31/10/2010 - 11:02

حوار الثقافات وموازين القوّة المختلّة محلياً ودولياً../ د.حسن نافعة*

حوار الثقافات وموازين القوّة المختلّة محلياً ودولياً../ د.حسن نافعة*
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن حوار الثقافات بين العرب وأوروبا وعقدت حوله ندوات ومؤتمرات لا حصر لها، كان آخرها مؤتمر «لقاء الثقافات على ضفاف المتوسط: كيمياء حوار متواصل»، والذي عقد في مقر منظمة اليونسكو في باريس يومي الخميس والجمعة الماضيين (4-5 كانون الأول/ ديسمبر) في إطار خطة تنمية الثقافة العربية التي يرأس لجنتها الاستشارية الدكتور موسى بن جعفر، المندوب الدائم لسلطنة عمان لدى اليونسكو، وشارك فيه حشد كبير من الأكاديميين والخبراء العرب والأوروبيين من مختلف التخصصات والمندوبون الدائمون للدول العربية لدى اليونسكو.

لكن هل يمكن البحث في حوار الثقافات بمعزل عن موازين القوى السائدة، وهل يمكن لحوار كهذا أن يثمر في ظل الخلل القائم حاليا بين الأطراف المعنية به؟ هذا هو السؤال الذي طرحته في مداخلة قدمتها في الجلسة الأولى لمؤتمر اليونسكو المشار إليه والتي اختار لها المنظمون عنوان: «الإطار العام لحوار يستقبل ويحوّل وينقل إرثا عمره آلاف السنين».

وفي محاولتي لتقديم إجابة على هذا السؤال، اقترحت التوقف عند مشاهد أربعة تعكس التطور التاريخي لعملية التفاعل الثقافي بين العرب والأوروبيين. المشهد الأول مستمد من العصور الوسطى، حيث كانت موازين القوى تميل بشكل حاسم لصالح العرب. والمشهد الثاني مستمد من عصر النهضة والاستعمار الأوروبي، حيث كانت موازين القوى تميل بشكل حاسم لصالح الأوروبيين، والمشهد الثالث مستمد من عصر ازدهار حركات التحرر والاستقلال الوطني في ظل نظام دولي ثنائي القطبية، حيث تراجعت المكانة النسبية لأوروبا، والمشهد الرابع مستمد من مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حيث جرت محاولة لتسخير قوى العولمة لفرض نظام دولي أحادي القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة منفردة. واستعرضت هذه المشاهد الأربعة على النحو التالي:

1- مرحلة العصور الوسطى: والتي شهدت، بدءاً بظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية في القرن السادس الميلادي وحتى قيام الامبراطورية العثمانية في القرن الخامس عشر، تأسيس وازدهار حضارة جديدة يقودها العرب، في سياق امبراطورية إسلامية مترامية الأطراف وصلت بحدودها إلى شمال المتوسط وجنوب أوروبا. ويلاحظ أن عملية التفاعل بين العرب والأوروبيين خلال هذه المرحلة الطويلة والممتدة لم تأخذ شكلاً تعاونياً أو سلمياً دائماً وإنما تخللتها فترات كرّ وفرّ، وتعاون وصراع، وتفاعل واحتكاك. ومع ذلك بدا واضحا أن موازين القوى الشاملة، بما فيها الموازين العسكرية، كانت تميل بشكل حاسم لصالح العرب طوال تلك المرحلة، بما في ذلك الفترات التي تخللتها «حروب صليبية»، كما سمّاها الأوروبيون، أو «حروب الفرنجة»، كما سمّاها العرب. فقد باءت هذه الحروب في النهاية بفشل ذريع، بعد حوالي تسع حملات عسكرية كبرى حشدتها الكنيسة وتتابعت موجاتها على مدى قرنين من الزمان، استهدفت الاستيلاء على «بيت المقدس» وإخضاع «دار الإسلام»، ولم تفقد قوة اندفاعها وتبدأ بالتوقف إلا بعد أن تم أسر لويس التاسع، ملك فرنسا، والذي كان يقود الحملة السابعة بنفسه.

