31/10/2010 - 11:02

خطيئتان بينهما فضيلة../ علي جرادات

خطيئتان بينهما فضيلة../ علي جرادات
في المدة الواقعة بين الحادي عشر مِن كانون أول والأول مِن كانون ثاني تقع أهم المناسبات الإحتفالية الحزبية الفلسطينية، حيث لعبت الصدفة في أن تحتضن مدة عشرين يوماً مناسبات الإعلان عن تأسيس ثلاثة فصائل فلسطينية هي: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي ولدت مِن رحم حركة القوميين العرب، في 11/12/1967، وكانت سبقتها حركة التحرر الوطني الفلسطيني فتح، بعد سنوات مِن الإعداد، في 1/1/1965، وإلتحقت، بعد عقدين ويزيد، حركة المقاومة الإسلامية حماس، إمتداد حركة الإخوان المسلمين، في 14/12/1987.

وأضافت الصدفة أن يكون تاريخ 9/12/1987 يوما لإندلاع الإنتفاضة الفلسطينية الشعبية، التي مثلت القفزة النوعية الأهم لتراكمات الفعل النضالي للثورة الفلسطينية المعاصرة، التي إنفجرت بعد عقدين على هزة النكبة، وهما العقدان اللذان إنقطع خلالهما، (عمليا وكإتجاه عام)، سياق تطور الحركة الوطنية الفلسطينية، حيث هزت "النكبة" جذوعها، وفرضت عليها مخاضٍ عسير مِن الإعداد، تلمس الفلسطينيون خلاله، ببطء وتردد، وجهة الإجابة السليمة على أسئلة مفصلية، تمثل أهمها وأكثرها جوهرية ومصيرية، سؤال علاقة القومي العربي بالوطني الفلسطيني في الصراع وعملية المجابهة فيما بعد وقوع النكبة عام 1948.

ظل الأمر كذلك، حتى جرى حسم إشعال فتيل الثورة الفلسطينية المعاصرة، التي أعطتها هزيمة عام 1967، بعد عامين مِن تفجرها، تسويغاً وزخماً إضافيين، علاوة على مرارات اللجوء وعذابات التشرد وهوان فقدان الأرض والحرمان مِن الحقوق الوطنية المشروعة لأي شعب، حيث بددت تلك الهزيمة آخر الأحلام الفلسطينية في الرهان على النظام الرسمي العربي وقدرته على استعادة ما تم إغتصابه مِن أرض وحقوق فلسطينية.

في هذه الأيام يقف الفلسطينيون، وبكل التعقيدات الراهنة التي تحيط بقضيتهم ونضالهم ومشروعهم الوطني، على عتبة ذكرى عشرين عاما على إندلاع الإنتفاضة الأولى، وذكرى إثنين وأربعين عاماً على إنطلاقة حركة فتح وتفجر ثورتهم المعاصرة، وذكرى أربعين عاماً على ميلاد الجبهة الشعبية، وذكرى عشرين عاماً على تأسيس حركة حماس.

عليه، ودون إغفال دور الفصائل والمحطات الفلسطينية الأخرى، فإن الفلسطينيين يقفون هذه الأيام عملياً، على ذكرى ميلاد مجمل مسيرتهم النضالية المعاصرة، بما لها وما عليها: نجاحاتها وإخفاقاتها، إيجابياتها وسلبياتها، ما حققته وما لم تحققه، إنتصاراتها وهزائمها، تجاربها ودروسها، إنجازاتها وخسائرها، و.....، غير أنهم في كل الأحوال، وبصرف النظر عن زاوية المطالعة، وبغض النظر عن المنطلق الفكري والسياسي والحزبي في القراءة، إنما يقفون على مسيرة أربعة عقود ونيِّف مِن الجهد النضالي الشعبي الجماعي، وحصيلة ملاحم شعبية مِن التضحية والبطولة والإيثار والفداء، مِن البدايات في الأردن، الى المحطة الثانية في لبنان، الى إسناد كل مواقع التواجد الفلسطيني في أماكن الشتات العربية والدولية، الى ميادين المواجهة المباشرة على أرض الوطن مِن أقصاه الى أقصاه، وفي ساحة عتمة السجون وأقبية التحقيق والتعذيب.

أمام عظمة هذا المعنى الوطني الأعمق للمناسبات الوطنية التي يزدحم بها شهر كانون الأول وبداية كانون الثاني، يهاب المرء، بل يجب أن يهاب الجميع، (كما أعتقد)، مِن الوقوع في أي شكلٍ مِن أشكال الخفة أو الإستعجال أو التسطيح في القراءة.

