31/10/2010 - 11:02

"تحرير سوق الدين" و"تحرير سوق رأس المال"../ د.خالد الحروب*

في الدراسات الحديثة حول الدين والانتشار المعولم للدعوات الدينية برز مصطلح "سوق الدين" (أو faith market)، مترافقا مع الاندفاعة العالمية لنظرية تحرير السوق التي شهدها العالم بعد نهاية الحرب الباردة وأفول النظرية الاشتراكية في الاقتصاد. ما حدث في عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي هو التحرير المتواصل لرأس المال والتوسع المتزايد للسوق، متجاوزا الحدود الجغرافية التقليدية، ومتصفاً بالتعولم المتصاعد.

في قلب ذلك التعولم كُسر احتكار الدولة كفاعل وحيد وشبه حصري في الفضاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإعلامي سواء على الصعيد الوطني أو العالمي.

فإلى جانب الدولة برز فاعلون ولاعبون آخرون سواء الشركات الكبرى والعابرة للحدود اقتصادياً، أو منظمات المجتمع المدني سياسياً، أو المؤسسات والحركات الدينية اجتماعياً، أو وسائل الاتصال الفضائي والانترنتي إعلامياً. والأهم من ذلك وفرت بيئة السوق المتحرر والمنفلت من السيطرة الحكومية بهذه الدرجة أو تلك ديناميات تواصلية تتبادل الدعم بين ما هو متحرر اقتصاديا، ومتحرر سياسياً، ومتحرر اجتماعيا وإعلامياً، ما أضاف مصادر قوة إضافية للاعبين الجدد الذين زاحموا حصرية الدولة في سيطرتها على الفضاءات التي كانت تتحكم فيها تقليديا، وخاصة في دول العالم الثالث.

بمعنى آخر صار بمقدور رأس المال الخاص أن يتسلل للعب دور اجتماعي أو ديني أو إعلامي بالغ التأثير، عن طريق امتلاك مؤسسات اجتماعية مستقلة عن الدولة، أو دعم هيئات أو حركات دينية، أو تملك وسائل إعلام تتجاوز أهدافها الربح، وتصل إلى ترويج أيديولوجيات أو برامج اجتماعية محددة.

ويمكن القول إن الدين برز كأحد أهم الفاعلين الذين عظموا الاستفادة من حقبة العولمة الراهنة من خلال توظيف المال والاقتصاد مع الحركية والفاعلية الدعوية وامتلاك الوسائل الإعلامية لترويج الرؤى الدينية. يصعب التفكير بفاعل آخر تمكن من توظيف وسائل العولمة المختلفة ودمج فيما بين أدواتها التقنية والتجارية والإعلامية للخلوص إلى تأثيرات اجتماعية وثقافية عميقة كما فعل "الدين المعولم".

ويمتد طيف "الدين المعولم" واسعا مبتدئاً بالهيئات والجمعيات الروحية والخيرية غير المسيسة، مارا بالمنظمات والأحزاب السياسية، ومنتهيا بالجماعات المسلحة والعنفية.

وتتصف هذه الصيروة العولمية للدين بتجاوزها للجغرافيا المحلية من جهة، وانفلاتها من التحكم المركزي من جهة أخرى ــ أي لم يعد هناك سلطة مركزية دينية تستطيع أن تتحكم بفيضان الحركات والتمظهرات العابرة للحدود لأي دين من الأديان.

بمعنى آخر صارت الحركة الدينية شبيهة وموازية لحركة رأس المال المتحرر والذي ينتقل من مكان لآخر بحسب تقلبات العرض والطلب في السوق.

وخلال العقود القليلة الماضية لم يتوقف "سوق الدين" عن التوسع بما رافقه من ازدياد طلب على كل "السلع المعروضة": اقتصاد ديني، فن ديني، إعلام ديني، سياسة دينية، عنف ديني، وهذا ينطبق تقريبا على معظم الأديان والتصورات الروحية.

إسلامياً يمكن أن نلحظ بسهولة التعاظم المستمر للظواهر الإسلامية بأطيافها المتنوعة، المعتدلة والمتطرفة، المسيسة وغير المسيسة، الروحية البحتة، والتدخلية البحتة في الشأن العام وكيف تركب موجات التعولم التقني والجغرافي.

فالكثير من هذه الجوانب يتصف بطاقة ذاتية كبيرة حررتها من أي سيطرات مباشرة، وأطلقت يدها في الفضاء التخصصي الذي تهتم فيه، بحيث انتهت إلى بناء فضاءات شبه بديلة لما هو قائم، أو على الأقل تتصف بدرجات كبيرة من الحكم الذاتي.

