31/10/2010 - 11:02

"خفة الكائن التي تحتمل"../ حنين زعبي

يستطيع العمل السياسي أن يدير ظهره للنساء، ولحقوقهن ولحرياتهن ولمكانتهن في المجتمع وفي السياسة وفي البيت، لكن العمل النسوي لا يستطيع إدارة ظهره للسياسة، من حيث هو لا يستطيع ألا يتعاطى مع قضية دور المرأة في المجتمع وفي مجالات صنع القرار في الحيز العام.

أكثر من هذا "إدارة الظهر" للعمل النسوي، من حيث هو عمل مع النساء، أو من أجل النساء، أو وفق مفهوم النساء، هو صفة عامة للسياسة في أي مكان، وهو يعتمد على سعة صدر جميع المجتمعات فيما يتعلق بعملية حجب النساء أو احتجابهن عن الواجهات الأمامية في شتى الميادين.

لكن في الوقت الذي تقوم فيه السياسة في معظم المجتمعات بالارتياح ل"خفة وجود المرأة"، تقوم معظم الجهات "المسؤولة" بالاعتراف بهذا الغياب وبالإدعاء بأهمية تغييره، وبالإدعاء بأنها تدعم مسار التغيير. وهي لا تفعل ذلك إلا لكونها تعلم أن هذا الإدعاء ضروري لإكسابها شرعية كقيادة، ولمنحها منفذا ما أمام جمهور وفئات النساء، ولإكسابها مظهرا "تقدميا" ومقبولا على جمهور ترك الخطاب التقليدي "للمرأة القاصر".

وكيل التغيير الأساسي في مجتمعنا هو الأحزاب، وبصفتها هذه تزداد أهمية تعاملها مع قضية المرأة ونضالها، ولا مجال لأي تغيير حقيقي في حقوق المرأة وتأثيرها في الحيز العام دون وساطة وقيادة الأحزاب السياسية. بالتالي لا تستطيع الجمعيات النسوية إحداث تغييرات جدية في مجال أهدافها، دون تعاون وتنسيق كاملين مع الأحزاب السياسية، واكثر من ذلك دون الاعتراف بأن الأحزاب السياسية هي وليس غيرها، من يدير دفة التأثيرات في هذا المجال.

مقابل ذلك، نحن لا نرى أن الجمعيات النسوية تتعامل مع الأحزاب العربية كساحة الحراك الأساسية لحسم القضايا المركزية والجوهرية في مجتمعنا، ومن ضمنها قضية المرأة، والمبررات المقنعة في جانب منها لهذا السلوك هو أن الجمعيات النسوية تعتبر الأحزاب جزءا من المشكلة وليست جزءا من الحل، وهذا صحيح، الأحزاب السياسية جزء من المشكلة بمفهوم أنها لم تمثل ولم تنتج حتى الآن ثقافة مختلفة جوهريا عن السقف الذي يطرحه المجتمع، ولم تطرح للمجتمع نموذجا آخر، لكنها أيضا جزء من الحل بمفهوم أنها ساحة الحل، هي المكان الطبيعي والأكثر قابلية لطرح واستيعاب النقاش حول مكانة المرأة، وهي المرشح الأقوى لطرح نموذج آخر من التعامل مع المرأة ولطرح نموذج آخر من المرأة.

المرأة الناجحة في التخصص المهني أو في مجال الأعمال أو حتى في العمل الأهلي يُطرح نجاحها بمعزل عن خطاب قيمي مرافق، وقد يستقبله المجتمع كحالة "استثنائية" أو فردية، لا يحمل رسالة عامة. أما المرأة القيادية داخل حزبها فيعرض نجاحها كجزء من رؤية شمولية تقدمية وأخلاقية، وينظّر له عبر منظومة كاملة من القيم والتسويغات النظرية، ويرفق تميزها بتميز حزبها، ويعرف تقدمها كقضية عامة ويعامل كجزء من نهضة مجتمعية كاملة (كل هذا يحدث أو يمكن أن يحدث!).

