31/10/2010 - 11:02

خطة فك الارتباط: الخلفية والنتائج / د. محمود محارب

خطة فك الارتباط: الخلفية والنتائج / د. محمود محارب
يعتبر شارون من أكثر القادة الإسرائيليين وضوحاً في التعبير عن أفكاره وآرائه السياسية وعن السياسة التي ينبغي على إسرائيل اتباعها لتحقيق أهدافها. ومنذ أن اعتلى سدة الحكم في إسرائيل، أكد أن الوقت لم يحن بعد لعقد سلام شامل مع الفلسطينيين، واقترح حلاً مرحلياً طويل الأمد يستمر فترة زمنية تربو على عقد ونصف العقد، وسعى لفرض هذا الحل على الشعب الفلسطيني. واجه شارون، كغيره من رؤساء الوزراء الذين سبقوه، معضلة أساسية فشلت إسرائيل في إيجاد حلٍ لها منذ احتلالها للأراضي الفلسطينية في العام 1967 وحتى الآن، وتنبع هذه المعضلة المزمنة من التناقض القائم بين المطلب الصهيوني في الضم من ناحية، والحفاظ على إسرائيل كدولة يهودية، من ناحية أخرى. فضم الأراضي الفلسطينية المحتلة يلغى،على أرض الواقع، إسرائيل كدولة يهودية ويحولها، موضوعياً، إلى دولة ثنائية القومية، يزداد عدد العرب الفلسطينيين فيها بنسبة عالية، ليصبحوا أغلبية كبيرة. أما الانسحاب من الأراضي المحتلة، فإنه يتناقض مع العقيدة الصهيونية.

في سياق تطبيق قناعته القائمة على رفض الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران 1967، وإدراكه خطورة ما يطلق عليه صهيونياً "الخطر الديمغرافي"، سعى شارون إلى إقامة نظام فصل عنصري في فلسطين التاريخية. ووفق رؤيته، تنسحب إسرائيل من داخل قطاع غزة ومن 42 بالمئة من الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967، وفي المقابل تضم إسرائيل الأراضي الفلسطينية التي أقيمت عليها المستوطنات، وكذلك تضم ما أمكنها من مناطق أخرى في الضفة الغربية.

ساهمت مجموعة من العوامل في التأثير على شارون لطرح خطته، وأهمها: أولاً؛ خشيته من أن تواجه إسرائيل وضعاً يسعى فيه المجتمع الدولي إلى فرض حلٍ على إسرائيل، مثل خارطة الطريق، أو المبادرة العربية أو غيرها من المبادرات. ثانياً؛ فشل إسرائيل في كسر إرادة الشعب الفلسطيني وتواصل الانتفاضة الفلسطينية، وما تلحقه بإسرائيل من أذى منظور وغير منظور. ثالثاً؛ خشية شارون مما يعرف صهيونياً، "بخطر المسألة الديمغرافية".

وقد جاءت هذه الخطة في سياق استراتيجية شارون الساعية إلى شطب الاتفاقات السابقة وإلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني وتركيعه وتغيير قيادته وإلى وقف المقاومة الفلسطينية بشقيها المسلح والشعبي، وتعزيز الاستيطان في الضفة الغربية. وساهمت مجموعة من العوامل في نجاح شارون في تجميد خطة خارطة الطريق وجعل خطته "اللعبة الوحيدة" في المدينة، أبرزها :

أولاً : علاقات إسرائيل القوية والخاصة مع الولايات المتحدة الأميركية، في عالم أحادي القطب تقوده أميركا.

ثانياً : حالة الضعف العربي، واحتدام الصراعات العربية البينية وتعاظم المنافسة الدائرة في ما بينها على التقرب من الإدارة الأميركية، لكسب رضاها وودها.

ثالثاً : عدم وجود معارضة إسرائيلية في إسرائيل خارج إطار حزب الليكود واليمين المتطرف الإسرائيلي، وتبني اليسار الصهيوني خطة شارون دون تحفظ ودون أن يطرح رؤية بديلة يناضل لتحقيقها.

