31/10/2010 - 11:02

سليمان التركي وملتقى اسطنبول../ فيصل جلول

سليمان التركي وملتقى اسطنبول../ فيصل جلول
سليمان التركي في جنسيته والكردي في أصوله يدير مقهى للنارجيلة في حي “الشيخ زادة باشا” في الشطر الأوروبي من اسطنبول. كنا ضيوفه ذات مساء وكان علينا أن نستمع منه إلى خطبة غاضبة على أوضاع العرب والمسلمين عموما. لم يستثنِ أحداً من غضبه وبالكاد اعتبر المقاومة اللبنانية علامة فارقة. قال سليمان اننا نملك النفط وإن عددنا يفوق 300 مليون نسمة، في حين أن عدد سكان الكيان الصهيوني لا يتعدى الخمسة ملايين نسمة، ومع ذلك هم يضربوننا بالطائرات ونحن نضربهم بالحجارة.

وحمل سليمان على المسلمين بقوله ان بلادهم لا تسيطر على التكنولوجيا وليست مصنعة، وإنهم يستهلكون إلى حد التخمة بخلاف تعاليم رسولهم، وتضربهم الخلافات الحادة فلا يتفقون على أشياء كثيرة. وقد توصلنا بترجمة لأقواله بدقة عبر نائب سابق في البرلمان الألماني من أصل حلبي يجيد اللغة التركية انضم إلى جلساتنا في مقهى النارجيلة وكان من بين المشاركين في اجتماعات “الملتقى الدولي حول القدس” الذي التأم في اسطنبول الاسبوع الماضي. تبقى الاشارة إلى أن سليمان شاب في مطلع الثلاثينات من عمره يتمتع بعقل مرتب وبثقافة يستمدها في أغلب الظن من وسائل الاعلام السمعية البصرية ومن احتكاكه بزبائن من جنسيات مختلفة.

ينطلق سليمان في حديثه عن العرب من غضب المحبين وليس من غضب الحاقدين، وهو يجمل في حديثه القاسي الأتراك والإيرانيين أيضاً بل سائر المسلمين من دون اثر للعنصرية في نفسه وانما احتجاجا على واقع عربي وإسلامي لا يسر صديقا ولا يرهب عدواً.

والحق أن “سليمان” يعبّر في أقواله عن استنتاجات عفوية لا يكف الرأي العام في بلداننا عن تردادها تلميحا أو تصريحا وكان متوقعاً من “ملتقى القدس الدولي” أن يقول عنها وفيها ما ينبغي، وما لاينبغي سوى أنه كالعديد من الملتقيات المشابهة اعتمد لغة الوصف واقترح التنديد والادانة والاستنكار والتعبير عن فعل الايمان بالقضية الفلسطينية وهو محق في ذلك من دون أن يبحث في كيفية إعداد خارطة طريق مناسبة للانتقال من الوصف إلى تغيير الواقع الموصوف.

أقول كان متوقعاً من لقاء اسطنبول أن يقول شيئاً مختلفاً عن غيره من اللقاءات لأن عدداً من المشاركين في “الملتقى” لم يترددوا في مقارنته بمؤتمر “بال” اليهودي الذي نظمه تيودور هرتزل في تلك المدينة السويسرية أواخر القرن التاسع عشر بعد أن فجع ب “لاسامية” الفرنسيين خلال مشاركته كصحافي في تغطية جلسات محاكمة الضابط اليهودي الفريد درايفوس الشهيرة في باريس. ومعروف أنه من ذلك المؤتمر خرج مشروع الدولة الصهيونية. وكان هرتزل يرى أن حال اليهود السيئة في أوروبا قد وصفت أكثر مما ينبغي وأنه لا بد من “وطن قومي” ينقذهم من “لاسامية” الأوروبيين ومن ورشة تعمل على نقل هذا المشروع من الورق إلى أرض الواقع.