ربما تكون العلاقات السياسية والعسكرية بين العرب والأوروبيين بدت في بعض فترات تلك المرحلة، خصوصا أثناء الحروب الصليبية، وكأنها «سجال» بين ندين، غير أن العلاقات الثقافية والفكرية بين الطرفين لم تتسم في أي فترة منها بأي نوع من الندية في الواقع، حيث كان تفوق العرب كاسحاً طوال تلك المرحلة التي قنع الأوروبيون خلالها بموقع الطالب والمتلقي للعلم على أيدي أساتذة عرب ومسلمين. ويجمع المراقبون على أن عملية التفاعل والاحتكاك الثقافي بينهما تمت عبر ثلاث قنوات هي: الأندلس، والجزر الجنوبية للبحر المتوسط (خصوصاً صقلية)، والحروب الصليبية. فقد انتقلت المعرفة والحضارة العربية من صقلية إلى إيطاليا، ومن الأندلس إلى إسبانيا ومنها إلى فرنسا وبقية الدول الأوروبية، كما قام الأوروبيون خلال فترة الحروب الصليبية بنقل، أو فلنقل بنهب، جزء كبير من تراثها الثقافي. وأظن أن هناك مجموعة من الحقائق أصبحت الآن مستقرة حول هذا الموضوع ولم يعد بمقدور أحد أن يجادل فيها:

الحقيقة الأولى: أن العلماء العرب والمسلمين هم الذين نقلوا التراث الإغريقي إلى اللغة العربية، وأن أوروبا لم تتعرف على هذا التراث إلا عبر الترجمات التي تمت من العربية إلى اللاتينية وغيرها من اللغات.

الحقيقة الثانية: أن هؤلاء العلماء لم يكونوا مجرد ناقلين وإنما كانوا مبتكرين ومجددين. فقد ابتكروا علوما ومعارف جديدة، مثل الجبر وبعض فروع الرياضيات والحساب، وأضافوا إلى التراث اليوناني وطوروا علوما كانت معروفة في تراث حضارات قديمة أخرى غير الإغريقية، مثل الطب والهندسة والفلك والصيدلة والجراحة وغيرها، وجددوا في مناهج وطرق البحث فيها.

الحقيقة الثالثة: أن أهم المراجع العلمية في الطب والهندسة والفلك التي ظلت تدرس في أهم الجامعات الأوروبية حتى منتصف القرن السابع عشر على الأقل، كانت مصنفات عربية مترجمة إلى اللاتينية.

الحقيقة الرابعة: أن نموذج نقل المعرفة في إطار من التعايش والتفاعل الثقافي الخلاق والذي ساد في الأندلس بين علماء من مختلف الأجناس والديانات في ظل الحكم العربي في الأندلس كان نموذجاً فريداً ومثالياً حيث بني على التسامح وتقدير قيمة العلم ولم يشهد تفرقة أو تمييزا من أي نوع، وهو نموذج لم يتكرر بعد ذلك في أي حقبة من حقب التاريخ قديمها وحديثها.

2- مرحلة النهضة الأوروبية:
من المفارقات أن هذه المرحلة شهدت صعود وسقوط الامبراطورية العثمانية وتراجع دور المكون العربي في الحضارة الإسلامية. وحقق العثمانيون في بداية هذه المرحلة انتصارات مهمة أدت إلى توسيع رقعة الامبراطورية وامتداد الإسلام إلى شرق ووسط أوروبا. غير أن تلك لم تكن علامات نهضة إسلامية جديدة، فسرعان ما بدأت أوروبا، تحت تأثير الثورة الصناعية، تحقق تقدما سريعا في المجالات كافة. ولأنها كانت تعلمت درسا مهما من الحروب الصليبية، وهو أن المواجهة المباشرة مع المسلمين شديدة التكلفة، فقد راحت تغير من وسائلها واستبدلت الجيوش العسكرية بجيوش من نوع آخر، أي من الإرساليات والبعثات التبشيرية.

وعلى رغم أن هذه الإرساليات لعبت دورا مهما في مجال تطوير التعليم، إلا أنها شكلت الإرهاصات الأولى لحركة «المستشرقين» والذين كانوا في الواقع بمثابة رأس الرمح الذي مهد للاستعمار الأوروبي في المنطقة. ويلاحظ هنا أن أوروبا ظلت ترقب أوضاع العرب والمسلمين وتتابعها بدقة متناهية بهدف إضعاف الامبراطورية العثمانية من ناحية، والحيلولة، من ناحية أخرى دون قيام دولة كبيرة في المنطقة سواء كانت تحت راية عربية أو إسلامية. وفي هذا السياق لم تتردد القوى الأوروبية الكبرى في مساعدة الآستانة على تحجيم قوة محمد علي، بل ولم تتردد في التحالف معا لضرب وتدمير الأسطول المصري وفرض حالة من الانكفاء على محمد علي.