بالنظر إلى ما تقدم؛ وبالنظر الى ما يكتنف القضية الوطنية هذه الأيام مِن مخاطر؛ وبالنظر الى ما تعانيه الخارطة الحزبية للحركة الوطنية مِن أمراض، لعل أبرزها، وربما مِن أخطرها، التشويهات التي لحقت بمسألة الحزبية في التجربة الفلسطينية، تلك التشويهات التي أعتقد أنها تراوح بين توجهين أو نزعتين متطرفتين، تبدوان متناقضتين، غير أنهما، تلتقيان، وتقودان الى خطيئة مدمرة، وهما:

أولاً: شتم الحزبية والعزوف عنها الى درجة رؤية أن لا ضرورة للحزب السياسي، بل والنظر اليه كما لو كان مِن مخلفات الماضي، التي يجب وضعها في متحفٍ للعاديات، دون إدراك أن الأحزاب السياسية الفلسطينية، كما هو حال أية أحزاب سياسية أخرى في أي بلد آخر، هي، وليست غيرها، ما يشكل الأداة الأساسية للتغيير الإجتماعي على المستوى الوطني، وأن تشكيل الأحزاب، يلبي ضرورات موضوعية، ولا يأتي لأسباب ذاتية تلبي رغبات مجموعة مِن الناس أو الأفراد. وتنطوي النزعة المحاربة للحزبية في الواقع الفلسطيني، على خلط بين ضرورة وجود الأحزاب وأهميتها كمبدأ لا مناص منه، كما هو الحال في أي مجتمع آخر، وبين ضرورة تخليص ما هو قائم مِنها، مِن عيوبه وأمراضه وأدرانه، ما يقود الى ظواهر لعن الحزبية والأحزاب والهرب منها والعزوف عنها والتحريض عليها، بل والتحريض حتى على ما كان لها مِن تاريخ ايجابي، وفي هذا كثير مِن التجني والتوهان، فضلا عن عما فيه مِن تسطيح للأمور، وخلطٍ بين ضرورة الأحزاب وبين ترجماتها الراهنة في الواقع الفلسطيني، التي تحتاج للإصلاح والتطوير والإغناء، كما هو الحال في كل مرحلة مِن مراحل تطور حركة الواقع، وهو ما لا يأتي به السباب والشتم.

ثانياً: إعلاء شأن الحزبية والأحزاب القائمة الى درجة "الغرش" عن أدرانها وأخطائها وخطاياها، والتصرف معها، كما لو كانت بمثابة قبيلة مطلوب تقديسها بذاتها، والدفاع عنها، سواء على حق كانت أم على باطل، بل والإيغال في رفع شأنها الى درجة التعامل معها كهدف بحد ذاته، أي عدم رؤيتها كأدوات ووسائل لتحقيق أهداف سياسية وطنية للشعب، الذي تبقى مصلحته العليا فوق كل الأحزاب، التي جاءت لخدمته والدفاع عنه وإنتزاع حقوقه المغتصبة، الى حدِّ أن يعلي الكثيرون شأن أحزابهم، لا على شأن الشعب ومصلحته العليا فقط، بل وعلى تاريخه وحاضره ومستقبله أيضا، ليكون ذلك واحداً مِن الأسباب الأساسية الكامنة خلف ما يعيشه الفلسطينيون مِن إنقسام داخلي، لا داعي لتكرار تعداد كوارثه ومخاطره وأضراره الوطنية، القائم منها والمرتقب.

هنا، وبالنظر لحلول الذكرى الثانية والأربعين لإنطلاقة حركة فتح وميلاد الثورة الفلسطينية المعاصرة، والذكرى الأربعين لإنطلاقة للجبهة الشعبية، والذكرى العشرين لتأسيس حركة حماس؛ وبالنظر الى ما هنالك مِن ترابط بين خطيئة شتم الأحزاب حدَّ إنكار ضرورتها في الواقع الفلسطيني، وبين خطيئة تقديس القائم منها حدَّ التعامل معها كقبائل، يبدو أن الفلسطينيين بحاجة الى شيء مِن التوازن في التعامل مع موضوعة الحزبية، أراه بالقول:

صحيح أن لهذه المناسبات معنىً حزبياً، لا يخفى على أحد ما أصابه مِن تشوهات نوعية بحاجة لتصويب ومعالجة، غير أنها مناسبات ترمز الى ما هو أبعد وأعمق مِن معانٍ وطنية. فقد رسمت تلك الأحزاب مع باقي الفصائل الفلسطينية، وبتفاوت، المسيرة النضالية المعاصرة للشعب الفلسطيني، هي مرحلة مِن مراحل تاريخه، ويرقد في جوفها ما يُعرف وما لا يُعرف، وما يُحصى وما لا يحصى، مِن التضحيات والمعاناة والبطولة، هي، قبل توصيفاتها الحزبية، نبض حياتي هائل لأبناء فلسطين، العدد الأقل منهم حزبيين، سكبوه طواعية خلال مسيرة الطور المعاصر للثورة الفلسطينية، دون أن ننسى أنه لا يمكن فصل هذا الطور عن الأطوار التي سبقته منذ نشوء الحركة الوطنية الفلسطينية في عشرينيات القرن العشرين الماضي.

وبالتالي، فإنه، وبمقدار ما هنالك مِن ضرورة لتصويب مسيرة القائم مِن الأحزاب الفلسطينية، وتخليصها مما علق بها مِن أمراض وأدران وتشوهات، فإن هنالك ضرورة لعدم القفز عن تاريخها، الذي (بالتأكيد) يبقى أصغر مِن تاريخ الشعب، إلا أن مِن المغالطة والتجني، عدم رؤيته كجزء صميمي مِن هذا التاريخ. وبكلمات، فإن بين خطيئتي شتم الأحزاب في مبدئها وتقديسها بذاتها، هنالك فضيلة عدم إنكار تاريخها وضرورتها، إنما مع الإقرار بضرورة تخليصها مِن أمراضها وتشوهاتها.

التعليقات