31/10/2010 - 11:02

شرق أوسط جديد.. أم أمة عربية جديدة؟!!/ عبداللطيف مهنا

شرق أوسط جديد.. أم أمة عربية جديدة؟!!/ عبداللطيف مهنا
هل وضعت الحرب العدوانية الأمريكية الإسرائيلية على لبنان أوزارها؟!
هذا سؤال، إذا ما بسّطنا الأمور، لايبدو أن له علاقة بواقع الحالة الراهن في الجنوب اللبناني، وعليه قد يبدو غرائبياً بعض الشيء... المدافع توقفت عن إطلاق حممها، والدبابات أخذت في الانسحاب منكفئة من حيث أتت، وتوالت عملية تسليم المواقع التي احتلت، أو تلك الأمتار التي تمت السيطرة عليها في التلال اللبنانية المحاذية للحدود مع فلسطين المحتلة، إلى قوات الطوارىء الدولية، تلك التي تسلمها بدورها إلى الجيش اللبناني المنتشر جنوباً... الطائرات أوقفت غاراتها التدميرية التي كانت توزعها خلال ما زاد عن الشهر في سائر الخارطة اللبنانية. والبوارج الحربية ابتعدت قليلاً عن السواحل، وصواريخ المقاومة لم تعد منطلقة جنوباً باتجاه المستعمرات الإسرائيلية.

... الجميع يتحدث عن تنفيذ القرار الأممي 1701، ومجلس الأمن لازال منشغلاً، هو و الأمين العام للأمم المتحدة، ومعهما دول ما يسمى "المجتمع الدولي" في المناشدات و الضغوطات لتوفير القوات الدولية المراد لها أن تردف الموجود أو "اليونيفيل". واللغط لازال يدور حول مهامها الردعية، أو تتلاطم التفسيرات المختلفة المتعلقة بهذه المهام المراد لها أن تبقى غامضة، تلك التي اتفق على أنها لا تخضع لما يعرف بالبند السابع مع ما يوحي باحتفاظها بروحه، والتنويه على أنها ليست بالهجومية...

لكن إذا ما اتفقنا على أن الحرب لا تشن عادة إلا بغية تحقيق بعض من استهدافات دفعت مشعلها لأن يطلق شرارتها، فهو إن حققها انتصر وإن عجز عن ذلك خسر... و إذا مااتفقنا أيضاً، على أن الهدف الأمريكي لإسرائيلي من وراء هذه الحرب هو أولاً وآخيراً كان رأس المقاومة اللبنانية، المتمثلة في حزب الله، وهو الهدف الذي انجلى غبار المعارك دون أن يتحقق، فبإمكاننا القول أن من شنّوها قد خسروها... ولن نشغل أنفسنا هنا بما تطلقه حكومة أولمرت أو جنرالات الحرب الإسرائيلين من مزاعم، أو ما قاله لنا الرئيس بوش مخالفاً فيه هذه البديهية... إذن، وإذا كان مقياس النصر هو التمكن من تحقيق أهداف الحرب، وبالتالي فإن عدمه يعني الهزيمة، فيمكننا القول، والحالة هذه، أن المقاومة قد انتصرت...
لعل هذا ما اتفق عليه العرب والعالم، وبعض الأمريكان وكثير من الإسرائيلين، وأطراف عديدة من ما يدعى "المجتمع الدولي" !!!

والمقياس هنا هو ذات المقياس، أفشلت المقاومة... بصمودها، بجهوزيتها الفذة، بأدائها الفريد وبطولاتها الأسطورية، بتضحيات الجنوبيين الغالية، بإباء ممانعتهم، وإرادتهم العصية على الانكسار... تحقيق الاستهدافات العدوانية للحرب.