كما تجدر الإشارة في هذا السياق أيضا إلى ثلاث مسائل على جانب كبير من الأهمية. المسألة الأولى: أن محمد علي كان لديه مشروع للتحديث والنهضة وأرسل بعثات علمية عديدة إلى أوروبا، وكاد مشروعه يزهر نظاما ديموقراطيا مكتملا، خصوصا في عصر إسماعيل، لكن أوروبا وقفت ضد أي مشروع للتحديث في المنطقة، إذا كان مستقلا، وقامت بريطانيا بقطع الطريق على عملية التحول الديموقراطي ووقفت بصراحة مع الاستبداد، ممثلا بالخديوي توفيق.

المسألة الثانية: أن أوروبا سعت لاستغلال التناقضات بين العرب والأتراك، لكن هدفها الحقيقي كان إضعاف الطرفين معا، لذلك لم تتردد في تأليب العرب ضد الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى، ثم ما لبثت أن قامت بخداع العرب وقسمت بلادهم إلى مناطق نفوذ (اتفاقية سايكس- بيكو: 1916).

الحقيقة الثالثة: أن مساعدة القوى الأوروبية، خصوصا بريطانيا، للمشروع الصهيوني استهدفت في المقام الأول وقبل كل شيء الحيلولة دون قيام دولة عربية أو إسلامية كبرى في هذه المنطقة في المستقبل. لذلك لم يكن غريبا أن تشهد هذه المرحلة انهيار الامبراطورية العثمانية، وتقسيم تركتها العربية بين القوى الأوروبية، ثم احتلال الدول العربية احتلالاً أوروبياً مباشراً، ثم صدور وعد بلفور.

3- مرحلة التحرر ومحاولة تحقيق الاستقلال الوطني:
تسبب التنافس الاستعماري بين القوى الأوروبية في إشعال حربين عالميتين ترتب عليهما تراجع مكانة أوروبا وبروز قوتين عظميين من خارج القارة العجوز تتنافسان للسيطرة على النظام الدولي، ما وفّر مناخاً ملائماً لنشاط حركات التحرر الوطني التي استطاعت، تارة بوسائل سلمية وأخرى بوسائل عنيفة، من الحصول على الاستقلال السياسي شكلا. ورغم الميول التحديثية للنخب التي وصلت إلى الحكم في الدول العربية وقيامها بإرسال عدد كبير من المبعوثين في الخارج وتوسيع نطاق التعليم، إلا أنها عجزت عن التغلب على العديد من المشكلات البنيوية التي خلفتها الحقبة الاستعمارية، خصوصا قضية التبعية الاقتصادية، وأزمة الهوية. ووجد العسكريون، في ظل استمرار وتنامي الصراع مع إسرائيل، فرصة سانحة للزحف على الحكم. وهكذا حشرت الشعوب العربية، ولأسباب لا مجال للتفصيل فيها هنا، بين استبداد الداخل من ناحية، وأطماع الخارج، ما أدى إلى عرقلة عملية التحديث والإصلاح، وتسرّب النسبة الأكبر من الحاصلين على أعلى الشهادات والخبرات إلى الخارج أو عدم عودتهم من بعثاتهم، في ما أصبح يعرف بظاهرة «نزيف العقول».

4- مرحلة ما بعد الحرب الباردة:
وفيها حاولت الولايات المتحدة إحكام هيمنتها المنفردة على النظام الدولي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتسخير قوى العولمة لنشر نموذجها القيمي والحضاري تمهيدا لفرضه على العالم بأسره. ولأن العالم العربي بدا، بموقعه الجغرافي المتميز وثروته النفطية الهائلة وضعفه السياسي، لقمة سائغة يسهل ابتلاعها بسهولة، راح المحافظون الجدد في الولايات المتحدة بقيادة بوش، خصوصا بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، يعدّون العدّة لفرض الهيمنة الأميركية على المنطقة، مستفيدين من حماقة وتهور بعض الأنظمة العربية. وهكذا كانت الحرب العدوانية الظالمة على العراق والتي راح ضحيتها أكثر من مليون قتيل وملايين عدة من الجرحى والمشردين والمهجرين، وكان الحصار الظالم على الفلسطينيين.

في سياق كهذا يصعب الحديث عن حوار ثقافي بين العرب والأوروبيين أو بين العرب والغرب بصفة عامة، من دون تغيير جذري في هيكل وموازين القوى في النظام الدولي. ولأنه يصعب أن يكون هناك تفاعل وحوار ثقافي حقيقي في ظل نظام للهيمنة، لأن الحوار يتطلب التعامل مع الفرقاء على قدم المساواة والاعتراف بأن لكل ثقافة أو حضارة ما تعطيه وما تأخذه من الآخرين، ففي تقديري أن نظاماً دولياً متوازناً ومتعدد الأقطاب هو وحده الكفيل بتوفير المناخ الملائم لحوار حقيقي بين الثقافات.
"الحياة"

التعليقات