ولعل بعض أوجه الشبه بين مؤتمر “بال” و”مؤتمر اسطنبول” تغري بالمقارنة، فقد جاء إلى عاصمة الخلافة الاسلامية ممثلون عن قطاعات واسعة من الرأي العام العربي والمسلم تنسبهم أوراق الملتقى إلى أكثر من ستين بلداً، وكان الحضور متنوعين بين معبّر عن الدول والحكومات من جهة ومعبّر عن تيارات المعارضة من جهة أخرى. بين علمانيين وحداثيين من جهة وإسلاميين راديكاليين من جهة أخرى. بين مؤيدين لخيار المقاومة ومناهضين لهذا الخيار. بين ممثلين للاجيال الشابة ومناضلين ومفكرين ومسؤولين سابقين بلغوا من العمر عتيا. بين فلسطينيين من الداخل وفلسطينيين من الشتات، بين مسيحيين ومسلمين من ضمنهم مفتي القدس وأبرز كهنتها الاب عطاالله حنا... إلخ.

وكما في مؤتمر “بال” الذي انحصرت مداولاته في كيفية حل مشكلة اليهود في اوروبا، كان المشاركون في “ملتقى القدس” يبحثون في القضية الفلسطينية التي تكونت بسبب المؤتمر اليهودي المذكور وكانت مواضيع البحث المتنوعة والشاملة تتركز على مدينة “القدس” جوهرة القضية الفلسطينية وعلة نضال العرب والمسلمين.

تبقى الاشارة إلى انعقاد الملتقى في الجزء الأوروبي من اسطنبول عاصمة آخر الخلفاء المسلمين الاتراك الذي جاء اليه هرتزل ذات يوم بعد مؤتمر “بال” عارضا أموالا لشراء “الوطن القومي” اليهودي في فلسطين، فقال لوزيره الاول، بلغ هذا السيد انني لا استطيع بيع فلسطين لليهود لأنني لا املك هذا الحق وإن فعلت فإنني أكون كمن يعمل المبضع في جسده. قل له إن ضياع فلسطين سيكون سببا في تفكيك الخلافة الاسلامية، وإن تفككت فسيتم مشروع السيد هرتزل مجاناً وسيوفر أمواله.

واليوم يحكم تركيا حزب العدالة والتنمية “الاسلامي” الذي يوصف بالاعتدال، وكان ممثلا في “الملتقى الدولي حول القدس” ناهيك عن حضور ممثل شخصي عن رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان جلسة الافتتاح، وكل ذلك يغري بأكثر من مقارنة تاريخية بين ظروف ضياع القدس والظروف التي يسعى العرب والمسلمون لتجميعها من أجل استعادة تلك المدينة التي يجمع على أهمية استعادتها أكثر من مليار عربي، تكاد القدس كما القرآن أن تكون موضوع الاجماع الوحيد بينهم.

في اسطنبول شاع خطاب مدجج بالحنين والشعارات وأحيانا الاغاني والهتافات الماضية، وقيل إن ملامح هذا الخطاب تجمعت بفعل ضغوط متعددة داخلية وخارجية، وإنه لولا تلك الضغوط لكان خطابا تاريخيا يليق بالمناسبة وقيل أيضا إن الخلافات بين الحاضرين كانت حول اللغة الواجب اعتمادها في بلد أطلسي، لكن في اسطنبول حالة ناهضة يقول العارفون بالتاريخ التركي إنها غير مسبوقة لجهة العودة إلى التقاليد الاسلامية، ولعل هذه العودة تفسر جزئيا على الاقل استضافة ملتقى دولي من هذا النوع ولهذا الغرض وذلك منذ تأسيس دولة كمال اتاتورك العلمانية.

في المحصلة يمكن النظر إلى “ملتقى القدس الدولي” باتجاهين، الأول الذي اخفق في الرد على غضب المحبين ومنهم صاحب مقهى النارجيلة الوارد ذكره آنفا، وبالتالي كان قاصراً عن صياغة خطاب تاريخي تقتضيه ظروف اللقاء وموضوعه وحجم ونوع المشاركين فيه فضلا عن مكان انعقاده.

وفي الاتجاه الثاني يمكن القول إن ولادة الخطاب التاريخي لا تكون قيصرية على الدوام وإنه لا بد من تراكم ما يقود إلى الهدف، ما يعني ان انعقاد الملتقى في اسطنبول هو بحد ذاته خطوة غير مسبوقة سيكون لها ما قبل وما بعد.
"الخليج"

التعليقات