31/10/2010 - 11:02

اليسار: أزمته تتجاوزه وماركس انتهى تاريخياً؟../ عبد الأمير الركابي

اليسار: أزمته تتجاوزه وماركس انتهى تاريخياً؟../ عبد الأمير الركابي
بين فترة وأخرى نقرأ كتابات تتحدث عن «أزمة اليسار»، العالمي أحيانا، والعربي مرات. اليساريون العراقيون بالذات لا يشعرون بالأزمة، ويستعيضون عن التعبير المذكور بتعابير تتحدث عن توحيد ما يسمونه «اليسار الوطني». تلك المعالجات، توحي بأن اليسار لا يزال رغم كل شيء موجودا، وهو لا يزال ممثلا أحيانا في تنظيمات أو أحزاب وتجمعات. وفي حالات استثنائية وجد أشخاص أن من مبررات وجود هذا التيار ـ هم عراقيون حصرا ـ أن يطلقوا عليه تسمية «الوطني»، وهو تخريج معقول، يذكرنا على الأقل بأن العراق بلد محتل. ويستمد كثيرون شعورهم بوجودهم وبأنهم يسار قويم المبدأ، في العراق بالذات، من ذلك الامتياز «الوطني». حتى وان كان ما يفعلونه من دون أية تبعات تتعدى الكتابة ضد الاحتلال.

من أسوأ الدلالات التي ينبئ عنها وضع اليسار كما هو قائم الآن، أو حسب ما يرد بشأن أزمته من كتابات، أنه لم يصل بعد درجة الشعور بتجاوز أزمته له، ولوجوده. والأحاديث التي يرددها هؤلاء عن الماركسية ونقاوتها، وتخلف الماركسيين العرب عن استعمال، أو التفاعل الحي مع ماركس، وليس كما هو حاصل، أو كما فعل الماركسيون العرب، يتدنى إلى الحد الذي يذكر الشيوعيين مثلا في العراق بمصادر أقل أهمية وقيمة بكثير، مثل فهد وسلام عادل وهما أمينان عامان أعدما بالشنق أو تحت التعذيب (1949/ لفهد و1963 لسلام عادل). وكأن هذين القائدين يمكن أن يكونا مصدراً ليسار عراقي مختلف سواء في الماضي أو الحاضر. والتهم حول مصدر الانحراف معروفة، وقد يكون بعضها صحيحا، كما هي الحال مع الترسيمات السوفياتية للدولة "الاشتراكية"، وتعميماتها الصورية والنصية، وأثر معاهدها في تعميم الجهل والمفاهيم السلطوية الحكومية الروسية قبل تفتت الاتحاد السوفياتي. والمثير أن بعض الأشخاص في العراق مثلا، ما زالوا يتحدثون عن «حزب شيوعي عراقي» هو كما يتصورون، غير الحزب الشيوعي، الذي يتزعمه حميد مجيد، الموجود حاليا في العراق، يمارس عمله العلني منذ الغزو الأميركي عام 2003 كمشارك أصيل في "العملية السياسية الأميركية".

والحقيقة أن الشيوعيين العراقيين، هم في مؤخرة اليساريين والشيوعيين العرب، إذا اعتمدنا مقياس الثقافة العامة. كما أنهم أقرب إلى التكلس والعصبوية، مع تميزهم الخاص الاستثنائي في الجانب العملي. ومثل هذه النقيصة، تتجلى اليوم بارزة في ظل الأزمة العامة، فيما يطغى التراث العملي والعصبوي، ويلعب في الظروف الحالية، دوراً سلبياً، حين يتحول إلى ميدان لإثبات البقاء الذي قد يصل لحد تخيل صحة الموقف والإصرار عليه. وكل هذه طبعا ظواهر لا تمت الى الحياة ولا الحقيقة ولا اليسار بأية صلة، وما يسمى صفاء المصادر وحسن التعامل معها لا معنى له، والتاريخ تعداه كليا، وتعدى الماركسية نفسها بما في ذلك ماركس وما قاله وكتبه.

