31/10/2010 - 11:02

حول حلّ السلطة مجدداً../ د. علي الجرباوي*

حول حلّ السلطة مجدداً../ د. علي الجرباوي*
طفا على السطح، بعد الاجتياح الاسرائيلي المدعوم بالتواطؤ الأميركي - البريطاني، لمقاطعة وسجن أريحا، الذي تخللته إجراءات ومظاهر استهانة ومهانة بالسلطة الوطنية الفلسطينية، دعوات عديدة، منها ما آلت لأول مرّة من داخل حركة "فتح"، تطالب الرئيس الفلسطيني بالاستقالة وحلّ السلطة. مع أن هذه الدعوات صحيحة في مضمونها، إلاّ انني أعتقد أنها تأتي متسرّعة في مسألة فورية المطالبة بتحقيقها، كونها دعوات تأتي كردّ فعل انفعالي على حدث خطير وبشع، وليس كفعل فلسطيني مدروس ومبرمج لمواجهة المحنة الفلسطينية العامة، الناجمة عن عملية تسوية سياسية استُغلّت إسرائيلياً لفرض وقائع الرؤية الإسرائيلية للتسوية على أرض الواقع.

قبل حوالي ثلاث سنوات، وعندما بدأت إسرائيل إجراءات إقامة الجدار القاسم في الضفة، طَرَحْتُ في مجموعة من المقالات والندوات، برنامج عمل فلسطينياً يتمحور حول توظيف حلّ السلطة لمنع إسرائيل من النجاح في مسعاها إنهاء القضية الفلسطينية عبر حشر الفلسطينيين في "منزلة بين المنزلتين"، وهي حالة يُعلّق فيها الوضع الفلسطيني من ناحية قانونية وفعلية بين إنهاء الاحتلال والحصول على الاستقلال الناجز من جهة، والانفصال عن الفلسطينيين، مع الابقاء على الاحتلال الاسرائيلي من جهة أخرى. إنها حالة لا تعطي الفلسطينيين دولة فلسطينية مستقلة وسيادية على حدود العام 1967، ولكنها بالمقابل، لا تؤدي الى ضمهم ودمجهم داخل دولة إسرائيل. إنها حالة مركبة تتلخص بأن "لا انسحاب إسرائيلياً من الأرض ولا ضمّ للفلسطينيين الى إسرائيل". أما ترجمة هذه الحالة، فتكون من خلال حشر الفلسطينيين في أضيق معازل، ومنحهم السيطرة (وليس السيادة) القانونية عليها. هذه هي فحوى خطة التسوية الاسرائيلية طويلة المدى: الاحتفاظ بأكبر مساحة من الأرض الفلسطينية، مع التخلص من التبعية القانونية والعبء المعيشي للفلسطينيين. بهذه الطريقة تحقق إسرائيل توسيع مساحتها، ولكن دون "التعرض لخطر" التحوّل لدولة ثنائية القومية جرّاء ذلك، وهو تحوّل يؤدي الى فنائها. كل ما يحتاجه هذا المشروع الاسرائيلي للتحقق هو إيجاد ووجود سلطة فلسطينية تقبل بأن يُختَصر دورها بـ"السيطرة" على المعازل الفلسطينية فقط، وليس بـ"السيادة" على الدولة الفلسطينية. يمكن من وجهة النظر الاسرائيلية، إن قبلت هذه السلطة المضمون الذي تسعى إليه إسرائيل، أن تتساهل هذه الأخيرة معها بالمظاهر، وأن تجعلها تسمي المعازل "الامبراطورية الفلسطينية".

من خلال الوهم بأن الانسحاب الاسرائيلي والسيادة الفلسطينية لا بد وأن تتحقق من خلال استمرار "التفاوض الأزلي"، وبواسطة دعم مالي دولي أغدق عليها خلال سنوات ماضية، أقنعت السلطة الفلسطينية نفسها، وحاولت باستمرار إقناع الفلسطينيين، بأن "مشروعها" ناجح، ولا بد وأن يُنجز. ولم يتم أخذ ما تقوم به إسرائيل من فرض مستمر للوقائع على محمل الجدّ، فكل ذلك سيزول مستقبلاً بقوة الدفع الذاتي لمسيرة التسوية السياسية التي وإن تعثرت حتى الآن لا بد وأن تعطي نتائجها الإيجابية في المستقبل.

عدا خسارة مَن في السلطة للسلطة في الانتخابات الأخيرة، فإن هذه السلطة تقف الآن أمام واقع لا يمكن للأوهام أن تستمر في إخفائه: حزب "كاديما"، المرشح لحصد أكثر المقاعد في الانتخابات الاسرائيلية، يخوض حملته الانتخابية على برنامج ترسيم حدود إسرائيل، تاركاً للفلسطينيين كانتونات أصبحت قائمة ومعروفة. الدعم المالي الدولي للسلطة تبخّر، والسلطة تحوّلت في الآونة الأخيرة الى دائرة شؤون اجتماعية تلهث كل شهر لتدبير فاتورة رواتب موظفيها. واتفاقات دولية يطالب الفلسطينيون بعضهم البعض، بضرورة الاعتراف والالتزام بها، بينما تضرب فيها إسرائيل وأميركا وبريطانيا عرض الحائط في أريحا. ما الفائدة التي نجنيها فلسطينياً، من بقاء السلطة التي لا تتحول وفقاً للوقائع المنظورة، الى دولة؟ هل السلطة وسيلة لتحقيق الاستقلال والسيادة أم غاية بحدّ ذاتها؟ ولماذا نقبل باستمرار عملية تسوية سياسية أُعلن مراراً عن موتها سريرياً، ولا تقود سوى لإفساح المجال لإسرائيل، لفرض وقائعها في الأرض المحتلة؟

