياسيين الوطنيين والقوميين والمصلحين، اسلاميين وعروبيين ولبراليين وماركسيين. وجهدوا واجتهدوا، أخطأوا وأصابوا أنجزوا وأخفقوا. لكن لم يتحول وعيهم الى وعي مجتمعي أو حركي يقود الى تغيير جذري في بنية ومفاهيم وسلوك مجتمعنا، هذا فضلاً عن فهم بعضهم المجزوء لأسباب النهوض. لقد حصلت انتصارات كثيرة في هذه الحقبة الزمنية، ففي أوائل الستينيات كانت جميع الدول العربية قد تحررت من الإستعمار التقليدي. وقامت دول وطنية، وجرت محاولات صادقة لتوحيد العالم العربي لم تلق النجاح، أهمها تجربة عبد الناصر. ليس لخطأ في الفكرة بل لخطأ في الممارسة.

لكن السؤال الذي طرح إبان غزوة نابليون لمصر، الذي فاجأ المصريين بتطور الغرب الحضاري، “لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب” عاد ليطرح وبقوة حتى بعد إنجاز التحرر، هذا التحرر الذي تحوّل عند جزء كبير من الدول العربية الى تحرر شكلي بعد أن اتخذ الإستعمار طابعاً اقتصادياً. ومؤخراً عاد ليأخذ شكله القديم - الإحتلال العسكري كما هو حاصل في العراق. هذا إضافة الى وجوده العسكري في عدد من دول الخليج.

لقد أثبتت الحقبة الماضية الطاقات الهائلة الكامنة في الشعوب العربية، في التضحية والفداء والقتال وهذه الطاقات لا تزال موجودة وقائمة. وحين تتوفر قيادة مؤهلة تستطيع أن تحول هذه الطاقات الى نصر. ولكن تبين أنه بإمكان قيادات حركات تحرر وطني أن تحقق نصراً على العدو حتى مع البنية الإجتماعية القائمة إذا توافرت ظروف إقليمية ودولية مواتية كما كان الحال بعد الحرب العالمية الثانية - وحين كان هناك قطبان عالميان: الإتحاد السوفييتي وأمريكا، حيث استفادت الشعوب من تناقض مصالحهما.

ولكن تبين اليوم أنه أيضاً يمكن تحقيق نصر سياسي لحركات سياسية وطنية أو اجتماعية ديمقراطية حتى في ظل هيمنة قطب واحد إذا ما توفرت الإرادة والحد الأدنى من التنظيم وإدارة عقلانية للصراع. ويمكن الإستدلال بنموذج حزب الله. هذا على مستوى تحقيق النصر على الأعداء الخارجيين وليس على مستوى بناء المجتمع والدولة. كذلك نرى انتصار أحزاب اجتماعية ديمقراطية في معظم دول أمريكا اللاتينية رغم القطب الأوحد المهيمن في العالم. وها هي المقاومة في العراق رغم ملاحظاتنا الشديدة على ممارسة وهوية بعض فصائل هذه المقاومة، تؤزم الوجود الأمريكي وتضع علامات سؤال جدية على المشروع الإمبراطوري الأمريكي.

بصورة عامة لا يهتم السياسيون العرب بالثقافة، ويستعينون بالمثقفين الذين يدعمون نهجهم ويبررون سلوكهم. وهذه مسألة، مسألة المثقف والسلطة وهي مسألة قديمة وليس هنا المجال لبحثها. يستطيع المثقف أن ينتقد السلطة والمجتمع دون أن ينسلخ عن الواقع. وهي مهمة ليست سهلة بطبيعة الحال، فالمطبات دائماً موجودة والتناقضات التي يقع فيها المثقف العضوي، بتعبير غرامشي، ليست مستبعدة، خاصة حين يخوض المثقف عراك العمل السياسي ويساهم بنفسه في تطبيق أفكاره.

ومن واجب المثقف أن يشرح وينقل للأجيال الشابة الصاعدة، خاصة طلاب الجامعات، تفسيرات علمية لأسباب الوهن الذي نعاني منه وأسباب حصول النكبة واستمرار إفرازاتها حتى الآن، لا أن يكتفي بتقديم سردي لرؤية الصراع رغم أهمية ذلك، بل ليقدم مقاربة نقدية علمية ولكن بعيداً عن نزعة جلد الذات وشتمها. وهذا واجب الأحزاب أيضاً.

فكيف نشرح مثلاً، الوضع الفلسطيني بعد أوسلو أي سلوك قيادة حركة التحرر الفلسطيني وطريقة إدارتها للسلطة في غزة ورام الله هذا إذا أردنا تجاوز الأسباب التي وقعت القيادة أو جزء منها في الإقدام على خيار أوسلو وإذا وضعنا جانباً، قوة المشروع الصهيوني وارتباطه بدعم القوة الكبرى في العالم - أمريكا...

كيف نفسّر للأجيال الصاعدة، استشراء الفساد في سلطة قادها أناس ناضلوا في الثورة الفلسطينية، وكيف تعززت في ظل سلطة أوسلو العشائرية والقبلية والإنتهازية.

كان مدخل طلائع القومية العربية في القرن التاسع عشر الى واقع المجتمع هو النهضة وتحديث المجتمع في مواجهة تخلف الدولة العثمانية والتصدي للغزو الإستعماري الغربي، ولكن تم الإبتعاد تدريجياً عن هذا المدخل السياسي وتم التعامل مع عوامل النهضة بصورة سطحية بحيث أصبح العامل الأيدلوجي طاغياً على الثقافي - الحضاري. هكذا استقلت الدول العربية وبقي التخلف الإقتصادي والتعليمي والإجتماعي قائماً. وجرى استيراد أشكال إدارة الدولة الحديثة من الغرب وبقي المجتمع بعيداً عن الحداثة الحقيقية.

أما الحركة الوطنية الفلسطينية التي على خلاف الدول العربية (باستثناء الجزائر) فقد واجهت غزوة استعمارية استيطانية أي ليس استعماراً عسكرياً فقط. ولذلك فإن نشوءها كان ردّ فعل أو إستجابة لمؤثرات خارجية وليس كحركة نهضوية. أي ليس استجابة لنهضة داخلية من أجل تغيير الواقع الإجتماعي والحضاري بصورة متوازية مع المخاطر الخارجية.

هكذا ظلت الحركة الوطنية الفلسطينية منذ نشأتها وحتى اليوم، غافلة عن التصدي لتأثير التحديات الداخلية وعوامل التأخر الإجتماعي على سلوكها ومشروعها.

لن يكون بمقدور الحركة الوطنية الفلسطينية، أن تحقق مشروعها الوطني بمعزل عن الإلتفات الجدي الى متطلبات الإصلاح الداخلي الذي لا يطال فقط المؤسسات الفوقية بل ايضاً المؤسسات التحتية، ابتداءً من الأحزاب والمدارس والجامعات والنوادي. هذا ما يطالب به المفكرون والمثقفون المتلزمون بهموم شعبهم في العالم العربي. هذا بطبيعة الحال ينطبق ايضاً على مجتمعنا العربي الفلسطيني داخل اسرائيل، الذي تزداد أزمته الحضارية، بسبب التوتر الدائم والمتزايد بين قشرة الحداثة المفروضة من المجتمع الإسرائيلي، والبنية الإجتماعية التقليدية التي تزداد تخلفاً بسبب الدور السلبي لسياسيين، وأكاديميين ورجال دين الذين يقومون بتغذيتها ويساهمون في إعادة إنتاجها على مذبح مصالحهم الفئوية والشخصية.

التعليقات