بالتالي فإن الثقافة السياسية السائدة داخل الأحزاب عليها أن تكون المستهدف الرئيسي في عمل الجمعيات النسوية، وتلك الثقافة السياسية هي ليست مجرد انعكاس تلقائي لثقافة المجتمع، بل إنها ككل قوة تصارع في السيطرة على المجتمع، تحوي داخلها بعدا ديماغوغيا. فداخل كل حزب هنالك قوى تدعم حقيقة نضال المرأة، وهنالك قوى توظف خطاب "حقوق المرأة" لأهداف لا تمت لهذا النضال بصلة إلا الصلة العكسية، وهي قوى رأت أيضا أن عليها أن تطور خطاب "اعتدال" خاص بها. وتكمن قيمة خطاب "الاعتدال" هذا في وظيفته السياسية، وليس في قيم التغيير التي يحملها (وفي الحقيقة التي لا يحملها)، والوظيفة السياسية لخطاب "الاعتدال" هو سحب احتكار خطاب "المرأة" من القوى المنادية بتغيير حقيقي لمكانة المرأة، وإعطاء الحق لأصحاب هذا الخطاب بالتدخل في تعريف حقوق المرأة، وتعريف الشرعي واللا شرعي في نضال المرأة، بالتالي تتحول تلك القوى "المعتدلة" –داخل الأحزاب- إلى الخصم الأخطر في مسيرة تحرر المرأة، كونها تنصب نفسها حاجزا للمرأة من داخل القوى الساعية للتغيير – الأحزاب- وليس من خارجها.

خطاب "الاعتدال" لا يعكس عدالة اجتماعية حقيقية، فالقوى التي تحمله لا تؤمن في صميم داخلها بحقوق المرأة أو بكفاءاتها، ولا ترى أصلا أن المرأة مهضومة الحقوقـ ولا ترى أصلا كفاءاتها، لكنه يعكس رغبة حامليه في البحث عن "هدنة" مستمرة مع المرأة ومع قوى التغيير الحقيقي، ورغبتهم في تجنب مواقع المواجهة. وهم يقومون باستغلال حالة "الهدنة" هذه، لوعظ النساء حول معنى "حرية المرأة"، وحول "الحدود"، وحول الشرعي واللاشرعي، وحول استحقاقات "احترام المجتمع"، وحول "درجة جاهزية" المرأة لبعض المواقع، وحول صفات "المرأة المثالية" في السياسة، نقلا مباشرا عن موديل "الزوجة المثالية" أو " الأم المثالية". ويتفقون مع "الأهداف" لكنهم يناقشون "النموذج"، ويتفقون مع النضال لكنهم يختلفون عينيا مع "النساء" اللواتي يحملن هذا النضال، ويدعمون نظريا ترشح نساء لمواقع قيادية لكنهم يحاربون عمليا من تقوم بالترشح، أو يطلبون منها الانسحاب، ويتجنبون الخوض في ادعاءات سياسية وينزحون لشخصنة الادعاءات، علها "تصيب" أكثر وسط مجتمع ما زال يتشدد في محاسبة المرأة فيما يتعلق بحيزها الخاص، مع أنهم يعاملونه كحيز خاص بهم أكثر مما هو حيز خاص بها. المهم أنهم ينجحون في توثيق أواصر العداء بين النظرية وبين التطبيق، وهدر منجزات كل تقدم حصل في هذا المجال داخل أحزابهم.

يذكرنا نحن النساء هذا، باليسار الإسرائيلي، الذي يبحث عن "تطبيع" معنا، ولا يبحث عن الحق، والذي يتفق معنا في العموميات، لكنه يختلف معنا في الرواية، ويتفق معنا في ضرورة النضال لكنه يختلف معنا في "شكل" النضال، ويتفق معنا في ضرورة حمل هذا النضال لكنه يختلف معنا في حامليه "القيادات العربية"، و"متطرفيه" و . . . و . . . و . . . نحن النساء كشعبنا، نفضل اليمين الواضح على اليسار المنافق.

