31/10/2010 - 11:02

ساركوزي وأزمة إصلاح البنيان الأوروبي../ عصام حداد*

ساركوزي وأزمة إصلاح البنيان الأوروبي../ عصام حداد*
لا يبخل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في تكرار نياته بصدد إصلاح السياسة الفرنسية، ويضيف إليها اليوم ـ وقد عصفت «اللا» الإيرلندية في وجهه عشية اعتلائه رئاسة الاتحاد الأوروبي ـ تصميمه على أن يذكر له التاريخ دوره في إصلاح البنيان الأوروبي الموحد!

في هذه الرغبة شاركته أغلبية الكتل النيابية الأوروبية، بعد انتهائه من خطابه الذي استغرق ثلاث ساعات. إلا أن السؤال بقي مطروحاً وبحدّة لدى بعضها (الكتل) حول أية إصلاحات وجب الأخذ بها ولخدمة مصالح من في أوروبا الموحدة؟ وهو الأمر الذي سيواجهه أيضاً في دبلن، جيث تشاركه في الموقف حكومتها برئاسة بريان كوين. إلا أنه من جهة ثانية سيواجه مطالب المعارضة الإيرلندية، وخاصة الاجتماعية والسياسية، والتي تعبر عن مطالب أوروبية مشتركة.

في عام 2005، رفض الفرنسيون والهولنديون في استفتاءين شعبيّين مشروع «دستور الاتحاد الأوروبي». وبعد مفاوضات عسيرة استغرقت عامين تقدمت المستشارة أنجيلا ميركل، بنص اتفاق جديد إلى مؤتمر القمة الأوروبي المنعقد في لشبونة في نهاية عام 2007، وقّع على الاتفاق كل رؤساء حكومات الدول الأعضاء، بعد تجاوز المعارضة الشديدة له من بريطانيا وبولونيا.

وعُرف الاتفاق «بمعاهدة لشبونة». ووصفها النقاد والخبراء الأوروبيون «بالدستور المخفف «Light» لكونها تضمنت جوهر السياسة الاقتصادية والاجتماعية التي نص عليها مشروع الدستور السابق.

وفي لشبونة، تسابقت حكومات الاتحاد الأوروبي على الاكتفاء بمصادقة برلمانات البلدان الأعضاء على المعاهدة، تجنباً لتكرار تجربة رفض الدستور، على الرغم مما تضمنته «معاهدة لشبونة» من تأكيد على أهمية إجراء الاستفتاءات الشعبية كآلية للتعبير عن الديموقراطية المباشرة.

وبقيت خارج العملية حكومة إيرلندا، لا لكونها أكثر ديموقراطية، أو ديموقراطية بامتياز، بل لأنها ملزمة بإخضاع اتفاقيات كهذه للاستفتاء الشعبي، عملاً بحكم صادر عن المحكمة الدستورية لإيرلندا، في الثمانينيات من القرن الماضي بعدما تقدم مواطن إيرلندي يدعى راي غروتي إلى المحكمة العليا بدعوى على الحكومة، طالباً إجبارها على إخضاع أية اتفاقية أو قانون أوروبي تريد تقديمه أو عرضه على البرلمان للاستفتاء الشعبي.

وبعد موافقة المحكمة العليا على هذا الطلب للمواطن غروتي، بات قيداً على حركة الحكومات الإيرلندية في الساحة الأوروبية. وتجلى هذا الأمر في 2001 حين رفضت «اتفاقية نيس» الأوروبية في تصويت شعبي إيرلندي (50,4% ضدّ الاتفاقية) لكونها تمس سيادة البلاد وحيادها في الصراعات العسكرية والسياسة الدفاعية.

وفي 12 حزيران 2008 صوّت مجدداً 53,3% من الإيرلنديين (يمثلون 45% من مجموع الناخبين الثلاثة ملايين) ضد اتفاقية لشبونة، وحالوا بذلك دون الأخذ بها دستوراً جديداً للاتحاد الأوروبي بدءاً من 1/1/2009، فالقانون المعتمد حتى الآن، يفترض الإجماع على كل اتفاقية، أي موافقة الأعضاء الـ27 دون استثناء.

