31/10/2010 - 11:02

حروب أمين معلوف الصليبية.. والهلال الشيعي المصري../ نصري الصايغ

حروب أمين معلوف الصليبية.. والهلال الشيعي المصري../ نصري الصايغ

I ـ ندخل القدس بالحراب... والمستوطنات
«... وعمل صاحب القاهرة (آنذاك) على إبلاغ الفرنج (الصليبيون) عروضاً جديدة بشأن عقد اتفاق بينه وبينهم. فهو يحدد، علاوة على اقتسام بلاد الشام، سياسته حيال المدينة المقدسة: احترام صارم لحرية العبادة، تمكين الحجاج من زيارة المدينة متى شاؤوا، بشرط أن يأتوا في جماعات قليلة، من غير سلاح بالطبع».
جاء جواب الفرنج فظاً لاذعاً: «نذهب إلى القدس جميعاً بإهاب الحرب رافعي الرماح».

حدث هذا في الزمن «الصليبي»، قبل بلوغه القدس. وقد حدث بعد ذلك، في الزمن «الصهيوني»، قبل احتلال القدس وبعد استكمال عدة البقاء.

زمنان: الأول «صليبي»، تعامل معه العرب، وفق ما تمليه مصالح الأمراء والقواد، وليس كما تقتضيه «العروبة» وكما تمليه أخلاق الدين.

الثاني «صهيوني»، تعامل معه العرب، وفق ما تمليه مصالح الأنظمة، (رجعية، تقدمية، ملكية، أميرية، حزبية، طائفية، مذهبية) وليس كما تقتضيه «العروبة»، وكما تمليه أخلاق الإسلام.

قليل من الأدلة، يكفي لترسيم حدود التشابه بين خزي قديم وعار حديث.. بعد حصار دام أربعين يوماً، استولى الفرنج على القدس (1099م) و«كان لا يزال النازحون يرتجفون كلما تحدثوا بذلك وتجمد أبصارهم، وكانوا لا يزالون يرون بأعينهم أولئك المقاتلين (الفرنج) وقد انتشروا في الشوارع شاهرين سيوفهم، ذابحين الرجال والنساء والأطفال، ناهبين البيوت، مخربين المساجد.. وعندما توقفت المذبحة بعد يومين، لم يكن قد بقي مسلم واحد داخل الأسوار.. وأما الآخرون، فكانوا مطروحين بالآلاف في مناقع الدم عند أعتاب مساكنهم أو بجوار المساجد..». ومن بقي منهم على قيد الحياة، أجبروا على ان يحملوا جثث ذويهم، فكدّسوهم بلا قبور ثم أحرقوها. ثم، ذبح الناجون بعضهم أو بيعوا في سوق النخاسة.

هكذا سقطت القدس، وقبلها سقطت بلاد الشام مدينة تلو مدنية، ولم تنجح مراسلات الأمراء و«الخلفاء» ووساطات الأذلاء، ولا المعارك الهزيلة، ولا الصمود الانتظاري، في منع «الصهيونية القديمة» (الصليبية) من احتلال فلسطين... صحَّ إنذارهم و«ذهبوا إلى القدس بإهاب الحرب رافعي الرماح».

II ـ كيف ولماذا قتل البطريرك..
وأزمنة متشابهة؟

يكتب أمين معلوف التاريخ بطريقة أخرى. ينتقي منه ما يقترب من واقعنا الراهن.. أظن أن كتابه صخرة طانيوس، ليس فيه من التاريخ، سوى «قتل البطريرك الماروني»، كأن المقصود من الرواية تبيان الأحداث التي أدت إلى قتل البطريرك.

ولما كتب أمين معلوف، الحروب الصليبية كما رآها العرب، معتمداً على ابن الأثير وابن القلانسي، ساق النص فصولاً، تتشابه بشكل يكاد يكون طبق الأصل، لمجريات الغزوة الصهيونية، وتمادي العرب في التهرب من مواجهتها، وتأجيل مواعيد الاستحقاقات الاحتلالية، طلباً للسلامة، واقتناعاً بما سيتبقى لهم من نفوذ شكلي، وسيادة هشة، واتكالية مفرطة، وتسليم بلا قيد أو شرط.

