31/10/2010 - 11:02

ساركوزي والعرب../ طلال سلمان

ساركوزي والعرب../ طلال سلمان
ليس انقلاباً تماماً هذا الذي تمّ عبر الانتخابات الرئاسية فأوصل نيكولا ساركوزي إلى السدة، ولكنها عودة بفرنسا إلى صورتها بالحجم الطبيعي: أي بلا طموحات الجنرال ديغول الذي كان يريدها واحدة من القوى العظمى لا مجرد حليف متواضع للولايات المتحدة الأميركية التي كانت الحرب العالمية الثانية قد وفرت لها الفرصة لأن تضع يدها على أوروبا (الغربية آنذاك) ومن ضمنها فرنسا.

لقد طوى فوز ساركوزي صورة فرنسا ذات الدور الكوني (المستقل) وأعادها إلى واقعها، خصوصاً بعدما انتقل شريكها الألماني الغربي (أيام الألمانيتين) إلى منافس جديد قوي وغني وطامح بكثير من الجدارة إلى تصدّر أوروبا، وانتزاع موقف الحليف أو الشريك الأوروبي للإمبراطور الأميركي.

ولقد كانت متوقعة هزيمة «اليسار» الذي لم يعد «يساراً» تماماً، فضلاً عن تشققه تيارات متنافسة ومتعارضة، وافتقاده إلى برنامج «ثوري» يقدمه كبديل مؤهل لقيادة فرنسا إلى دور دولي له هامش استقلالي عن السياسة الأميركية.

كذلك كان متوقعاً أن تخرج من قصر الإليزيه ما كانت تُسمى «السياسة العربية لفرنسا جاك شيراك»... بل هي قد انتهت عملياً، قبل أن يغادر منصبه السامي، ليس فقط لتراجع مكانته أو دور فرنسا الدولي، بل قبل ذلك لأن «العرب» لم يعودوا «كتلة» أو «مجموعة» بل تفرّق شملهم، وإن استمرت المنافسة في ما بينهم من يصل إلى «قلب» الإدارة الأميركية ويحظى بعطفها أو مساندتها أو تبنيها قبل الآخرين، بل وعلى حساب الآخرين.

وهكذا فإن ساركوزي لم يكن مضطراً إلى مجاملة العرب، أو حتى إلى مداراة «مشاعرهم» وهو يباشر حملته في الخارج بزيارة النصب التذكاري لمحرقة اليهود في القدس المحتلة، ويباهي بصداقته نتنياهو، في حين تمتدحه المنظمات اليهودية في العالم وتمنحه الجوائز، وتكتب عنه «يديعوت أحرونوت»: «إن الجذور اليهودية للرئيس الفرنسي الكاثوليكي أنعشت آمالاً كبيرة في إسرائيل»! أما «معاريف» فقد وصفت نجاح ساركوزي بـ«الثورة التي سمحت لصديق واضح لإسرائيل بالوصول إلى الإليزيه للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة».

.. و«الجمهورية الخامسة»، لمن لا يتذكّر، هي تلك التي أنشأها الجنرال ديغول حين «قطع» مع الدور الاستعماري لفرنسا (وكانت قد باتت عاجزة عن لعبه) وكان بين عناوينه الاعتراف باستقلال الجزائر التي كانت ثورة المليون شهيد فيها قد بلغت عامها العاشر، وكذلك الموافقة على استقلال أي من المستعمرات الفرنسية التي يجهر شعبها بالطموح إليه عبر استفتاء حرّ.

بين الأوصاف التي أطلقتها الصحف والقوى السياسية على ساركوزي: أنه الأكثر يمينية منذ خمسين سنة، وأنه جنح إلى اليمين طوعاً وعمداً، سعياً لاجتذاب أصوات من اليمين المتطرف.

أما شهرته فقد بلغت الذروة من خلال عمليات القمع الجماعي «للمهاجرين» الذين يعيشون في أحياء الفقر في ضواحي باريس، وسائر المدن، وهي التي دمغت صورته بالدم قبل عامين إلا قليلاً... وربما لهذا يسود التخوّف من «عنصرية» ما يمارسها هذا المتحدر من أصول مجرية من جهة الأب، ومن أصول يهودية من جهة الأم والذي يسلك مسلك المزايد في فرنسيته للتغطية على أصوله.

بهذا المعنى فإن ساركوزي بالرئاسة يعلن تغييراً في مزاج الرأي العام، إذ يبدو واضحاً جنوحه إلى اليمين، وتعاظم النزعة المحافظة في المجتمع الفرنسي ورغبة هذا المجتمع في سلطة أقوى بحيث يمكن «محو الإرث» الذي خلّفته الثورة الطلابية التي أدت إلى خلع بطل فرنسا القومي الجنرال شارل ديغول ..1968
ولسوف تنتهي مع خروج جاك شيراك من سدة الرئاسة «سياسات» كانت معتمدة، وكانت تحفظ لفرنسا شيئاً من الرصيد الخاص، برغم تراجع دورها الدولي..

ولقد شهد العالم، عموماً، والعرب خصوصاً، تمايزاً واضحاً بين الطابع الشخصي لشيراك، الذي وفر له صداقات مؤثرة بينهم، وبين السياسة الفرنسية المعتمدة ـ بالاضطرار أكثر مما بالرغبة ـ كما يدل تذبذب المواقف عموماً وأبرزها الموقف من الاحتلال الأميركي للعراق، والذي كلف وزير الخارجية آنذاك دومينيك دي فيلبان منصبه «فرفسه» شيراك إلى الأعلى بأن جعله رئيساً للحكومة، وهكذا قضى على طموحه بأن يكون «خليفته».

ربما يستشعر بعض العرب شيئاً من الخسارة بخروج شيراك من الإليزيه، لكن السياسة الفرنسية لم تتغيّر بالأمس، أي عند التصويت، بل هي تغيّرت قبل ذلك بزمن، وجاءت الانتخابات لتؤكد دخول فرنسا طوراً جديداً سيجعلها أكثر أميركية وأقل تأثيراً في القرار الدولي، كما سيجعلها أقرب إلى إسرائيل وأبعد عن العرب.

أما العرب الذين تفرّقوا أيدي سبأ فلن يختلف الأمر عليهم، لأنهم أضاعوا مع قضيتهم وزنهم، وهانوا على أنفسهم، فكيف يطالبون أو يتوقعون من الآخرين أن يحترموهم بأكثر ممّا يظهرون من الاحترام لأنفسهم؟!

"السفير"

التعليقات