وعليه، إذا كان في هذا الفشل هزيمة مؤكدة لأصحاب هذه الاستهدافات البينة فإنه إنما يعني تلقائياً نصراً للمقاومة... وحيث لايستحسن المبالغة في توصيف الحالين: هذا الانتصار المؤزر لمقاومة استبسلت أو تلك الهزيمة المؤكدة لمعتد يضطر لأن يخرج من الجنوب اللبناني متعجلاً دون أن يلتفت خلفه، علينا أن لانغفل عن حقيقة تتعلق بطبيعة إسرائيل، وهي أنها التي لاتتحمل مجرد فكرة هزيمتها، حيث أن أقل تراجع لها في ساحات الصراع يطرح من فوره عليها مسألة مصيرها ووجودها قيد التسآؤل... هناك قول لبن غوريون خاطب فيه الإسرائيليين، مفاده: قد تنتصرون على العرب خمسين مرة، ولكن يكفي لأن ينتصروا عليكم مرة واحدة لتكون فيها نهاية لكم... كما أن علينا أيضاً أن لا نقلل من كون أن هذه الحرب، وهي الأمريكية أساساً، الإسرائيلية الأداة كما يتفق على ذلك الكثيرون، قد جاءت ضمن سياق استراتيجي أمريكي أكبر، يتعلق بهموم الامبراطورية الكونية في هذه البقعة من العالم تحديداً، نظراً لأهميتها ومفصليتها في سياق استراتيجيتها الكونية الأوسع، أو لعلاقتها على وجه الخصوص بشرق كونداليسا رايس الجديد... بالتعثر في العراق وأفغانستان... بالحرب على المقاومات و الممانعات العربية والإسلامية المتعاظمة لهذا الجموح الامبراطوري الاستباقي وتجلياته التركيعية ... بمشاريع السيطرة والهيمنة على مقدرات الأمة العربية وإخضاعها مع جوارها الإسلامي... إذا ما وضعنا ماسبق في اعتبارنا، نجد أنفسنا نتفق مع زعيم المعارضة اليمينية الإسرائيلية رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، الذي يشحذ سكاكينه هذه الأيام للإجهاز على خصمه اللدود أولمرت وحكومته، القائل بأنها، أي الحرب، لاتعدو أكثر من محطة، أو جولة سوف تتبعها جولات... نعم ليس من السهل أن يسلم أمريكان البيت الأبيض و إسرائيلهم بالهزيمة... قالت ليفني، وزيرة الخارجية الإسرائيلية تصف واقع حال وكلامها موجه بالدرجة الأولى للإسرائيليين، وفي ما قالته أيضاً بعض من تبرير لهزيمة:

" انهاء القتال لايعني وقف العملية" ، وأنه "ليس بوسع أية عملية عسكرية، مهما طالت، أن تقود إلى نتائج". وحيث كانت النتائج التي أسفرت عنها هذه العملية هي بعكس ما اشتهته سفن العدوان، أردفت ليفني: " لقد كان ضرورياً الإنتقال إلى الفصل السياسي" . وهو الانتقال الذي رسا، كما هو معروف، على القرار الأممي 1701 ، الذي كان منه أن انهى القتال ولم يوقف "العملية" وفق تعبير ليفني...!

إذن الحرب توقفت ولم تتوقف ... علقت... لاسيما وأن سيد هذه الحرب أو متعهدها الرئيس بوش، ما انفك يرى في أداتها إسرائيل، ورغم فشلها هذه المرة، بأنها "تقف على ثغر من ثغور الإرهاب"!
... ومع ذلك، ووقفة تأملية أمام ما أسفرت عنه هذه الحرب، أو مقارنة بين اليوم الذي سبقها واليوم التالي لوقوفها، تدفعنا إلى التوقف أمام أهم استخلاصين من دروسها الغنية بالاستخلاصات العديدة، يفضيان بدورهما إلى ثالث، وهما على التوالي:

