31/10/2010 - 11:02

حصار غزة ولينينغراد../ د.مجيد القضماني*

حصار غزة ولينينغراد../ د.مجيد القضماني*
في 27 يناير/ كانون الثاني 1944، تمكن الجيش السوفيتي (بعد خمس محاولات) من كسر حصار مدينة لينينغراد الذي استمر 900 يوم وأدى إلى وفاة نحو 800 ألف من سكان المدينة نتيجة القصف الهمجي وانعدام المواد التموينية والمياه والكهرباء والتدفئة في شتاء وصلت فيه درجة الحرارة إلى أربعين تحت الصفر. إلا أن المدينة صمدت وتحولت إلى مفخرة من مفاخر الصمود الإنساني. بحيث تحولت كلمة لينينغراد إلى رمز البطولة والصمود وقدرة الإنسان الهائلة في موجهة الصعاب أيا كانت حالما يؤمن بعدالة القضية التي يدافع عنها.

وبعد ستة وخمسين عاما على " قصة لينينغراد"، يخوض إنسان آخر، في مكان آخر من العالم، معركة مشابهة بمضمونها وان اختلفت بتفاصيلها: محتل، متجبر على تجارب من سبقه من الغزاة، يفرض حصاره من البر والبحر والجو، ويحول الحياة إلى كابوس، متوهما أن بمستطاعه "الالتفاف" على "التاريخ" وصياغته بالشكل الذي يرغب ويريد بما يتطابق مع مقاييسه ومصالحه!

وكما انتصر الإنسان الروسي على المحتل النازي، سينتصر الإنسان الفلسطيني على المحتل الصهيوني. والنصر في كليهما واحد من حيث عبرته ومعناه. والفرق في التفاصيل فقط:

"لينينغراد المحاصرة"، لم تُترك لوحدها في مواجهة الغزاة. من هنا حق "لأشقائها" الافتخار بدورهم في كسر الحصار وتحقيق الانتصار. فمن اجل الإبقاء على منفذ وحيد متبقي أمام المدينة للعالم الخارجي ألا وهو بحيرة لادوجسكويه، قدموا مئات الآلاف من الشهداء. كما لم تتوقف القوات السوفيتية وأنصار المقاومة الشعبية طوال فترة الحصار عن اختراقه ونقل الجرحى والمرضى والأطفال و"تهريب" ما استطاعوا من غذاء ودواء وإمدادات. فـبقيت البحيرة، رغم ما شهدته من قصف عنيف، "شريان الحياة" لـمدينتهم المحاصرة.

"غزة المحاصرة" ومنذ 900 يوم ايضا، قدرها أن تحارب على جبهتين، وان تحارب عدوين: خارجي وداخلي لا يقل حقدا! "لينينغراد المحاصرة" لم يتركها "عمقها الوطني" لوحدها في ساحة الميدان. أما "غزة المحاصرة"، فجل ما تنتظره من "عمقها الوطني والعربي"، أن يكف شرهما عنها، وتتعهد بإهداء الإنسانية نصرا على الظلم والعدوان!

"عمق غزة الوطني والعربي"، يطبق عليها الحصار ويساومها على ما تبقى لـها من "شريان الحياة". يريدون تحويله إلى معبر لانكسار سياسي يحرمها من نصرها في الميدان، بعد أن فشل "العدو الخارجي" بتجسيده في حربه الحاقدة التي كان من الممكن أن لا تقع لولا تواطؤ "الأشقاء" و"صمت الأصدقاء"!

"عمق غزة"، بمواقفه هذه، يقدم "الغطاء الأخلاقي" لبعض "الأصدقاء الصامتين" لمواصلة اختزال القضية من تحرر وطني إلى "أعمال عنف متبادلة في غزة وجنوب إسرائيل يجب أن تتوقف"! على حد توصيفات الدبلوماسية الروسية في بياناتها طوال فترة الحرب. هناك من المتابعين من يعتقد أن الدبلوماسية الروسية "الصامتة" طوال فترة الحرب، وقعت في شباك "الأشقاء المتواطئين" وربما تكون بنيت على "تطميناتهم" بأن "المخطط محكم جدا" وغزة ليس بمقدورها الصمود أمام أكثر جيوش المنطقة إجراما!

نائب وزير الخارجية الروسي، الكسندر سلطانوف، في حديث لقناة "روسيا اليوم" بتاريخ 11/1/2009 حول زيارته للشرق الأوسط لبحث الأوضاع في غزة، يقول في إجابته على سؤال لمراسل القناة في القدس إن كان يعتقد بان "العملية العسكرية التي تقوم بها إسرائيل في غزة ستساعد بإعادة الأمن والاستقرار للمنطقة"، يقول: "طبعا ستساعد"! ولم يعد مهما هنا أن المسؤول الروسي أضاف قائلا: "سبب كل هذه التطورات السلبية هو عدم وجود الحل الشامل ووجود الاحتلال".

رئيس غرفة التجارة والصناعة الروسية، يفغيني بريماكوف يقول في جلسة عقدتها هيئة إدارة غرفة التجارة والصناعة الروسية لتأسيس مجلس رجال أعمال للتعاون مع فلسطينيين في الثامن والعشرين من الشهر الجاري، يقول إن روسيا "مستعدةٌ كلياً لمواصلة الدعم الكامل للفلسطينيين، وخاصة في ما يتعلق بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة القادرة على الحياة إلى جانب إسرائيل". ويضيف بـنبرة لافتة للانتباه: "اكرر بشدة، الدولة التي تقوم على أساس التعايش السلمي إلى جانب دولة إسرائيل، والشعب الفلسطيني يميل دائما للتعايش، ونلمس نحن ذلك من مساعي الرئيس محمود عباس".

اللافت للانتباه "وبشدة" هو أن لا يدين بريماكوف وغيره من الدبلوماسيين الروس بنبرة واضحة لا تقبل التأويل ما تعرض له الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من حرب عدوانية أسفرت عن مقتل وإصابة الآلاف المدنيين في جرائم إسرائيلية يؤكد الحقوقيون أنها ترقى إلى درجة جرائم حرب ضد الإنسانية..! اللافت للانتباه "وبشدة" أن يتحدث دبلوماسي عريق من مرتبة بريماكوف بنبرة يستشف منها وكأن إسرائيل تبحث عن السلام وهي التي تتعرض للعدوان ووجودها هو المستهدف، بينما الذي لا يميل للتعايش هو المقاومة الفلسطينية!

مؤسف، أن نواصل سماع هذا الخلط في المصطلحات وهذه المساواة بين الجلاد والضحية، بين احتلال ومقاومة تدافع عن حق شعب منكوب ومهجر يتعرض للقتل وللإبادة، و"العالم" يقف صامتا حتى عن "قول كلمة حق" في وجه إسرائيل وما تقوم به من جرائم واستهتار بكافة القوانين الإنسانية والتشريعات الدولية.!

ومخيب للآمال، أن يأتي مثل هذا "الصمت" من بلد يحتفل هذه الأيام شعبه الطيب والصديق بذكرى كسر حصار لينينغراد وتشدد نخبه السياسية والثقافية على أهمية نقل قصة "الحصار الإجرامي" و"المقاومة البطولية"، للأجيال الروسية الصاعدة، بينما تصف الدبلوماسية الروسية في خطابها الرسمي العلني مقاومة الفلسطينيين للحصار الإسرائيلي الإجرامي والحرب الإسرائيلية الإجرامية بـ "أعمال عنف متبادلة يجب أن تتوقف"!

التعليقات