رابعاً : عدم وجود استراتيجية نضالية فلسطينية واحدة تتفق على الهدف الذي يسعى الفلسطينيون لتحقيقه، وتحدد وسائل النضال التي يتوجب اتباعها لتحقيق هذا الهدف.

كان من المفروض أن تواجه خطة فك الارتباط من جانب واحد معارضة من واضعي خطة خارطة الطريق، أو من أوروبا أو من الدول العربية، بيد أن هذا لم يحدث. فبعد فترة تردد قصيرة، دخلت واشنطن في مفاوضات طويلة مع شارون حول خطته. وسرعان ما تمحورت المفاوضات حول الثمن الذي ستدفعه الإدارة الأميركية للطرف الذي يجمد خطتها، خطة خارطة الطريق، ويضعها على الرف، ويستبدلها بخطة متناقضة معها.

ومن المفارقات أن العقبة الأساسية التي وقفت أمام خطة فك الارتباط تمثلت في المعارضة القوية والفعالة داخل إسرائيل وبالذات داخل حزب الليكود الحاكم واليمين المتطرف الإسرائيلي. وفي ظل تبني خطة شارون دولياً وإقليمياً لم يبق أمام صاحب الخطة سوى أن يمررها عبر عدة محطات مركز حزب الليكود، كتلة حزب الليكود في الكنيست، الحكومة الإسرائيلية والكنيست. وفي كل محطة من محطات هذه الخطة واحتدام الصراع حولها بين مؤيد ومعارض كان شارون يعزز مكانته على الصعيدين الإقليمي والدولي كرجل "سلام" لا كمجرم حرب. ليس هذا فحسب، ففي كثير من الأحيان تجندت بعض الدول، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية وعدة دول في المنطقة لتمرير خطته إسرائيلياً.
تمحورت المفاوضات الإسرائيلية الأميركية، أساساً، حول مضامين رسالة الضمانات الأميركية، وأحرزت إسرائيل إنجازاً تاريخياً مهماً فاق جميع التوقعات، بما في ذلك توقعات الإسرائيليين أنفسهم. فقد استجاب الرئيس الأميركي جورج بوش في تلك الرسالة التي أرسلها إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، على شكل بيان رئاسي، لمعظم المطالب الإسرائيلية، إن لم يكن كلها. ويمكن إيجاز النقاط المركزية في رسالة الضمانات كالتالي:

1.تبنت رسالة الضمانات خطة فك الارتباط من جانب واحد، ووضعتها على رأس الأجندة السياسية لسنوات طويلة، وجعلتها عملياً، وان لم يكن رسمياً، الخطة الوحيدة القائمة على الساحة، والمفروضة على جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية للتعاطي معها، وبذلك، جمدت خارطة الطريق وحولتها إلى جسم محنط تبث الروح فيه فقط من أجل منع طرح مشاريع أخرى. فقد التزم الرئيس الأميركي بأن الولايات المتحدة ستبذل كل ما في وسعها لمنع أية محاولة من قبل أيٍ كان لفرض خطة أخرى.

2.احتل موضوع "الإرهاب" و"مكافحة الإرهاب" المكانة الأولى، بديلاً عن الاحتلال والسعي لإزالته. جاء في رسالة الضمانات أنه "على القيادة الفلسطينية أن تقف بحزم ضد الأعمال الإرهابية بما فيها القيام بعمليات مؤثرة ومستمرة من أجل وقف الإرهاب وتفكيك بنيته التحتية وقدراته". ولكي لا يترك مجال للنقاش حول معنى "الإرهاب" والفرق بينه وبين المقاومة المسلحة، شددت رسالة الضمانات على أنه "يجب على الفلسطينيين التوقف عن القيام بأعمال عسكرية وجميع أشكال العنف ضد الإسرائيليين في أي مكان". كذلك أكدت الرسالة على "أنه لن يتمتع الإسرائيليون والفلسطينيون بالأمن ما لم يجتمعوا هم وكافة الدول في المنطقة ويوحدوا جهودهم لمحاربة الإرهاب ويفككوا المنظمات الإرهابية".