تشابه بين زمنين:
فيما كانت جحافل الهمج الصليبيين تقترب من المدن المسوّرة والمحصنة، بدأ كل أمير يحسب حساب إمارته ومدينته. وحساباته مبنية على صداقات ملتوية وغادرة، وعداوات متأصلة ونافذة. مدن طالقة من قضايا جامعة. امارات مشتبكة فيما بينها. وحروب الأخوة الأعداء، سيذكيها طلب المساعدة من الصليبيين، لنصرة الأخ على أخيه.

لم يتورع أمير من مراسلة العدو البيزنطي. اجتهد أمراء لإقامة تفاهمات مع القيادات الصليبية، طلباً للنجاة. كان الأمراء السنة، متخوفين من «الهلال الشيعي الفاطمي» في شمال افريقيا. صاحب القاهرة، لا يقوم على نجدة القيادات السنية. الأمراء السنة يفضلون الهزيمة أمام الفرنج، على التعاون مع الفاطميين أو من بقي منهم.

هذا تاريخنا القديم... يشبه تاريخنا الراهن.
أمراء دويلات، كائناً ما كان مذهب أتباعها، كانوا يتحركون وفق مقتضيات بقائهم في السلطة، ولم يمنعهم ذلك، (سنة وشيعة، فاطميين وسلاجقة) من مراسلة «الأعداء»، وطلب مساعدتهم.

كم مرة حصل أن أمنت إسرائيل الحماية لأنظمة عربية؟
كم نظاماً عربياً راهناً، يفضل العداء لإيران والمقاومة؟
ثم نظاماً وقائداً وزعيماً، يفضل أن تكون اسرائيل حامية نفطه ومظلة أمنه، وسوق ماله وراعية انتقال «الخلافة» السياسية إلى وريث من جنسه؟

لا العروبة كانت رابطة لأحد من خلفاء وأمراء ذلك الزمن. ولا الإسلام، بمذهبيه، كان رابطة لمواجهة الغزو الصليبي. والغريب، أن كتابات راهنة، أرادت ان تعيد التاريخ العربي إلى نصابه المذهبي، فكتبت فظيع الكلام على سنية صلاح الدين، ودافعت الدفاع المستميت، عن مواقف الفاطميين الشيعة.

III ـ هل للدول أخلاق؟

لا دين للمصلحة. لا مذهب للسلطة. لا قومية لإمارات متنابذة. لا حزبية موحدة، لاخوة أعداء في العقيدة، يقتسمون الأراضي ممالك. لا استقلال وسيادة لأي دويلة، تستعين بالفرنج والفرس والبيزنط وسفاحي «الصهيونية المسيحية» و«الصليبية اليهودية/ الاسلامية/ العربية»... بل لا أخلاق في ظل تفشي الدويلات، إلا أخلاق العصابات.. كان سيف الدولة يقاتل في حلب وانطاكية، ويطعن من بغداد. وكان صلاح الدين يقاتل في القدس، ويعيب عليه أهل مصر الشيعة آنذاك، انه استفرد بتحرير القدس، فأين ما تبقى من فلسطين؟

وحدهم الثوار، لا مصلحة لهم. وحدها المقاومة، أخلاقها في نضالها. مصلحتها في الانتصار. لا مصلحة لها في الحفاظ على سلطة، لأنها لا تملكها، وليست منها أو فيها. مصلحتها وعقيدتها ودينها في معراج القضية. للدول قضايا من صنف المصالح الرثة وللمقاومة قضايا من صنف القيم: كالحرية مثلاً.

وعليه، كيف نحكم على واقعنا العربي؟ هل يتعين علينا ان نحاسب حكام العرب، على التزامات ضد مصالحهم؟ فلسطين ليست مصلحة. هي قضية وواجب. التحرير ليس شغل الأنظمة. محور اهتمام السلطة، الحفاظ على السلطة. قديماً وحديثاً. ألم نسمع أن عدوان الخامس من حزيران عام 1967، لم ينجح في إسقاط النظام «البعثي التقدمي في سوريا، ولم ينجح في إسقاط النظام الاشتراكي في مصر».

هذا أمر حقيقي، وناصع الحضور.
الدول، لها مصالحها. وهي مستعدة للارتكاب.
مصلحة السعودية مؤمنة، للعائلة المالكة. مصلحة السعودية وشقيقاتها الخليجيات، ليست في تنكّب واجب، بل في تأييد مصلحة. وهي ساهرة على ذلك وناجحة جداً. ومطمئنة، ان «دينها السياسي» في أحسن حال، وأن علاقتها بأميركا تؤمن لها أمناً وشبكة اطمئنان.