الماركسية والشيوعية المعاصرة انتهت إلى الأبد. والعالم لم يعد معنياً بأي شكل من الأشكال بها وبموضوعاتها التي اختتمت نهائيا. المشكلة أن إطلاق مثل هذا الرأي، من شأنه أن يخرج قائله من دائرة اليسار، ولا يعود والحالة هذه مشاركاً في الاهتمام بالأزمة، وقد يعتبر محروماً من حق معالجة التساؤلات التي تخص اليسار في العالم وفي المنطقة. وسيطول الوقت قبل أن يتم الاعتراف بالحقيقة التي تريد ترحيل أزمة الماركسية واليسار إلى ما وراء ماركسية ماركس وانجلز ولينين. ويمكن أن نأمل حاليا، بعد جهد، أن يلتفت بقايا المؤمنين بالماركسية إلى الحدود، أو الآفاق التي ينبغي لموضوع "أزمة اليسار" أن تصل إليها. فالموضوع اليوم هو كيف نعيد إحياء اليسار خارج الماركسية، وهل هذا ممكن أم لا؟ وهل الأمر يتعلق بـ"أزمة" قابلة للعلاج أم بعلامات نهاية؟ ونحن نعتقد أن أي تفكير آخر، أو بحث داخل حدود الماركسية عن تجديد ما لليسار، لن يؤدي إلى أية نتيجة، وهو كما سيكتشف من يتبنونه عقيم ولا حصيلة مفيدة ترجى منه.

مهما قيل، فإن الماركسية هي نتاج أثر الآلة ونهضة أوروبا، ونظرتها إلى التاريخ غير ديالكتيكية ومحلية. قامت على تعميم استشراقي، لبدايات النهضة الأوروبية وصعود البرجوازية. متخـذة مفاهيم أفقية تعمم ما حدث في أوروبا خلال فترة من فترات صعود البرجـــوازية، على العــالم برمته. فانتصار الرأسمالية في أوروبا، هو نفسه بنظر ماركس وانجلز مسار البشرية بعد هذا الحدث، والأمم سترضخ للـــسلعة، وتواريخها ستصبح من هنا وصاعدا، نسخا طبق الأصل من البداية، أي من تاريخ صعود "البرجوازية أولا". وهذا التصور يعكس سوء فهم للأبعاد الكونية للتاريخ ومساراته، ولكيفية تجلي أثــر القفزات الكبرى في التاريخ، على التاريخ العام، خارج المراحل الخمس التي تضمنها مفهوم "المادية التاريخية". هذا، ناهيك عن نفي وجود قوانين أخرى تحكم حركة التاريخ وتستجيب لآلياته، أو إلغاء مثل هذا الاحتمال.

ويرفض من يسمون بالماركسيين، مثل مؤمني الديانات، أي اعتراف بحجم الوهم الذي يرافق ورافق مسيرة نظرية "العلم"، سواء عندما فشل تحققها في أوروبا، الموضع الأكثر رقيا وتقدما طبقيا وإنتاجية، أي الأكثر أهلية لاستقبال الشيوعية. أو عندما تحورت ثورات برجوازية، واكتسبت وسائل "اشتراكية". والحقيقة التي لا يريد هؤلاء مواجهتها هي هل كان لينين مخادعا أم مخدوعا، وهل الاشتراكية التي أرسى أسسها، هي اشتراكية أم تحول نحو الرأسمالية بوسائل غير تقليدية؟ وهنا بالذات تعود النقطة المذكورة أعلاه لتطل علينا، ولترينا أشكالا من تحورات التاريخ التي نتجت من الرأسمالية المعاصرة، ومن الامبريالية.

لقد انتهت الرأسمالية كرأسمالية بمجرد أن خرجت من أوروبا إلى بقية أرجاء المعمورة. فغدا ما يحكمها قوانين أخرى عالمية، في ظل عملية إنتاج من طبيعتها أنها تزداد كونية. وهنا تتجلى تناقضية الماركسيين وإكراهيتهم، الذين يصرون على وضع مخططات مسبقة وإكراهية، يفرضونها على التاريخ. فهم يشيعون فكرة حتمية استنساخ المسار التاريخي الأوروبي في العالم أجمع. وينــطلقون بانتباه أو تغافل ليصوروا العالم كنسخة أوروبية مكررة، بينما الثـــورة الآلية الحديثة، وطبيعة الرأسمالية والرأسمال، تفرضان أعظم أشكـــال العالمية (العولمة الرأسمالية الأولى).