حلّ السلطة يجب أن لا يأتي كردّ فعل على شعور بالمهانة على عجز السلطة في أريحا، فهذا العجز قديم، أو على نقض إسرائيل للاتفاقيات والتستر عليها دولياً، فهذا أمر يحصل منذ أمد بعيد، أو بسبب توقف الدعم المالي الدولي، فالإهانة هي الرضى بالرشوة مقابل استباحة الحقوق الوطنية. حلّ السلطة يجب أن لا يأتي نتيجة حالة "حَرَد" تكتيكي، وإنما جرّاء موقف فلسطيني استراتيجي يطلب إنهاء ما كان يسمى "الغموض البنّاء" لعملية تسوية سياسية مفتوحة ولا نهائية: للاستمرار في هذه العملية، ولضمان انها لا تُوَظَّف ضدنا، علينا معرفة الموعد النهائي لاستكمالها والنتيجة النهائية لها. من هذا المنطلق علينا فلسطينياً اعطاء موقف واضح للعالم يتضمن النقاط التسلسلية التالية:

1) نحن مع تسوية سياسية تقود الى انهاء الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والسيادية على حدود العام 1967، ولا نقبل ما دون ذلك.

2) على اسرائيل ان تختار إما الحل القائم على الدولتين او الحل الذي يقود لقيام الدولة ثنائية القومية، ولا خيار آخر بينهما لاننا لن نقبل بوضعية "المنزلة بين المنزلتين".

3) على اسرائيل ان تقوم بهذا الاختيار خلال ستة اشهر من تاريخه، فاذا وجد الجانب الفلسطيني المؤشرات الايجابية الحقيقية لانهاء الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة فان هذا هو خياره، أما إن استمرت اسرائيل بفرض وقائعها على الارض فاننا تلقائياً سنقوم بحل السلطة عند نهاية الفترة المحددة اصلاً، إذ سيكون لاستمرارها حينئذ نتائج سلبية على المستقبل الفلسطيني.

4) على المجتمع الدولي ان يتحمل مسؤولياته تجاه ايضاح موقفه واستيضاح موقف اسرائيل من التسوية السياسية، فالعبء هو عند الجانب الاسرائيلي ويجب ان لا يستمر احد بالقائه على الجانب الفلسطيني.

5) في حالة لم تتم الاستجابة للحل القائم على الدولتين من قبل اسرائيل (وهذا هو المتوقع أصلاً) فان عليها ان تتحمل نتائج تحولها الى دولة ثنائية القومية، اذ لا فائدة ترجى من وجود جدار قاسم وعازل الا بوجود سلطة غير السلطة الاسرائيلية تقبل ان تكون على الجهة الأخرى، أي ان تتولى الشؤون داخله بدون وجود السلطة الفلسطينية، على سلطة الاحتلال الاسرائيلي ان تتحمل مسؤولية استمرار احتلالها، وليس لها خيار سوى انهاء الاحتلال ان كانت لا تريد تحمل هذه المسؤولية.

كان الأفضل ان يكون هذا الموقف هو موقف الإجماع الفلسطيني في مباحثات تشكيل الحكومة وان يشكل برنامجها، وليس ان تتحول هذه المباحثات الى جدل سفسطائي حول نصوص بلاغية لا ترجمة عملية لها. الخلاف يجب ان لا يكون فلسطينياً - فلسطينياً، والوضع الفلسطيني لا يتحمل مناكفة فلسطينية - فلسطينية. على القيادة الفلسطينية ان ترتقي لمواجهة الخطر المصيري الذي يواجه القضية الوطنية، وحلّ السلطة يشكل أهم سلاح يملكه الفلسطينيون في مواجهة هذا الخطر. يجب ان لا نتردد بوضع هذا السلاح موضع التهديد، وان نقوم بعد ذلك بالتنفيذ. على المترددين ان يسألوا أنفسهم: ما هي الخسارة الفلسطينية (وليس الشخصية) التي تترتب عن حلّ السلطة؟

ملاحظة: هناك من يقول بان إسرائيل لن توافق على حلّ السلطة ولن توافق أيضاً على العودة لتحمل مسؤولياتها. بالتأكيد انها لن توافق على حل السلطة، لان ذلك يغير بمخططاتها، ولكن بالتأكيد انها مضطرة لتحمل مسؤوليات استمرار احتلالها في حال أعلن الفلسطينيون من جانبهم عن حلّ السلطة، وذلك لدواع عديدة يجدر بالمشككين التفكير مليّاً بها.

* أُستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت.

التعليقات