وهنا ليس لنا إلا التأمل في امتدادات ما يُطلق عليه الإعلام الإسلامي، والاقتصاد الإسلامي، والفن الإسلامي، والتحزب الإسلامي، والمقاومة الإسلامية.

لكن "تحرير الدين" من كل القيود التقليدية كالحدود الجغرافية، والسلطة المركزية، والرقابة اللصيقة يحمل نفس المخاطر التي يحملها "تحرير السوق" من كل القيود، بل ويزيد على تلك المخاطر.

وإذا كان رأس المال هو عجلة "سوق التجارة" المندفعة في كل مكان تدوس كل ما يواجهها من معيقات غير آبة بها من أجل تحقيق الربح والمصلحة الآنية، فإن الهيئات والحركات الدينية اليوم هي التي تشكل عجلة "سوق الدين" المنطلقة بلا تردد تدوس ما تلاقيه في طريقها ولا تتردد في طحنه من أجل الوصول إلى أهدافها في المزيد من تديين البشر والسيطرة على الفضاء العام.

وكما تمت ولا تزال تتم مواجهة توحش رأس المال المعولم الذي لا يهمه سوى الربح ولو على حساب إنسانية الإنسان وقيم العدل والمساواة بين البشر، فإن هناك حاجة لمواجهة توحش الدين المعولم الذي لا يهمه سوى إخضاع البشر لتفسيرات زعماء الهيئات والأحزاب التبشيرية والدينية والسيطرة عليهم. رأس المال المنفلت من كل قيد في عصر التعولم عاث في كثير من مناطق العالم فساداً ودمر اقتصادات وأفقر مجموعات بشرية هائلة وتسبب في حروب كثيرة.

والدين المنفلت من كل قيد في عصر التعولم لا تقل أخطاره عن ذلك. ولئن شهدنا خلال الآونة الأخيرة كيف قاد رأس المال وسوقه الحرة إلى أزمة اقتصادية ومالية معولمة عميقة كادت تقود إلى كوارث كبرى، فإننا لسنا بعيدين عن كوارث محلية وإقليمية على أقل تقدير، وربما عالمية في المدى غير المنظور، الناشئة عن الدين المعولم (ولا نحتاج هنا للتذكير بحروب جورج بوش الابن وحروب القاعدة وبن لادن، وهي أمثلة بارزة على تلك العولمات الدينية).

إسلاميا، مرة أخرى، حان الوقت للتأمل في المعضلة الكبيرة التي نواجهها ويتمثل جانب منها في هذا الانفلات والتفتت الديني اللامركزي المؤقلم والمعولم والذي كله يزعم النطق باسم الإسلام والدفاع عنه.

وهو انفلات تتجسد معظم تمظهراته على شكل تعصب مسلكي وانغلاق اجتماعي، أو عنف دموي. فمن خلايا القاعدة في موريتانيا، إلى خلاياها في العراق والصومال، وصولاً إليهم في قطاع غزة يتفاقم "تحرير الدين" وانزلاقه بعيدا عن سيطرة الدولة أو أية جهة مركزية، ويزداد توحش منسوبيه ومعتنقي أكثر تفسيراته تطرفا كل منهم يريد أن يقيم دولة الإسلام في حارته وأزقته.

كنت من الكثيرين الذين كتبوا في سنوات سابقة ناقدين سيطرة الدولة المركزية على الفضاء الديني كجزء من سيطراتها الأخرى، بكون تلك المركزية تتحكم في خيارات البشر وتقيدها. لكن ما يتبدى الآن هو أن تلك السيطرة المركزية كانت أفضل من توحش "حرية سوق الدين" التي نراها راهنا.

نعرف بطبيعة الحال أن هذه "الحرية" تطورت رغم إرادة الدولة المركزية، لكن الملاحظة المهمة هنا هي أن "دين الدولة" الواقع تحت سيطرتها كان في معظم الحالات أكثر صيغ الدين تسامحاً وقبولا للآخر ومراعاة للظروف وانسجاما مع متطلبات العصر. أما "حرية سوق الدين" الحالية وترجماتها الحركية الإسلاموية فكأنما هي شقيق في توحشها لحرية "رأس مال السوق"، بل وتزيد عليها لأنها تزعم الحركة باسم الغيب والدفاع عنه.
"الأيام"

التعليقات