وهم يرفضون القول إن العملية الإنتاجية والسياسية العـــالمية، خلقت آليات صراع وتحول، لم تكن الرأسمالية الطرف الوحيد فيها. وكما أنها غـــيرت العالم، فقد تغيرت من جهتها بعمق. والأكيد أن التاريخ الحــديث والمعاصر، لم تحكمه المادية التـــاريخية إطـــلاقا. ونتائجه، وما حدث في روســيا الرأسمالية، والصين التي نــراها الآن، هــو من مآلات تكثـيف الصراع، وفـعل آلــيات راسخة، لم تتـــمكن الرأسمــالية من إلـغائها بل خضعت لها.
(...) إن الماركسية هي الفرع الراديكالي من الفكر الرأسمالي، وهي لم تؤد حتى الآن غير تلك المهمة، فساعدت في انتصارات رأسمالية، بوسائل غير رأسمالية تقليدية (روسيا الصين ...) وهو ما يشير إلى عدم انطباق حيثيات وآليات تاريخ أوروبا الغربية والوسطى على بقية أرجاء المعمورة، بقدر ما يدل على تحورها.

هذا والماركسية قامت على معطيات محدودة وضيقة، وغير عليمة بحقائق التأريخ ومسار الحضارة الإنسانية الأوسع، بالضبط مثل الحالة التي أورثتها في أماكن كثيرة من العالم، وبما يعرف عنها من نزعة تلخيص التاريخ وتاريخ أوروبا، فقد أوجدت نمطاً من «المفكرين» السطحيين، وممن يمكنهم أن يتصوروا متوهمين، أنهم ينتمون إلى أرقى عوالم المعرفة والتحليل والإبداع النظري والفكري. فشاع حضور نوع من العقول المتكلسة، لا بل المتحجرة أحياناً، والمحبوسة داخل قوالب، تريد بواسطـتها أن تخضع العالم، وكل ما فيه من حقائق لا تدرك، لرؤيتها الجافة والجامدة.

وفي الآونة الأخيرة انتعش أمثال هؤلاء، يوم انحدرت الرأسمالية، وتفجرت أزمتها المالية الأخيرة، فطاروا فرحاً لأن ماركس عاد من سباته. والحقيقة أن تلك لم تكن سوى «يقظة رجعية». فالتشفي بالافتراضية الرأسمالية، لم ترافقه أية مجهودات تتحدث عن مستقبل «الافتراضية»، وإذا كان العــالم برغم كل شيء، مقبلاً من هنا فصاعداً، على انتـصار عالم واقتصاد الآلة التي أكل الدهر عليه وشرب، أم على انتصار الافتراضية والتكنولوجيا شعبياً وكيف؟

من السهل طبعا استعادة منطق الشعارات والإيمان السهل «العميق» بتلك «الحتمية»، الأشبه بالحتمية البيولوجية، خاصة أنها قد ذكرت العالم بوجودها اليوم، لكن من السهل بالمقابل العثور على العجز مخيماً على عالم بقايا الماركسيين، الذين تحولوا إلى عجائز تلعب خارج التاريخ وتبتسم وهي تتذكر ماضيها. وهذا لن يمنع بالطبع التاريخ من أن يواصل طريقه. والأكيد أن العالم تجاوز الآلة ومتعلــقاتها الفـكرية التي ثبت عدم انطباقها على الحقـيقة، برغم ما تتميز به من روح إنسانية، ومطابقة لرغبة الإنسان وحلمه بالعدالة والمساواة في وقت بعينه. غير أن حالة الماركسية، وما قد أثارته في نفوس الملايين من البشر وعقولهم، ومن العقول الحـية والكبيرة في عصرنا، هو من دون شك، فصل عظيم رافق تداعيات العصر الراهن، وأثبت لنا من جديد، كيف أن البشر يمكن أن يؤمـنوا بأفكار مثــالية، يظنونها «واقعية» أو كما يحلو للماركسيين الترداد: «علمية» محكومة بقوانين بلورتها نظريا، وجعلتها قابلة للتركيب خلال ظروف معينة. فالرأسمالية وما رافقها من مظالم رهيبة وحروب وتدمير، وما قد أوحت به من تسارع في وتائر الحياة، ومن تطور هائل، وأيضا من إعادة قراءة للتاريخ ومساراته وقوانينه، كل هذا هو ما أوحى بتلك الفكرة والموجة الكبرى من الآمال بالعدالة، وإمكانية تحققها «علمياً»، وعبر الصراع الطبقي، وحركة التاريخ والثورة.