3.تعهد بوش أنه في أية تسوية سلمية يتوجب "أن يكون لإسرائيل حدود آمنة ومعترف بها وان تكون ناجمة عن مفاوضات بين الأطراف استناداً لقراري مجلس الأمن 242 و 338، وفي ضوء الحقائق الجديدة على الأرض، وخاصة وجود المراكز السكانية الإسرائيلية الرئيسة القائمة بالفعل، فإن من غير الواضح أن نتوقع أن تسفر مفاوضات الحل الدائم عن العودة الكاملة والشاملة إلى خطوط الهدنة لعام 1949". برر جورج بوش موقفه هذا بقوله "إن كل جهود التفاوض السابقة بشأن إيجاد حل على أساس الدولتين توصلت إلى نفس النتيجة".
.رفض بوش في البيان الرئاسي حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم داخل حدود إسرائيل، وتبنى الموقف الإسرائيلي بالكامل بصورة جلية وواضحة، حيث ذكر "أن الولايات المتحدة ملتزمة بقوة بأمن إسرائيل ورفاهيتها كدولة يهودية". ومن زاوية يهودية دولة إسرائيل ذكر بوش أنه "من الواضح أنه في إطار حل متفق عليه، وعادل وواقعي لمسألة اللاجئين الفلسطينيين، وكجزء من أي حل دائم، فإن هذا الحل سيتحقق من خلال إنشاء دولة فلسطينية وتوطين اللاجئين الفلسطينيين فيها وليس في إسرائيل".

5.لم يعارض البيان الرئاسي إنشاء جدار الفصل، وقبل تعهد حكومة إسرائيل "أن يكون الجدار أمنياً، بدلاً من جدار سياسي، وأن يكون مؤقتاً بدلاً من دائم، وأن لا يلحق ضرراً بقضايا الوضع النهائي بما في ذلك الحدود النهائية".

6.تضمن البيان الرئاسي المطالبة بأن تكون لإسرائيل حدود آمنة ومعترف بها وكذلك "بحدود ذات مقدرة للدفاع عنها"، وهي المرة الأولى أيضاً التي تقبل الولايات المتحدة تبني مثل هذه الصيغة.

جاءت وثيقة فك الارتباط على شكل رسالة وجهها شارون إلى بوش في 14 نيسان 2004. أكد شارون في ديباجة الوثيقة أن "إسرائيل ملتزمة بالعملية السلمية وتتطلع نحو تسوية متفق عليها، على قاعدة مبدأ دولتين لشعبين : دولة إسرائيل كدولة للشعب اليهودي ودولة فلسطينية للشعب الفلسطيني".

وبرر شارون فك الارتباط من جانب واحد بقوله أن إسرائيل توصلت "إلى الاستنتاج بأنه ليس ثمة شريك فلسطيني اليوم يمكن التقدم معه في عملية سلمية متبادلة". وأكد أن الخطة ليست مشروطة بتعاون فلسطيني وأنها ستنقل إسرائيل إلى واقع أمني أفضل. وأوضح أن إسرائيل ستنسحب من قطاع غزة ومن أجزاء في شمال الضفة الغربية، وأنه في حين "لن تكون هناك مستوطنات إسرائيلية في قطاع غزة في أية تسوية نهائية فإنه بالمقابل، من الواضح أنه ستبقى في يهودا والسامرة مناطق تشكل جزءاً من دولة إسرائيل، بما في ذلك مستوطنات مدنية ومناطق أمنية وأماكن لإسرائيل مصالح أخرى فيها". وأضاف شارون أن خطة فك الارتباط " تسحب البساط من تحت أقدام المزاعم الموجهة ضد إسرائيل بشأن مسؤوليتها عن الفلسطينيين في قطاع غزة". واختتم شارون الديباجة بادعائه أن "خطة فك الارتباط لا تمس بالاتفاقات القائمة بين إسرائيل والفلسطينيين" وأنه "عندما تتوافر في الجانب الفلسطيني قرائن على استعداد، وقدرة وتنفيذ فعلي لمحاربة الإرهاب وإجراء الإصلاحات وفق خارطة الطريق، عندئذ يمكن العودة إلى مسار المفاوضات والحوار"، وفي شرحه لأسس الخطة أكد شارون أن إسرائيل ستخلي قطاع غزة، بما في ذلك المستوطنات القائمة، باستثناء خط الحدود بين قطاع غزة ومصر، وأضاف أنه عند انتهاء عملية الانسحاب من قطاع غزة " لن يكون هناك أساس للزعم بأن قطاع غزة هو منطقة محتلة". وفي ما يخص إعادة الانتشار في الضفة الغربية، ذكر شارون أن "إسرائيل ستخلي منطقة في شمالي السامرة (مستوطنات غانيم، كاديم، حومش، وسانور) وجميع المنشآت العسكرية الثابتة في هذه المنطقة".