لكننا أيضا والحزبيات منا تحديدا، ربما لا نجتهد كثيرا في مساعدة أحزابنا في بناء نموذج للمرأة القيادية، لأننا نفتقد للطموح وللدوافع القوية لأن نصل شخصيا لمواقع قيادية. المواقع القيادية ضمن البيئة الحزبية القائمة هي مواقع غير مغرية بتاتا للمرأة، فهي تحمل كّمًًا من المواجهات ُۥيعفى الرجل منها سلفا. والموقع القيادي يحتاج لدافع ولرغبة ليس بأقل مما يحتاج لكفاءات ولقدرات، وما زال عدم قبولنا بالثقافة المرافقة لهذه المواقع أقوى من الدافع لدينا في تسلمها. هنالك في مكان ما في أنفسنا –واسمحوا لي أن أتكلم باسم النساء- رفض بل ونفور عام من سياسات المزاحمة والغرور، ولا نعتبر المزاحمات قوة، ولا نعتبر الغرور مقدرة. وفي القوانين الداخلية لأحزابنا السياسية الكثير من المزاحمات والقليل من السياسة، الكثير من الخبث والقليل من الحنكة، الكثير من النزق والقليل من الغضب. ونحن نرفض الانصياع لتلك القوانين، ليس لأننا نفتقد للجرأة، أو للاستعداد لدفع الثمن، بل لأننا لا نشكل كقياديات قوة اجتماعية داخل أحزابنا لنفعل ذلك، فنحن إما امرأة واحدة أو ثلاثة أو أربعة في أفضل الأحوال. وهذه القلة العددية هي التي منعت من ترجمة الوجود النوعي للنساء داخل الأحزاب إلى تغيير نوعي.

بجانب قلتنا العددية، لم تقم القوى "الديمقراطية" داخل أحزابنا بدعم الأجندة الحزبية- النسوية بشكل جدي وذلك لتغليبها حسابات "سياسية" –داخل مزدوجين- وبراغماتية –دون مزدوجين- على أجندة وقيم اجتماعية. ولم تحاسب المرأة حتى الآن على هذا التخاذل بشكل جدي، اعتقادا منها بأنه " ما حك جلدك مثل ظفرك" وأن نضال المرأة تحمله المرأة فقط، أو المرأة بالأساس، لكن غاب عنا عمليا –ولو أدركناه نظريا- أن الجلد ليس جلدنا فقط عندما يتعلق الأمر بثقافة المؤسسة الحزبية بكاملها. بالتالي علينا من الآن فصاعدا، نحن الحزبيات أن نلقي بثقلنا الجدي فيما يتعلق بمطالبتنا أن يتحمل الرجل الذي يشاركنا هذه القيم، مسؤوليته على هذا الصعيد، وعلينا أن ندرك أن تقصير الرجل في دوره في نشر أجندة اجتماعية تقدمية، وفي العمل وفقها لا يقل خطورة عن عداء الآخرين لتلك الأجندة.

ضمن هذه الصورة، وضمن تشابك "الحدود" داخل الأحزاب نفسها، وضمن ازدواجية دور الأحزاب من حيث هي مؤسسة تطور إلى جانب فكرها السياسي – الاجتماعي مجموعة مصالح قد تتضارب مع فكرها نفسه، نرى فكر ومطالب المنظمات النسوية باقيا على حاله، محافظا على تقسيمات أولية بين تقدمي- وغير تقدمي، أحزاب- مجتمع، حركات تغيير – حركات رجعية . . . إلخ، غافلا عن الحاجة لتطوير خطاب ومطالب قادرين على استيعاب التمايزات الداخلية غير الدقيقة والدقيقة داخل قوى التغيير نفسها –والأحزاب على رأسها- والخروج من خانة المتهم (بكسر الهاء) للأحزاب إلى خانة الداعم لقوى التغيير داخل الأحزاب.

