31/10/2010 - 11:02

حرية الإرادة إلى زوال../ جميل مطر*

حرية الإرادة إلى زوال../ جميل مطر*
كتب بول دافيس أستاذ الفلسفة بجامعة ماكوراي في استراليا في دراسة مهمة نشرها قبل ثلاث سنوات يقول إن تياراً واسعاً من العلماء والفلاسفة أصبح يرفض مفهوم حرية الإرادة، وإن هذا النفر من العلماء والفلاسفة يعتقدون أن الإنسان ليس حراً في الإرادة والاختيار، وأن التقدم المذهل والمطرد في الهندسة الوراثية والعلوم المتصلة بها يؤكد حقيقة أن الحرية، حتى وإن وجدت، فهي إلى زوال. ويسألون: هل يمكن لعالم من العلماء أن يصدق في وجود حرية بينما يزداد اقتناعه يوماً بعد يوم بأن الجينات تشكل العقول تماماً كما تشكل الأجسام، وأن جينات المخ “الميمات”، تنتقل كالفيروسات من عقول إلى عقول، وهو ما أثبتته العالمة البريطانية سوزان بلاكمور؟

ويعتبر بول دافيس هذا الرفض المتعاظم لفكرة حرية الإرادة أخطر ما أفرزه التقدم العلمي في السنوات الأخيرة لأن جهات ستستخدمه لتبرير جرائمها وعمليات الإبادة والتطهير الجماعي التي تقوم بها.

ولا أشك للحظة في أن الحصار التجويعي والتطهيري الذي تفرضه “إسرائيل” على شعب غزة يأتي نتيجة مباشرة لرسوخ هذه الفكرة في العقل الصهيوني، وأن هذا النوع من التفكير يتسرب تدريجياً عبر الحدود حتى كادت تقتنع به عقول عربية بالرغم من أن هذه العقول هي نفسها فاقدة الإرادة كلياً أو جزئياً. يظن هؤلاء أن الشعب الذي يعيش فاقداً للإرادة في ظل حكومة متطرفة أو جماعة مستبدة أو فرد متسلط، شعب يستحق أن يحاصره أعداؤه وجيرانه ويجوز إبادته بالتهجير أو الموت جوعاً أو ظلماً، هذا على الأقل ما أوحت به كتابات وتصريحات كثيرة ترافقت مع أزمة حصار غزة وردود فعل شعبها، واتسم أغلبها بالنظرة الفوقية إلى شعب خاضع لحكومة مستبدة أو متهمة بالاستبداد، أي نظرة فوقية إلى شعب فاقد إرادته.

وتزداد خطورة فكرة نهاية حرية الإرادة عندما يدرك الفرد منا أنها صارت ترتبط بفكرة أخرى ليست أقل خطورة وهي فكرة الشر المتأصل في مصدر كوني واحد، وهي الفكرة التي تشكل الأساس العقائدي لما يسمى الحرب ضد الإرهاب كما يزعمون، أو الحرب ضد “نوع أو آخر من الإسلام” كما يعترفون.

ومع ذلك تظل الخطورة الأعظم لفكرة نهاية حرية الإرادة تكمن في أن اقتناع أفراد أو تيارات في الطبقات الحاكمة، وبخاصة أجهزة الأمن والتثقيف والإعلام، بهذه الفكرة يؤدي إلى التسليم بأن الناس جاهزون دائماً لإطاعة توجيهات من يشكل إرادتهم ويفرض عليهم سلوكيات معينة. وليس خافياً على هؤلاء وعلى البعض منا، أنه حين تفقد أمة حرية إرادتها فإنها تكون قد فقدت معها الشعور بالذنب والمسؤولية وتأنيب الضمير، واستسلمت للسلطة القائمة أو لقوى أجنبية تحركها وتسيطر على عقولها.

ويطرد تقدم العلم، وتطرد معه الأخطار التي تهدد حرية الإرادة وتزيد من الاقتناع بأن السيطرة على عقول الناس وطرائق تفكيرهم كادت تصبح في متناول أيدٍ كثيرة وليس فقط السلطة السياسية، ففي مؤتمر دافوس الأخير انعقدت جلسة لمناقشة نتائج البحث الذي تقدم به أحد علماء البرازيل ويدعى ميجيل نيكوليليس Miguel Nicolelis، ومن هذه النتائج نجاحه في توصيل مخ قرد مقيم في أحد معامل البحوث في الولايات المتحدة بإنسان آلي مقام في أحد معامل البحث اليابانية. يقول السنيور ميجيل إن مخ القرد أرسل إشارات إلكترونية إلى الإنسان الآلي الياباني تأمره بتحريك ساقه. وبالفعل تحركت الساق وقامت بدورها بإرسال إشارات من اليابان إلى المخ في أمريكا تبلغه بأنها تحركت. وتلقى مخ القرد هذه الإشارات فتأكد نجاح التجربة.