وبالنسبة لجدار الفصل، أكد شارون أن إسرائيل ستواصل بناءه وفق قرارات الحكومة ذات الصلة، وسيأخذ المسار بالحسبان الاعتبارات الإنسانية".
بعد أن تنسحب إسرائيل من داخل قطاع غزة، فإنها ستحاصره براً وبحراً وجواً وفق خطة فك الارتباط. فقد جاء في الوثيقة أن إسرائيل "ستشرف وتحافظ على الغلاف الخارجي البري، وستسيطر بشكل حصري على المجال الجوي لغزة، وستواصل إجراء نشاطات عسكرية في المجال البحري لقطاع غزة". علاوة على ذلك فإن قطاع غزة، وفق الخطة "يتوجب أن يكون منزوعاً من السلاح الذي لا يتوافق وجوده مع الاتفاقات القائمة"، كذلك ستحتفظ إسرائيل لنفسها "بحق الدفاع عن النفس" بما في ذلك القيام بالخطوات الوقائية والرد "واستخدام القوة ضد الأخطار التي تنشأ داخل قطاع غزة".

وفي ما يخص الضفة الغربية، كرر شارون "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس" "وحق الرد" و "حق استخدام القوة ضد الأخطار التي تنشأ في المنطقة المخلاة". أما في باقي مناطق الضفة فقد أكد أن "العمليات الأمنية الجارية" ستتواصل، ووعد في الوقت ذاته أن تعمل إسرائيل على تقليص نقاط التفتيش في عموم الضفة.

تمنح خطة فك الارتباط أربع دول دوراً أمنياً، هي الولايات المتحدة وبريطانيا ومصر والأردن. فبعد أن تحصل هذه الدول على موافقة إسرائيل وبعد التنسيق معها، يسمح لها بمساعدة وتدريب قوات الأمن الفلسطينية، "بغرض محاربة الإرهاب والحفاظ على الأمن العام". وشملت خطة فك الارتباط ألا يكون هناك وجود أمني في الضفة والقطاع لأية دولة من دون التنسيق مع إسرائيل والحصول المسبق على موافقتها.

وفي ما يخص منطقة حدود قطاع غزة مع مصر، تؤكد الخطة على استمرار الوجود العسكري الإسرائيلي على طول هذه الحدود (محور فيلادلفي وفق التسمية الإسرائيلية)، وتشير إلى إمكانية توسيعها الأمر الذي قد يعني هدم مئات بل آلاف المنازل الفلسطينية. ولم تستثن الخطة أن تقوم إسرائيل بإخلاء المنطقة الحدودية المذكورة، بيد أنها ربطت ذلك واشترطته "بالواقع الأمني وبمقدار التعاون المصري في خلق تسوية مأمونة أخرى". وتضيف الخطة انه "عندما تنشأ الظروف لإخلاء هذه المنطقة ستكون إسرائيل على استعداد لفحص إمكانية إقامة ميناء بحري ومطار في قطاع غزة، وفقاً للترتيبات التي ستقرر مع إسرائيل".