من جانب آخر تقوم الجمعيات النسوية "بالمشاركة" في الجو العام للجمعيات فيما يتعلق بتطوير أيديولوجية "الحياد"، والتي يقف وراءها القرار بالابتعاد عن السياسة وعن اتخاذ مواقف سياسية وطنية واضحة وجريئة. ولا أقصد بالقضايا السياسية هنا القضايا الوطنية العريضة، كحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، أو الموقف من الحرب على العراق، أو الموقف من السياسات العنصرية الإسرائيلية، بل أقصد بالقضايا السياسية تلك "الداخلية"، والقريبة من الجدل الحزبي، ويصعب التفكير في قضايا سياسية لا تنخرط فيها الأحزاب ببلورة موقف أو بالتصدي لها. ويعود ذالك الحياد لسببين: فبعضها "يخاف" من أن توظف تلك المواقف الوطنية في صالح حزب معين، وهو لا يريد هذا، إما لأنه يرى أن ذلك يضر "بحزبه"، أو لأنه لا يميز بين الوضوح السياسي وبين المحاباة السياسية، وبعضها الآخر كون ورعى نفورا عاما تجاه الأحزاب، نفورا لم يتأثر حتى في الحالات التي كنا فيها بصدد قضايا ومواقف وطنية صرفة تتعلق بمستقبل المجتمع العربي. أدى ذلك إلى أن تلعب هذه الجمعيات – من حيث تدري أو لا تدري- بمهمة سياسية "خطيرة" تكمن في "التغطية" على الفروقات السياسية بين الأحزاب حتى عندما تتعلق القضية بحقوق ومكانة النساء، حيث تقوم بنزع المواقف السياسية عن المواقف والقضايا النسوية المباشرة. فمثلا نحن لا يمكننا أن نقوم بالحديث عن تمثيل النساء في لجنة المتابعة دون أن نعطي موقفا واضحا فيما يتعلق بتركيبة لجنة المتابعة ليس فقط من زاوية "رجوليتها"، بل أيضا من زاوية ضعف الوزن السياسي فيها على حساب الوزن الطائفي والعائلي ممثلا برؤساء المجالس المحلية، الذين يقلل معيار انتخابهم العائلي والطائفي من احتمال انتخاب امرأة في هذا المنصب. ونحن لا نستطيع حث الأحزاب على زيادة تمثيل النساء في لجنة المتابعة دون أن نوضح التمايز القائم بين الأحزاب في مسألة إعادة تنظيم لجنة المتابعة خصوصا وأن ذلك يرتبط بشكل وثيق باحتمال زيادة التمثيل النسائي هناك.

قرار الجمعيات النسوية "بالابتعاد عن الشأن السياسي الداخلي" جعلها قليلة احتمالات التأثير، بالتالي لم تستطع الحالة الاستثنائية من الجرأة الاجتماعية التي مثلتها تلك الجمعيات بالتحول لبوصلة اجتماعية ومأخوذة بجدية على الأقل.
التغيير الاستراتيجي المطلوب الآن من الجمعيات النسوية هو ليس فقط التعامل بجدية مع القضايا السياسية الوطنية الداخلية -ولو "على حساب" تضامن صريح مؤقت مع الأحزاب أو مع بعض الأحزاب العربية- بل الدعوة لعدم إمكانية وعدم وجوب فك الارتباط بين السياسي – والسياسي الداخلي والقريب- والنسوي، هذا فقط ما من شأنه رفع مكانة الجمعيات النسوية إلى جمعيات مؤثرة ومأخوذة بعين الاعتبار من قبل المجتمع ومؤسساته المختلفة وعلى رأسها الأحزاب.

في النهاية بقي أن نشدد على أن نجاح الجمعيات النسوية وضع نفسها في مصاف قوى التغيير الاجتماعي وفرض نفسها على الأحزاب كبوصلة اجتماعية لها مصداقيتها، يحتم عليها الاعتراف بمكانة الأحزاب كساحة تغيير اجتماعي حاسمة، وتطوير خطاب قادر على فرز التمايزات داخل الأحزاب، وتطوير حس وأمانة سياسية تمكنها من اتخاذ مواقف صريحة إزاء "السياسة القريبة"، كالموقف من إعادة بناء لجنة المتابعة كمشروع متكامل، والموقف من مطاردة السلطات الإسرائيلية لقياداتنا السياسية الوطنية، والموقف من "يهودية الدولة"، ومن "الخدمة المدنية"، وغيرها من التحديات الراهنة التي تلقي بظلالها على كل زاوية من زوايا الحيز العام. الأمر الذي لا يمكن إلا إذا قامت تلك الجمعيات بالتمييز القاطع والمثابر ما بين الوضوح السياسي والوطني وما بين المحاباة الحزبية.

** أي تشابه بين شخصيات قد يوحي بها النص وشخصيات موجودة في الواقع هو تشابه مقصود، وأبدا غير عرضي..

________________________
• المقال نشر في نشرة "السوار" رقم35 انظر الرابط http://assiwar.org/UserFiles/File/newsletters/newslleter_35.pdf

التعليقات