الأول، ولنبدأ اسرائيلياً: تراجعت أكذوبة الكيان القادر المقتدر، بانتهاء أسطورة جيشه المدجج الذي لايقهر، وقد قهر هذه المرة، أو أقله، عجز عن قهر خصمه، رغم اللاتكافؤ الهائل المعروف في ميزان القوة بينهما. الأمر الذي كشف فيما كشف، عن هشاشة لا مثيل لها، ولايتوفر مثلها لسواه، خصوصاً إذا ما لاحظنا أن مسألة وجوده برمته سرعان ما تطرح عند أقل فشل يواجهه دوراً ووظيفةً، أو إذا ما تم مجرد تهديد حقيقي لواحد من تلك الأبعاد الثلاثة المعروفة التي يرتكز إليها أو يقوم عليها، أي الدور والوظيفة والبعد الأيديولوجي أو التوراتي، وثالثهما الأمني... وحيث تراجعت الأكذوبة وانتهت الأسطورة وتكشفت الهشاشة، انعكست تداعيات ذلك أو تكاد على مستقبل الدور والوظيفة فطرحت للتو مايشي باحتمالات أنه لم يعد بذات القيمة لمن يمد إسرائيل عادةً بأسباب استمراريتها... وهنا مكمن سبب أساس من أسباب الخطر الرئيس على مستقبلها... ربما لهذا كان في بداية الحرب أن اعتبر داهية من مخضرميها مثل العجوز شمعون بيرز أنها كانت مسألة حياة أو موت... نحن لانبالغ هنا ولا نتوهم، لكن بعض الغرب ومنه بعض الأمريكان بدأ يناقش هذا الدور المتراجع وتلك الوظيفة المتصدعة حتى قبل انجلاء دخان المعارك... لم تقو إسرائيل هذه المرة على تلبية رغبة أمريكية. عجزت عن إهداء بوش رأس حزب الله، وعليه فالامبراطور الإستباقي وحاشيته من المحافظين الجدد ليسوا بالراضين قطعاً عن أداء الثكنة المتقدمة المغروسة في صرة العالم أو البقعة الاستراتيجية وفيرة الفيء المطلوب الهيمنة عليها... هذا لايعني بحال مجرد التفكير في التفريط بالكنز الاستراتيجي التلمودي للغرب أو للولايات المتحدة الأمريكية في هذه البقعة التي يسيل لها اللعاب من العالم، لا في السنتين المتبقيتين من عمر الادارة البوشية ولا في حقب ما قد يرثها من إدارة تليها ادارات، وإنما لا أحد في الغرب يسره اليوم أو يمكنه أن يتجاهل مؤشر مظاهر سرعة تفكك إجماع الحرب في إسرائيل المصدومة بنتيجة حربها الفاشلة، والتي تغطي ارتباكها وخيبتها بزعيق التهديدات وتشكيل لجان الفحص أو التحقيق في الأداء العسكري والسياسي في نتائجها الأكثر كياً للوعي الإسرائيلي، وبمزيد من اللجوء إلى حماتها الدائمين في "المجتمع الدولي"، أقله لإعتماد تفسيرات تلائمها للقرار 1701 ... تفكك حزب "كديما" الموشك، والذهاب بأولمرت وبيرتس ومعهم سطوة الجنرال المتنفذ حالوتس... حال إسرائيل المرعوبة، التي لم تعد كما كانت قبل شهر ونيف، لمجرد خسارة استهدافات حرب طلبت منها، لاسيما وأنها، كما عودتهم، تظل القلقة وجودياً أبداً، حيث لا تطمئنها المعاهدات مع عرب التسوية جنوباً وشرقاً بحراسها وضامنيها الأطلسيين، ولا القرارات الدولية الغامضة بمراقبيها الأمميين شمالاً، ولا الأسوار العازلة المرتفعة الزاحفة داخلاً...

الإسرائيليون اليوم يناقشون قبل سواهم مثل هذه الاستخلاصات وحولها يدور بينهم جدل حامي الوطيس لدرجة أن يصف أحدهم حال الحلبة السياسية الراهنة هناك بأن "كل واحد فيها استل سكيناً من دون أن يعرف لمن توجيه الطعنات أولا ً"... لماذا؟