وفي ما يخص الأملاك الثابتة في المستوطنات الإسرائيلية بعد الانسحاب منها تقترح الخطة إقامة هيئة دولية، بموافقة إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، تكون مهمتها تسلم الملكية على هذه المستوطنات، حيث ستبقى هذه الملكية تحت إشراف تلك الهيئة، وتقدير عموم الأملاك يقع ضمن مهمات الهيئة أيضاً. والهدف من ذلك احتفاظ إسرائيل لنفسها "بحق المطالبة بأخذ القيمة الاقتصادية للأملاك التي ستبقى في المنطقة بالحسبان". وبالنسبة للبنى التحتية والترتيبات المدنية، تؤكد الخطة أن البنى التحتية للمياه والكهرباء والمجاري والاتصالات، التي تخدم الفلسطينيين ستبقى، وان إسرائيل ستسمح باستمرار تزويد الفلسطينيين بالكهرباء والمياه والغاز والوقود وفق الترتيبات القائمة. كذلك تؤكد الخطة أن الترتيبات الاقتصادية السارية حالياً بين إسرائيل والفلسطينيين ستبقى على ما هي عليه، وتشمل حركة العمال والبضائع والنظام المالي والضرائب والنظام الجمركي والبريد والاتصالات.

وبخصوص المنطقة الصناعية " إيرز"، الواقعة في أقصى شمال قطاع غزة، تشترط الخطة إبقاءها على ما هي عليه بشرطين : إجراء ترتيبات أمنية مناسبة، واعتراف صريح من الأسرة الدولية بأن استمرار وجود المنطقة الصناعية بشكلها الحالي، "لن يعتبر استمراراً للسيطرة الإسرائيلية على المنطقة". على أية حال لم تنتظر حكومة إسرائيل تحقق شرطيها، وقررت إخلاء المنطقة الصناعية ونقلها إلى مناطق عديدة داخل إسرائيل، في أعقاب حدوث عمليات فدائية في المنطقة الصناعية.
وبما يخص "معبر إيرز"، الواقع داخل قطاع غزة في أقصى شماله، تؤكد الخطة أن هذا المعبر سينقل إلى داخل الأراضي الإسرائيلية في جدول زمني محدد. أما بخصوص المعابر الدولية، بين قطاع غزة ومصر وبين الضفة الغربية وشرق الأردن، فتؤكد الخطة أن الترتيبات القائمة ستبقى سارية المفعول. وتشير الخطة إلى أن إسرائيل معنية بنقل "معبر رفح" الواصل بين قطاع غزة ومصر، إلى نقطة المثلث الحدودي بين قطاع غزة ومصر وإسرائيل، وذلك بعد التنسيق مع مصر. أما بالنسبة للجدول الزمني لتنفيذ خطة فك الارتباط، فمن المقرر، وفق الخطة، أن تنجز حتى نهاية العام 2005. وتستخلص الوثيقة في النهاية أن إسرائيل تتوقع دعماً واسعاً لخطة فك الارتباط "وهذا الدعم حيوي من أجل دفع الفلسطينيين لتنفيذ المطلوب منهم عملياً في مجال مكافحة الإرهاب وتنفيذ الإصلاحات وفق خارطة الطريق".

في أعقاب خسارة شارون في الاستفتاء داخل صفوف حزب الليكود، والذي جرى في أيار 2004، حيث صوتت غالبية الأعضاء المشاركين في الاستفتاء ضد خطة فك الارتباط، موجهين صفعة ليس فقط لشارون وإنما أيضاً إلى بوش، توجه صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين، إلى الرئيس بوش وطلب منه التراجع عن رسالة الضمانات. وفي رده على هذا الأمر قال الناطق باسم البيت الأبيض ان الإدارة الأميركية لم تغير رأيها بعد حصولها على نتائج التصويت داخل حزب الليكود. وأضاف المتحدث باسم البيت الأبيض أن الإدارة الأميركية ستجري مشاورات مع رئيس الحكومة الإسرائيلية حول كيفية التقدم في المسيرة. وفعلاًً أجرت كونداليسا رايس مشاورات مع المسؤولين الإسرائيليين وقرر البيت الأبيض على اثرها الاستمرار في دعم الخطة.