ومن المؤكد أنه لو قُدّر لمعاهدة لشبونة أن تخضع فقط لمصادقة البرلمان الإيرلندي عليها كما في بقية بلدان الاتحاد، لنالت موافقة الأغلبية الساحقة من البرلمانيين، كما حصل في اليونان قبل يوم واحد عشية الاستفتاء الشعبي في إيرلندا، ولاقتصرت المعارضة الوحيدة للمعاهدة في البرلمان على حزب اليسار «شين فين» (نحن ذاتنا) الذي نشأ وترعرع في أحشاء «الجيش الجمهوري الإيرلندي»، في حرب التحرير من الاستعمار البريطاني.

إن أحزاب الائتلاف الحاكم في إيرلندا (محافظين، ليبراليين وخضر)، كما أحزاب المعارضة المحافظ منها كما الديموقراطي ـ الاجتماعي، عملت جميعها ومعها منظمات ومؤسسات الطبقات العليا والوسطى الميسورة في المجتمع كما وسائل الإعلام المتماهية معها من أجل إنجاح الاستفتاء على المعاهدة والتصويت لمصلحتها.

بالمقابل، يؤكد الكثيرون من المتخصصين في الشؤون الأوروبية أنه لو أخضعت «معاهدة لشبونة» للاستفتاء الشعبي في كل بلدان الاتحاد (الـ27) لتعرضت للرفض بالتأكيد في فرنسا وهولندا وبولندا والدنمارك والسويد، كما بريطانيا وألمانيا الاتحادية. ومن هنا يصحّ التنويه إلى أن أزمة المصادقة على المعاهدة الجديدة ليست مشكلة محصورة في إيرلندا، بل هي في العمق أزمة إعادة تصويب بنيان الاتحاد الأوروبي كمؤسسات وآليات عمل.

وأحد التعبيرات عن هذه الأزمة أيضاً ما يشير له المراقبون من تراجع مضطرد في الحماسة للوحدة الأوروبية بين أبناء الشعوب الأوروبية: ففيما شارك في أول انتخاب مباشر للبرلمان الأوروبي (1979) 63% من الناخبين، فإنّ متوسط الأرقام من مختلف بلدان الاتحاد آنذاك، لم يذهب إلى صناديق الاقتراع في عام 2004 (أكثر من 45% من المواطنين في ألمانيا الاتحادية و40% في فرنسا).

وعلى الرغم من ضبابية موقف الكنيسة صاحبة النفوذ القوي في إيرلندا، إلا أن الكثيرين من المواطنين المحافظين نظروا بريبة وعداء إلى احتمال فرض قوانين أوروبية لمصلحة حق الإجهاض والزواج المثلي ـ كذلك فإن استبعاد ممثل دائم لإيرلندا في المفوضية الأوروبية (بناءً على معاهدة لشبونة) قد أثار حفيظة جماهير واسعة محافظة ويمينية تتميز بالتعصب القومي حيال أي حكم من الخارج (بروكسل البعيدة)، صقل تعصبها النضال الدامي المديد ضد الحكم البريطاني المحتل منذ القرون الوسطى حتى الاستقلال في عام 1922.

واستُفِزَّت أوساط واسعة من رجال الأعمال والمتمولين المستفيدين من تدنّي مستوى الضريبة على الشركات (20% أعلى مستوى)، من احتمال رفعه ليتساوى وأمثاله في بلدان الاتحاد الأخرى. وهذا ما يفسر دور رجل الأعمال المليونير الإيرلندي ديكلن غانلي في تمويل المبادرة «Libertas» التي وحّدت جميع هذه التجمعات المحافظة واليمينية والقومية، والتي تنتخب تقليدياً الأحزاب المحافظة التي وقفت إلى جانب المعاهدة. وقادت المبادرة الحركة المعارضة للمعاهدة في الشارع وفي كل المستويات إلى جانب قوى اليسار، وفي مقدّمها «حزب شين فين» المعادي بشدة لعسكرة سياسة الاتحاد الأوروبي ولنتائج السياسة النيوليبرالية الاقتصادية الاجتماعية السائدة فيه بكل عواقبها الوخيمة على حياة العمال والشرائح الدنيا من المزارعين والطبقات الوسطى، والتي تنوء بمجملها تحت تراجع الخدمات والضمانات الاجتماعية وتدهورها، وبخاصة على حساب العاطلين عن العمل والمتقاعدين.