مصلحة مصر، كنظام سياسي معقد ومتشابك وفارغ، مؤمنة أيضا. الفراغ الراهن مؤقت، سيملأه أصحاب المصلحة. سيتم تطويب أحد ما، برعاية واشنطن ودعم تل أبيب واستلشاق الأشقاء العرب.

مصلحة ليبيا، البحث عن مكان إقامة للزعامة خارج ليبيا... مطلوب تأمين موقع ما للزعيم، ولأولاده ومن معه. نفطه آمن. «أسراطين» رسالة مشفّرة للتخلي... هذه دولة لزعيم وليست زعامة لدولة.

تونس الخضراء، حصن محصّن. حصن من الصمت الثقيل. حصن من القبضات السرية... شيء ما على شاكلة جمهوريات الاتحاد السوفياتي، بلا اشتراكية. الجزائر قالت وداعاً للثورة من زمان. عندما تحوّلت الثورة سلطة، صارت ضد الثورة... وما تبقى منها يصلح فقط لأمثال فرانز فانون. العراق... اليمن... الصومال... السودان... الأخوة في الشقاء والمصابون بتخمة القادة الأشقياء.

ماذا؟ طوائف لبنان؟ نموذجهم المعبر عنهم وليد جنبلاط.. موقع الزعامة ومصلحة الطائفة: توأمان. مضحك ان يستشهد به نخب من طائفة الروم الكاثوليك. في الطائفية، تتحكم مصالح الزعماء والأقوياء. لا قضية البتة. يمكن إلباس الطائفة كل القضايا المتعارضة، ويمكن أخذها إلى اسرائيل، اذا لاحت في الأفق مشاريع الكانتونات، وإلى أميركا، إذا لاحت في الاقليم تغيرات، وإلى «مواقعها النضالية»، إذا كانت معزوفة توازن القوى تفرض ذلك. شيعة لبنان راهناً ولو تعاطفوا، يختلفون عن شيعة العراق في السياسة.

كم كان أمين معلوف رائياً. كتابه عن الحروب الصليبية، في قسم منه، استعادة لقراءة تاريخنا المعاصر...

IV ـ ماذا بقي؟.. والدمع ليس سلاحاً
... دخل القاضي أبو سعد الهروي ديوان الخليفة المستظهر بالله (في بغداد).. تقدم من وسط القاعة وقال: «أتجرؤون على التهويم في ظل أمن رغد وعيش ناعم، وإخوانكم في الشام لا مأوى لهم سوى ظهور الجمال؟ كم من دماء قد سفكت؟ أيرضى العرب البواسل بالمهانة ويقبل الأعاجم الشجعان بالذل؟».

نقل الاخباريون العرب يومذاك: «كان خطاباً أبكى العيون وحرّك القلوب» لكن الهروي فاجأهم: «ان أسوأ ما يلجأ إليه المرء من سلاح ان يسكب الدمع بينما تذكي السيوف نار الحرب».

وكانت الخيبة: «أخذ الخليفة المستظهر بالله، يعبر لهم عن أعمق تعاطفه معهم، وكلف ستة من أصحاب المناصب الرفيعة في البلاط التحقيق في تلك الأحداث المفجعة في فلسطين».

هكذا حصل... وهكذا يحدث الآن، بعد كل شكوى من مذبحة أو بعد كل مئة مستوطنة تُبنى في القدس.
لقد أوضح إبن الأثير توضيحاً غريباً عن أصل الغزو الفرنجي، ورأى الانقسام الداخلي السائد بين السنة والشيعة أصل البلاء.

ويقول سبط الجوزي (مؤرخ عربي) «حين عزم صاحب مصر على تسليم القدس إلى الفرنج، هزت عاصفة كبيرة من الاستنكار جميع ديار الإسلام».
تعليق: صاحب مصر اليوم يقوم بما هو أشد وطأة. فلا هزات ولا استنكار ولا الديار هي ديار الإسلام.
لعل هذه الديار، هي للنيام...
نيام على حرير من الثروة لا تنضب. نيام من الإحباط المزمن واليأس المعاد.
"السفير"

التعليقات