في الخامس من أيار 2004، بحث أعضاء اللجنة الرباعية، ممثلين بوزير خارجية الولايات المتحدة كولن باول ووزير خارجية روسيا ووزيرة خارجية ايرلندا ( الرئيسة المؤقتة للاتحاد الأوروبي ) وخافيير سولانا، المسؤول عن العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، وأمين عام هيئة الأمم المتحدة كوفي أنان، خطة فك الارتباط. وطالب المجتمعون إسرائيل التمسك بخطة فك الارتباط وتنفيذها، كما كان مقرراً، وذلك على الرغم من كونها تجمد لفترة طويلة، خطة الرباعية وهي خارطة الطريق. وبذلك بات من الواضح أن خطة فك الارتباط من جانب واحد لم تعد خطة إسرائيلية تحظى بالدعم والمباركة من الإدارة الأميركية فحسب، بل أضحت خطة تدعمها الأسرة الدولية، وخاصة الرباعية صاحبة خطة خارطة الطريق ذاتها.

بعد أن غدت خطة فك الارتباط من جانب واحد "اللعبة الوحيدة في المدينة"، حاول أصحاب خطة خارطة الطريق الجمع بين النقيضين، بدعوة إسرائيل إلى تنفيذ خطة فك الارتباط كمقدمة لتنفيذ خارطة الطريق. بيد أن طبيعة خطة فك الارتباط من جانب واحد، ادخلت الولايات المتحدة والرباعية في مأزق من جهة سؤال ما هو المطلوب من الفلسطينيين فعله. فخطة فك الارتباط من جانب واحد تستند الى تجاهل الفلسطينيين، وتعتمد على فرضية أن القيادة الفلسطينية "غير ذات صلة " وأن إسرائيل لن تتفاوض مع أي طرف فلسطيني، وأنها ستنفذ خطتها دون اعتبار لوجود طرف فلسطيني. وبعد أن قدحت الإدارة الأميركية زناد فكرها، توصلت إلى ضرورة تنفيذ خطة فك الارتباط من جانب واحد، كما هي مقررة، ووفق جدولها الزمني ووفق قرارات وأساليب إسرائيل في التنفيذ. أما الجانب الفلسطيني، وفق المنظور الأميركي، فعليه قبول الخطة لأنه دونها لا يمكن الوصول إلى خارطة الطريق، وينبغي عليه التنسيق مع إسرائيل في الإجراءات التنفيذية فحسب. وبررت الإدارة الأميركية التجرؤ في خدش " قدسية " أحادية الجانب في خطة فك الارتباط، بأن الإدارة تخشى أن انسحاباً إسرائيلياً من جانب واحد، ودون التنسيق مع السلطة الفلسطينية قد يؤدي إلى فوضى في الأراضي التي يتم الانسحاب منها، أو أن ذلك قد يقود إلى سيطرة "حماس" على هذه الأراضي. إزاء هذا المفهوم الأميركي، أكدت الإدارة الأميركية أن التنسيق مع السلطة الفلسطينية يمكن الاخيرة من الاستعداد الملائم والكافي لتتسلم المسؤولية على الأراضي التي ستنسحب منها إسرائيل.

وفي محاولة منها لاستباق قرار محكمة العدل الدولية حول جدار الفصل، الذي كان متوقعاً صدوره في تموز 2004، قررت المحكمة العليا الإسرائيلية أن بناء جدار الفصل من حيث المبدأ قانوني، بدعوى أنه يقام لاحتياجات أمنية إسرائيلية، ولكن في الوقت ذاته قررت المحكمة أنه، علاوة على الاعتبارات الأمنية، يتوجب عند تحديد مسار الجدار مواءمة هذه الاعتبارات الأمنية مع الاحتياجات الإنسانية الفلسطينية. وبناء على ذلك، قررت المحكمة أنه ينبغي على وزارة الدفاع الإسرائيلية تحديد مسار الجدار وفق هذين المعيارين.

ومقابل قرار المحكمة العليا الإسرائيلية، التي تأتي قراراتها عادة متأثرة بالسياسة الإسرائيلية وباحتياجات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، جاء قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي واضحاً وحاسماً، حيث قررت أن جدار الفصل ليس قانونياً وأنه يتوجب هدمه وإزالته ودفع تعويضات إلى المتضررين منه.

