31/10/2010 - 11:02

سهول الشاي في الهند تتمرد../ جميل مطر

سهول الشاي في الهند تتمرد../ جميل مطر
عيون العالم على الهند والصين. بعض هذه العيون معجب والبعض حاسد والبعض الثالث متوجس. وللحق لا أعرف بأي عيون يرى معظم العرب ما يحدث في الصين والهند، وللحق أيضاً أخشى أن تكون أغلبية نخبة العرب غير مبالية إلا في اتجاه الغرب ولم يدرك أصحابها بعد أن في الشرق أمماً تنهض، وإن أدركوا اعتبروا الأمر لا يخصهم وغضوا الطرف عنه.

في الهند نهضة لا شك فيها، استعد لها قادة الهند من سياسيين وأكاديميين وإعلاميين منذ سنوات غير قليلة. عبأوا ما استطاعوا أن يعبئوا من كفاءات ومهارات. أرسلوا البعثات والهجرات “الموجهة” بالكفاءة نفسها التي استخدموها في “توجيه” الاقتصاد خلال سنوات النشأة والبناء. والتزموا الحفاظ على الديمقراطية باعتبارها الإطار الأمثل بالنسبة لظروف الهند لتحقيق “التنمية مع الوحدة الوطنية”.

لم تكن قضية الوحدة الوطنية غائبة عن وعي التاج البريطاني على امتداد قرون الاستعمار أو عن وعيه ووعي قادة حزب المؤتمر الذين حققوا الاستقلال وأقاموا دولة الهند. فالأمة الهندية أمة متعددة الأديان والطوائف واللغات والمذاهب والطبقات. وهي ليست أمة فريدة في هذا الشأن ولكنها متميزة في “حدية” تعددياتها، بمعنى أن الحدود الفاصلة بين الأديان وبين الطوائف وبين اللغات وبين المذاهب وبين الطبقات حادة وحاسمة، بحيث يصعب التداخل أو التشارك أو التكامل بينها. لا انتقال سهلاً بين دين ودين، أو بين مذهب ومذهب. أو وهو الأشد وضوحاً، بين طبقة وطبقة، وغالباً ما يكون التقديس أو التدين المبرر لتقييد ظروف التداخل. لذلك أراهم على حق هؤلاء الذين يقولون إن التعايش بين الهنود ما كان يستمر لو لم يكن إطار الحكم ديمقراطياً.

ومع ذلك فقد واجه الحل الديمقراطي منذ اليوم الأول مشكلات هائلة ولم يكن دائماً فالحاً إزاءها. لم يفلح عندما انقسم القادة السياسيون من المسلمين والهندوس على شكل الدولة المستقلة فوقعت المذابح وتبادل شمال الهند ووسطها الهجرات وقامت دولتان، ثم انقسمت الدولة الإسلامية إلى دولتين، باكستان وبنغلاديش وكان لابد أن ينفصلا فاللغة غير اللغة والمذهب غير المذهب حتى اختلاف العرق لعب دوراً، وإن كان أقل كثيراً من الدور الذي لعبته الجغرافيا.

ومازال يوجد في باكستان من يكتب بجسارة متهماً الآباء المؤسسين لباكستان بأنهم أغفلوا عوامل اللغة والعرق والتاريخ التي ربطت البنغاليين في شرق البنغال بالبنغاليين في غرب البنغال، أغفلوها معتقدين أن الحماسة للوحدة الدينية تكفي وحدها لإقامة دولة من عناصر متناقضة في كل شيء آخر غير الدين.

ولم تكن الهند المستقلة بمنأى عن المشكلات الانفصالية. فإلى جانب المشكلة الأشهر، أي مشكلة كشمير، حصلت كل من بوتان وسيكيم على نوع من الحكم الذاتي ولكن ضمن إطار لا يحقق لأي منهما استقلالاً كاملاً بسبب موقعهما الاستراتيجي مثل كل المواقع المتاخمة للتبت والصين أو القريبة منها. وفي مناطق أخرى مازال الثوار الماويون يشنون حروب عصابات ضد قوات الحكومة المركزية الهندية التي فشلت في قمع الحركة الماوية خاصة وأن هذه الحركة نجحت في ربط المشاعر القومية والعرقية بالأيديولوجية الماركسية.