لكن الشيء الأكيد، الذي تبين لاحقا، هو أن الفرق هائل بين تحقق العدالة بناء على آليات التاريخ الموصوفة في المادية التاريخية، وتحققها باعتبارها كينونة أصلية ثابتة في التاريخ. وان أوروبا التي يصفها ماركس، وافترض حتمية تحولها نحو الشيوعية ومجتمع اللادولة، هي فرضية تتحدث عن مكان غير مؤهل لمثل هذه النتيجة إطلاقا. فمجتمعات اللادولة، ومفهومها لمسار التاريخ والحضارة، موجودة في أماكن أخرى ككينونة، وهذه، هي فقط المؤهلة بالفعل لتحقيق مجتمع اللادولة المشاعي. وهذا المفهوم عن العدالة وتحقق النهاية بوراثة الله للأرض وما عليها، تحتاج إلى بحث آخر أوسع وأكثر تفصيلا.

من المفترض بنا أن لا نكون «محصنين» ضد التغيير، بعد كل هذا الذي حدث في العقدين الأخيرين، والأهم أن لا نظل «عقلانيين» أكثر من اللازم، في وقت انهارت فيها أسس العقلانية، وتراجعت بقوة في الغرب نفسه. وعودة المنطق التوراتي لزعيم أعظم إمبراطورية وأقواها في العالم في القرن الحــادي والعشرين، ما زالت تثير الانتباه والحــيرة، والآراء تــذهب اليوم إلى ما يسمى نظرية الفوضى (كتاب نظرية الفوضى وعلم اللا متوقع ـ جايمس بليك ـ صادر عن دار الساقي) مثلا، وهو يأخـذنا نحو بدايات منظور آخر، موافق لعالم التكــنولوجيا الحــالي، والى ما يمكن أن نطلق علية «العقلانيـة اللاعقلانية»، أي تلك العقــلانية الكامنـة في قلب الحياة والكون. وهنالك أكثر من مبرر وسبــب كبــير مما حصل في العقدين الأخيرين، لا يمكن أن تسمح للفكر بالبقاء متنعماً بمرافقـة الجثث حباً بصمتها.

ما إن شهدت أوروبا ثورتها الحديثة، حتى اكتشفت أنها إنما تواجه حالة تتفجر بسرعة لتصبح عالمية الجــوهر والمصير، ومن تــلك اللحظة انتهى العالم «الخاص»، وأوروبا الصافية التي يتحدث عنها ماركس، لم يعــد لها وجود إلا في مخيلة الرجل، أما مفهوم «الامبريالية» اللاحق، فلم يكن سـوى محــاولة إكراهية لتعــميم شروط أوحت باستمرار هيــمنة قوانين الرأسمالية عالميا. والحقيقة أن الحضارات الزراعية السابقة على الرأسمالية، لم تكن بمثل تلك الطواعية. وحيث كانت لهذه قوانين خاصية وآليات حكمت تاريخها، فإنها واصلت أقلمة وجودها الراهن، من دون أن تستسلم للقوانين الأوروبية في توطين الآلة.

ومثل هذا الوضع عرف في روسيا والصين والهند، وفي العـالم العربي، والى حد ما الإسلامي. وتكمن هنا تفاصيل هائلة، ووقائع لا تحصى، أثرت بصورة جوهرية على أوروبا نفسها، وأنهت فعاليتها، منذ الحرب العالمية الثانية، بينما كانت أميـركا «المختلفة» كليا عن أوروبا، بنية وتكويـناً، هي التي تصعد. منذ سنوات قليلة، عندما تم غزو العراق. كان التاريخ يستعيد نكهته ومحاكماته التوراتية، وبوش أبلغ رسمياً الرئيس الفرنســي شيراك، بأن المهمة، هي من أجل القضاء على «ياجوج وماجوج» الموجودين في أرض ما بــين النهرين، هذا بينما كانت الاشتراكية الســوفياتية، التي هي طبعا رأسمالية بوسائل غير رأسمالية تقليدية، تنهار، والعــالم ينقلب كمقــدمة لانقلاب التاريخ الشامل، لا على مستوى التاريخ البشري فقط، بل على صعيد البـيئة والمحيط. وكم من المتحجرات ستـظهر وتؤخــذ إلى المتاحف، إذا استمر البشر يحتاجون في المستقبل للمتحف، والماركسية كما كان يحلو لماركس أن يردد، دخلت المتحف إلى جانب الفأس والمحراث البابلي.
"السفير"

التعليقات