عشية وبعد صدور قرار محكمة العدل الدولية ثابرت إسرائيل والإدارة الأميركية الى التنسيق بينهما؛ أولاً بغرض التأثير على القرار ذاته، وثانياً من أجل تفادي نتائجه القانونية والسياسية، بعد صدوره. ففي 12 تموز 2004 وصل المسؤولان الأميركيان هدلي وابرامز إلى إسرائيل واجتمعا مع دوف فايسغلاس حال وصولهما، ثم اجتمعا في اليوم التالي مع شارون ووزير الأمن موفاز ورئيس هيئة الأركان موشي يعلون ورئيس جهاز الشاباك آفي ديختر ومع المستشار للأمن القومي غيورا ايلند. وقد تمحورت المباحثات حول جملة من القضايا أهمها التنسيق بين الدولتين بخصوص قرار محكمة العدل الدولية ضد جدار الفصل، ومماطلة إسرائيل في إخلاء المستوطنات العشوائية، ومسألة تجميد الاستيطان في الضفة الغربية وتطورات خطة فك الارتباط.

جرت هذه الزيارة على خلفية ازدياد امتعاض الإدارة الأميركية من التسويف والتأجيل الإسرائيلي المستمر في إزالة المستوطنات العشوائية، فقد أعربت الإدارة عن عدم رضاها عن هذا الوضع، خاصة في ضوء استمرار إقامة المستوطنات العشوائية، وقررت إقامة فريق أميركي خاص مكون من مختصين، وظيفته التفاوض مع إسرائيل حول مسألة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة وحجم هذا البناء وحدوده.

استندت السياسة التي سارت عليها الإدارة الأميركية، بخصوص الاستيطان الى موقف أميركا القاضي بالحفاظ على احتياط أراضٍ للدولة الفلسطينية المزمع إنشاؤها وفق رؤية بوش. لذلك طالبت الإدارة إسرائيل بتجميد البناء في المستوطنات وإزالة المستوطنات العشوائية. من ناحيته تعهد شارون ألا يتوسع البناء في المستوطنات خارج حدود الأراضي المبنية، ووافق على التفاوض مع أميركا على سياسة البناء في المستوطنات، مستنداً ليس فقط إلى مطلب إسرائيل التقليدي القاضي بعدم إمكانية تجميد البناء في المستوطنات لوجود زيادة طبيعية داخل المستوطنات، وإنما انطلق من تفسيره للضمانات الأميركية، التي وردت في رسالة بوش، والتي نصت على أن تحديد حدود إسرائيل والدولة الفلسطينية في الحل الدائم سيأخذ بعين الاعتبار "الوقائع الجديدة على الأرض" بما في ذلك وجود "مراكز سكانية إسرائيلية كبيرة". لقد فسر شارون ذلك انه اعتراف أميركي مستقبلي بضم الكتل الاستيطانية الكبيرة إلى إسرائيل. وبناءً على استنتاجه هذا توقع، وهذا ما تم فعلاً، أن تكون الإدارة الأميركية متفهمة ومرنة عند التطرق للبناء في "مراكز سكانية إسرائيلية كبيرة".
في تشرين الأول 2004، كشف مهندس خطة فك الارتباط ومبلور العلاقات الإسرائيلية الأميركية بخصوص خطة فك الارتباط الدوافع الكامنة وراء طرح الخطة والأهداف المرجوة منها، وذلك في حوار طويل أجرته معه صحيفة "هآرتس".