ماذا يعني هذا الانجاز العلمي بالنسبة لي ولك وأولادنا وأحفادنا؟ يعني أننا أمام آفاق بلا حدود. أقربها مثلاً أن مستخدم الكمبيوتر يستطيع الملاحة والبحث في جهازه من دون استخدام “الفأرة” (Mouse) المرافقة للجهاز. يكفي أن يقرر المستخدم ما يريد ويركز عليه ويصدر بعقله، ومن دون أن ينقل عنه لسانه أو أصابعه، الأمر إلى الجهاز بالبحث والملاحقة. ومن ناحية أخرى سوف يستطيع من بيده السلطة أو القوة أو العلم أن يتعرف على ما يدور في مخ المواطن، ويستطيع بالتالي توجيه المواطن نحو ممارسة سلوكيات معينة والتفكير في اتجاهات معينة في غيبة إرادة حرة ومستقلة لديه.

لقد أطلق العالم البرازيلي على بحثه عنوان “حماية الأعصاب”، وأطلق آخرون عليه عبارة “محفزات الأعصاب”. واللافت للنظر أن أحداً لم يسأل في مؤتمر دافوس عن الأموال الطائلة التي خصصتها شركات عملاقة للصرف على هذا البحث وتطويره. ومع ذلك كان القلق بادياً على وجوه الباحثين الذين اشتركوا في جلسة المؤتمر حين حثوا الحاضرين على الاهتمام أولا بفهم القصد من عبارتي حماية الأعصاب و”محفزات الأعصاب”، وفهم الأسباب التي ستجعل هذا العلم، “علم العقل”، التحدي الأهم الذي تواجهه البشرية خلال العقد القادم.

هل نريد أن تكون أجسامنا متصلة سلكياً أو من دون أسلاك بإنسان آلي في مكان آخر؟ وهل نريد أن تصبح أمخاخنا شاشات مفتوحة أمام شركات أو أشخاص يقرأون فيها ما يريدون ويغيرون فيها ما شاؤوا أن يغيروا؟ يقول العالم الألماني أرنست بوبل Ernst Poppel عن بحثه الذي كاد يكتمل إنه يركز على اختراق مخ الإنسان لمعرفة استجاباته للدعاية لمنتجات تجارية. بمعنى آخر سيكون من وظائف العلماء قريباً التحول من الاهتمام بجس نبض المواطنين واستقصاء آرائهم حول موضوع معين إلى قياس استجابتهم الحقيقية لسياسة أو رسالة أو عقيدة، وقد يأتي يوم يستطيع الفرد منا قياس عاطفة شخص آخر تجاهه وصدق شعوره أو معرفة حقيقة ما يضمر.

أتصور أن هذه التطورات العلمية وانعكاساتها السياسية والدينية والاجتماعية يجب أن تفرض علينا، أكثر من أي شيء آخر، زيادة الانتباه إلى قضية مستقبل التعليم في بلادنا. لا أظن أن ما يتلقاه الطالب في جامعاتنا هذه الأيام يلزم العقد القادم وما يليه. لسنا مستعدين أخلاقياً لمواجهة مسألة اختراق آخرين لعقولنا بهدف الاطلاع على مكنونها وتغيير ما يريدون تغييره، ديناً كان أم عاطفةً أم إرادةً ورؤيةً ورأياً. وإذا كنا جادين حقاً في أن يكون المجلس الجديد للعلم والتكنولوجيا مختلفاً أسلوباً وجوهراً عن المجالس المماثلة في حقول أخرى غير العلم والتكنولوجيا، فلنطلب من أعضائه أن تتصدر جدول مهامه قضايا العلاقة بين العلم من ناحية والأخلاق والعقيدة والسياسة من ناحية أخرى، بحيث نتهيأ كمجتمع لاستقبال العلم في أشكاله.. وإبداعاته الجديدة قبل توطينه وتوظيفه، ونستعد كدولة لتطوير مفهوم الأمن القومي ومتطلباته في مجال التعليم في مصر بما يتناسب وتطورات ليس أقلها شأناً هذا الجديد في التقدم العلمي.
"الخليج"

التعليقات