ومهما حاولت وسائل الإعلام المحلية والأوروبية المتماهية مع الطبقات الحاكمة في أوروبا والتي تفرض التوجه النيوليبرالي على الاتحاد، مهما حاولت تجاهل أو التقليل من دور اليسار الإيرلندي في تصدر الحركة المعارضة لمعاهدة لشبونة، فإن نتائج الاستفتاء الشعبي في مواقع قوة الحزب، في المدن الكبرى تبرهن على دوره الحاسم في رفض المعاهدة بمضمونها الراهن: ففي الدائرة العمالية الانتخابية «دبلن/ الجنوب الغربي» صوّت 65% من الناخبين ضد المعاهدة، وكذلك كان الشأن في مدن غالوي وكورك، وكذلك «ليمريك، وهي مدن تعدّ من قلاع حزب «شين فين».
وعلّق رئيس الحزب «جيري أدامز على هذه النتائج بقوله «إن المواطنين صوّتوا لمصلحة أوروبا، تحترم فيها حقوق العمال وتسودها العدالة الاجتماعية». ووجه نداءه إلى المجتمع المدني والنقابات والفلاحين من أجل ممارسة المزيد من الضغط على الحاكمين لاحترام حقوقهم والكفّ عن تجاوزها.

ورأى الحزب الممثل في البرلمان بنسبة 7%، أن إعادة طر ح الدستور الأوروبي في حلّته الجديدة المخففة، بعد رفضه في عام 2005، تعبير عن الاستهزاء بالمواطنين في أوروبا. وفي هذا الاتجاه أكد الحزب الاشتراكي الإيرلندي، بأن «اللا» سوف تعزز موقفنا وتجبر أوروبا على إعادة النظر في توجيهاتها».

لم يطالب أيّ من الأحزاب المعارضة للمعاهدة بانسحاب إيرلندا من الاتحاد، ولم يتنكّر أحد، لا سابقاً ولا الآن، لما قدمته أوروبا إلى إيرلندا منذ انضمامها إلى السوق المشتركة عام 1973 من مساعدات (55 مليار دولار بناءً على مصادر المفوضية الأوروبية) نقلت إيرلندا من «بيت الفقراء الأوروبي» إلى واحد من البلدان الغنية في أوروبا.

إنّ ما تعترض عليه قوى اليسار في إيرلندا لا يختلف عمّا يناضل ضده في بقية بلدان الاتحاد الأوروبي، التي فرضت عليها «اتفاقية ماسترخت» عام 1993: «معاهدة الوحدة الاقتصادية والنقدية واعتماد اليورو عملة واحدة للاتحاد». ففي ظل هذه السياسة النيوليبرالية أعيدت هيكلة الاقتصاد في إيرلندا (كما في بقية بلدان الاتحاد الأوروبي) بما في ذلك ما سمي «إصلاحات في الهيكلية لسوق العمل»، هذه الخطوات عززت التوجهات نحو:

ــ تجميد الأجور الفعلية، ونشوء سوق مواز للعمالة الرخيصة. وترتب على ذلك تعزيز اتجاه توزيع الثروة المنتجة لمصلحة الطبقات العليا في المجتمع، وبالتالي ازدياد غنى الأغنياء من ناحية، وفقر الفقراء من ناحية ثانية.
ــ تحجيم وتقزيم دولة الضمانات الاجتماعية، وبخاصة على حساب المتقاعدين والضمانات الصحية والعاطلين عن العمل بشكل مزمن.
ــ إعادة هيكلة النظام الضرائبي، باتجاه التخفيف من أعبائه على المتمولين الكبار في جميع بلدان الاتحاد الأوروبي.

عاشت إيرلندا الحديثة وما زالت تحت وطأة كل هذه الانعكاسات السلبية التي ترافق مظاهر «ازدهار الاقتصاد الحديث». فهذه الصورة المثالية لسياسة الدعم الأوروبي لاقتصاد إيرلندا (كمثال) تتضمن أيضاً كل السلبيات الناتجة من سياسات الضغط على الأجور، وعلى الضمانات والخدمات الاجتماعية والضرائب وما نوّهنا عنه سابقاً: 20% من الضرائب كأعلى حد على الشركات...