فقد ذكر فايسغلاس أن هدف الخطة التصدي للخطط السياسية المطروحة وتجميدها وطرح الإرهاب على أنه المشكلة الأساسية، وتجسيد الادعاء الإسرائيلي أنه لا يوجد شريك فلسطيني ووقف "التنازلات" الإسرائيلية. وحول سؤال ما هي أهمية فكرة فك الارتباط أجاب فايسغلاس : " فك الارتباط هي..... زجاجة الفورملين التي ندخل داخلها رؤية الرئيس كي تتجمد فترة طويلة جداً. خطة فك الارتباط هي في الحقيقة فورملين. انها تزود كمية الفورملين المطلوبة كي لا تكون هناك مسيرة سلمية مع الفلسطينيين... انها تمكن إسرائيل من الوقوف براحة في حالة مرحلية يتم خلالها إبعاد أي ضغط سياسي قدر الإمكان. انها تمنح شرعية لادعائنا أنه لا تفاوض مع الفلسطينيين. يوجد هنا قرار أن نفعل الحد الأدنى المطلوب من أجل الحفاظ على وضعنا السياسي، وهذا القرار يثبت نفسه. انه يمكن الأميركيين من مخاطبة العالم الهائج والمائج والقول له ماذا تريدون ؟ ماذا تريدون ؟ كما أنها ترغم العالم على العمل بفكرتنا نحن، بالسيناريو الذي كتبناه نحن. انها تضع الفلسطينيين تحت ضغط عظيم. انها تزج بهم في زاوية يكرهون أن يوضعوا بها... ".
ساهمت عدة عوامل في التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي آرئيل شارون لطرح خطته "فك الارتباط من جانب واحد"، وأبرزها :

1.خشيته من أن تواجه إسرائيل وضعاً يسعى المجتمع الدولي إلى فرض حل على إسرائيل والمتمثل في "خارطة الطريق ".

2.فشل إسرائيل في كسر إرادة الشعب الفلسطيني وتواصل الانتفاضة وما تلحقه بإسرائيل من أضرار منظورة وغير منظورة.

3.خشية شارون مما يعرف صهيونياً "بالخطر الديمغرافي ".

انسجمت خطة فك الارتباط من جانب واحد مع استراتيجية شارون الساعية إلى اقامة نظام فصل عنصري في الاراضي الفلسطينية، تقوم إسرائيل بمقتضى هذه الاستراتيجية بتفكيك الاحتلال والاستيطان من داخل قطاع غزة وبتركيبه وتعزيزه في الضفة الغربية المحتلة. فشارون يسعى إلى ضم الأراضي الفلسطينية التي أقيمت عليها "الكتل الاستيطانية" إلى إسرائيل، وكذلك ضم ما أمكنه من الأراضي الفلسطينية المحتلة غير المكتظة بالسكان.

من أجل تحقيق أهدافه، أولى شارون أهمية قصوى لعلاقاته مع الولايات المتحدة الأميركية بحيث أنه نسق كل خطوة يخطوها مع الإدارة الأميركية. وفي ظل هذه العلاقة وتحت سمع وبصر وحماية الولايات المتحدة الأميركية، قامت الحكومة الإسرائيلية بتنفيذ سياسة عدوانية تسعى، على أرض الواقع، إلى إقامة نظام فصل عنصري، وشمل ذلك : بناء جدار الفصل، تعزيز الاستيطان، وزيادة الاستيطان "العشوائي" ، وشق الطرق لاستعمال المستوطنين وحصار الفلسطينيين ومنعهم من استعمال الكثير من الطرق وهدم البيوت ...

لقد ساهمت مجموعة من العوامل في نجاح شارون في تجميد خطة خارطة الطريق، وجعل خطته "اللعبة الوحيدة في المدينة" أهمها: علاقة إسرائيل مع أميركا، والضعف العربي ، وعدم وجود معارضة إٍسرائيلية حقيقية لشاورن خارج حزبه، ولعدم وجود استراتيجية نضالية فلسطينية موحدة تتفق على الهدف الذي يسعى الفلسطينيون لتحقيقه، وعلى وسائل النضال التي يتوجب إتباعها لتحقيق هذا الهدف.

وفي ظل تبني خطة شارون دولياً وإقليمياً ، لم يبق أمامه سوى تمريرها وتنفيذها إٍسرائيلياً. ومن غير المتوقع، بل من شبه المستحيل، أن يتمكن اليمين المتطرف في إسرائيل المتمثل في المعارضين داخل حزب "الليكود" وحزبي "الوحدة الوطنية" و"المفدال" و "المستوطنين"، من عرقلة أو تأجيل أو منع تنفيذ خطة فك الارتباط في الأسابيع القادمة.

التعليقات