وقبل أيام قليلة تردد أن شعب الجوركا استأنف ثورته التي بدأها في عقد الثمانينات مطالباً بظروف معيشية أحسن ثم تطورت مطالبه لتضم في النهاية مطلب الاستقلال الذاتي عن ولاية غرب البنغال وأن تكون تبعيته مباشرة لدلهي، أي للحكومة الاتحادية. أعرف أن العالم الخارجي لم يهتم كثيراً بحركات انفصالية أو متمردة في الهند بعكس اهتمامه بحركة نمور التاميل في سيلان، أو بثورة شعب كشمير. فالأولى تجري على ممرات مائية مهمة وقريبة من خليج النفط، والثانية تجري بدعم من دولة إسلامية كبيرة وقريبة من الموقع المرشح لحسم معارك صدام الحضارات التي أشعلتها إدارة الرئيس بوش وجماعة اليمين المتطرف في أمريكا وغيرها من جماعات في دول أوروبا الغربية.

بالمقارنة لم تحظ حركة الجوركا الانفصالية باهتمام الغرب، وأظن أن اهتماماً أوفر سيأتي من جانب من بقي حياً من القادة السياسيين والعسكريين الذين اشتركوا في حكم الهند قبل الاستقلال ومن كبار السن في كافة الدول التي خضعت لاحتلال إنجليزي، ومن جانب من قام بزيارة الإقليم من السياح، وأكثر الاهتمام سيأتي من “عشاق شرب الشاي”، وبخاصة في إنجلترا.

كبار السن من أبناء الشعوب التي تعرضت للاستعمار البريطاني أو مرت بأراضيها جيوش الامبراطورية لا شك يذكرون هؤلاء الجنود السمر طوال القامة بأكتاف عريضة وشوارب سوداء كثيفة وعيون واسعة وصرامة في تعابير الوجه، هؤلاء الجنود اعتمدت عليهم الامبراطورية البريطانية في حفظ الأمن في مستعمراتها كافة منذ عام ،1815 وكانت كلمة “الجوركا” كافية أحياناً لتثير الرهبة في نفوس المحرضين على الثورة ضد الاستعمار البريطاني. قد لا يعرف عن الجوركا كبار السن في بلاد الشام، فهؤلاء أحضر لهم الفرنسيون جنوداً سود البشرة وطوال القامة كذلك ولكن من السنغال واشتهروا كمعظم جنود فرنسا في ذلك الحين بالوحشية والقسوة. أحفاد هؤلاء “الجوركا” هم الذين يطالبون الآن بدولية “جوركا لاند”.

يعرف بلاد الجوركا، أو يسمع عنها، أو يتوق لمشاهدتها، عشاق شرب الشاي، فقد اشتهرت تلال “دار جيلينج” Darjeeling بمصاطب زراعة أجود أنواع الشاي في العالم. فالطقس في هذه التلال غائم وبارد نسبياً والأمطار جيدة ولكن ليست كالموسمية في عنفوانها أو كرمها. وإلى هناك في دار جيلينج كانت حكومة التاج البريطاني تنتقل في الصيف وتقيم فيها العاصمة ومنها تحكم غرباً حتى العراق والخليج وشرقاً حتى بورما ومنها تسيطر شمالاً حتى أقاليم الصين.

وعلى السفوح في هذه التلال مازال عشرات الألوف من السياح يأتون ليشربوا الشاي في فنادق أقيمت وسط المزارع، على نمط الفنادق التي أقيمت في قلب مزارع الكروم في تشيلي وكاليفورنيا وإيطاليا. في هذه المزارع، يقضي السائح إجازته مستمتعاً بجولات أو حفلات يتذوق خلالها أنواعاً شتى من الشاي. ولمن لا يعرف الكثير عن الشاي سيعجب حين يقضي إجازة بين أهالي الجوركا ويعود إلى بلده ولم يتذوق كافة أنواع الشاي الذين ينتجونه.

في الهند نهضة، ولكل نهضة توابعها، فالنهضة تزيد توقعات الشعوب وترشدها إلى الطرق المؤدية إلى حقوقها وترفع الغبن “التاريخي” عنها. ومثل هذه المشكلات كافية لشد عود قادة النهضة والتقدم وكافية أيضاً لإعادة بعث الشعوب.
"الخليج"

التعليقات