وليس من باب الصدفة ولا الشعور القومي أو التعصب الديني أن تصطف الجماهير العمالية خاصة ضد هذه السياسة النيوليبرالية التي رسمتها اتفاقيات الاتحاد الأوروبي منذ عام 1993 (ماسترخت).

أما عن حظوظ ساركوزي، فيثير الرئيس الفرنسي بسيل التصريحات الصادرة عنه الكثير من الامتعاض والمعارضة الشديدة من المضي في سياسة توسيع بناء قوة التدخل السريع الأوروبية، وبغض النظر عن مصير معاهدة لشبونة، الأمر الذي فسر باتجاه مدى ارتباطه ببيوتات الإنتاج العسكري الفرنسية والأوروبية.

كما أثار تصريحه بضرورة أن تصوّت إيرلندا مجدداً على معاهدة لشبونة حفيظة وزير خارجية إيرلندا مايكل مارتن الذي رد عليه قائلاً: «عليه أن يستمع عندما يحضر إلى دبلن».

من جهتها، فإن عضو البرلمان الأوروبي من كتلة اليسار الإيرلندي السيدة ماري لو مكدونالد التي تصدرت حملة معارضة الاتفاقية في بلادها، ناشدت الحكومة الإيرلندية الدخول في مفاوضات لتحسين شروط إيرلندا لجهة ضمان استمرار حيادها ورفض عسكرة السياسة الخارجية، و«المشاركة في حروب السادة الغرباء...».

لا يتوقع المراقبون أن يتمكن ساركوزي من الاستدارة 180 درجة على الصعيد الأوروبي، وهو رجل النيوليبرالية على الصعيد الفرنسي. كذلك فإنهم لا يرون مخرجاً للأزمة الأوروبية على المدى القريب، فيما حزب اليسار الأوروبي يدعو قبل عام من الانتخابات التشريعية للبرلمان الأوروبي 2009، إلى فتح حوار اجتماعي وسياسي على المستوى الأوروبي حيال الأزمة الأوروبية، وتحديد أية أوروبا تريد شعوبها. وهو لا يرى مخرجاً آخر من الأزمة الراهنة للاتحاد الأوروبي. ويرى في سنة الانتخابات المقبلة مناسبة جيدة للدعوة لذلك ولفتح باب هذا الحوار لينتهي بتحديد اتفاقية جديدة «تجدد مؤسسات الاتحاد، وترسم بدقة صلاحياتها وآليات اتخاذ القرار فيها، على أن لا يؤدي ذلك إلى تدخلها في رسم السياسة وتحديدها، الأمر الذي يجب أن يبقى مناطاً فقط بالمؤسسات التشريعية الوطنية والأوروبية المنتخبة، على عكس ما يجري اليوم منذ اتفاقية ماسترخت عام 1993.

ويؤكد اليسار على ضرورة انتهاج سياسة في المالية وفي تحديد الفائدة (دور البنك المركزي الأوروبي) بما يعزز النمو الاقتصادي ويكافح البطالة، وفي تنظيم سياسة الحد الأدنى للأجور على المستوى الأوروبي بما يمنع منافسات تحطم وحدة الاتحاد واندماج شعوبه.

ويستخلص ممثّلو اليسار أنّ استمرار السياسة النيوليبرالية سوف يؤدي إلى تحطيم سياسة الاندماج ويبعث التعصب القومي وسياسات الحماية الاقتصادية من جديد. ولا يمكن كسب المزيد من تأييد المواطنين لفكرة الوحدة الأوروبية وتوفير قاعدة متينة لتحقيق الاندماج في أوروبا إلا من خلال بناء دولة أوروبا الديموقراطية والضمانات الاجتماعية.

ولن تستمر أوروبا الموحدة إلا إذا كانت ديموقراطية واجتماعية. وكرر ذلك رئيس الكتلة الاشتراكية في البرلمان الأوروبي، مارتن شولتس إذ ناشد ساركوزي، في ختام كلمته أمام البرلمان الأوروبي، أن يتقدم بمقترحات واضحة من أجل «أوروبا الضمانات الاجتماعية» وذكّره بأنه دون ذلك سوف يدير المزيد من المواطنين ظهورهم للاتحاد الأوروبي، وعندها لن تفيد أية اتفاقية لإصلاح البنيان الأوروبي.
"الأخبار"

التعليقات