لقد انتهت، كما قلنا في مقال سابق، ومنذ ستة أعوام خلت، وفي الجنوب اللبناني، القدرة الإسرائيلية على التوسع أو الإحتفاظ بما يتم احتلاله إثر هذا التوسع، واليوم وفي ذات المكان، وعلى يد ذات المقاومة، انتهت حكاية الانتصارات السريعة الخاطفة وذهبت معها ميزة المفاجئة، فتهلهلت مقولة التفوق العسكري واختلال موازين القوة الهائل لصالح دولة مدللة جرى في حكم العرف أن من يواجهها يواجه دولة عظمى، ويستحق غضبة ذات "المجتمع الدولي" وتوصم مواجهته لها بالإرهاب... والآن وقد ضرب البعد الأمني أحد الركائز الأساس التي يستند عليها كيانها، وهي الركائز التي سبق وأن أشرنا إليها، وذلك بعد أن وصلت صواريخ المقاومة إلى الخضيرة على مشارف تل أبيب، وحيث تلازم الفشل الميداني بالاستخباراتي، من الطبيعي بل لزاماً أن يغدو الدور والوظيفة المعتمدين لها مسألة هي قيد التسآؤل في الغرب أو لدى متعهد استمرارية أسباب وجودها ذاته... وإذاً، وإذ تراجع الدور والوظيفة وإهتز البعد الأمني، هل من مبالغة في أن نطرح على أنفسنا ويطرحون على أنفسهم السؤال التالي:
ماذا بقي لهم في مثل هذه الحالة سوى البعد الأسطوري الخرافي الذي لايقبضه أو يصدقه حتى كثير من الإسرائيلين أنفسهم؟!

...عربياً: أولاً، وقبل كل شيء، إن لهذه الحرب أثراً معنوياً هائلاً على الشارع العربي سيصل مداه في اتساعه ليس من العراق إلى دارفور وما بينهما فلسطين وإنما سيعم قطعاً من حيث التداعيات على مجمل الخارطة العربية من أقصاها إلى أدناها... أثر قد يكون له يد طولى في تحول نوعي مرتجى في وعي أمة... أمة أعطيها انتصاراً صغيراً فحسب لتكشف لك عن أصالة جوهرها الحقيقي الذي تخفيه وطئة الانكسارات المتراكمة...

وثانياُ، انتصرت فكرة المقاومة وانتعشت ثقافتها، ابتعدت رياح سموم الفتنة المذهبية التي أطلت برأسها ابتداءً من العراق قبيل هذه الحرب وسعى حينها الساعون لتعميمها، وبدأ يتكرس مفهوم أن المواجهة وحدها هي خيار أمة حاولوا إقناعها ذات يوم بالاستسلام، و اتضح أن قوة أعدائها كانت لا تساوي إلا مدى عجزها..!

الأمين العام للجامعة العربية أخبرنا بأن التسوية قد سقطت، وبدأنا نسمع بعودة جملة من المصطلحات التي كانت قد ركنت جانباً، أو التي صورت على أنها في حكم البائدة، وكان من يرددها في العقدين الأخيرين يتهم بالعدمية، مثل:

مقولة أن الصراع في بلادنا تناحري لا يحسم إلا بنفي أحد طرفيه، حيث أصبحنا نسمعها تتردد مضموناً بتعابير شعبية مختلفة، وحتى نخبوياً، ومن على شاشات التلفزة. وان القول باستحالة التعايش مع هكذا عدو كلام لم يعد حكراً على نخب نادرة، وإنما غدا نفساً شعبياً تسمعه يتردد داخل صدر أمة غاضبة من فاس حتى البصرة. كما أن الاعتقاد بأن مجرد وجود إسرائيل الغاصبة هو أصلاً نقيض للسلام، نظراً لطبيعتها العدوانية الاستعمارية الاحلالية العنصرية ودورها ووظيفتها في خدمة المشاريع المعادية لأمتنا، أصبح حالة شعبية شائعة باتت في حكم المسألة التي يجري التعبير عنها يومياً من على شاشات الفضائيات. بل لعل شرائح مثقفة من ذات الطبيعة الانتهازية، والتي لطالما طبلت وزمرت للتسوية سابقاً، تحاول الآن جهدها التكيّف مع هذه الأجواء الشعبية الجائحة، منقلبة كعادتها على تنظيراتها السابقة، أو تتلمس سبلاً ملتوية من التحايل للانفلات منها... الحالة اللبنانية المقاومة المفاجئة للجميع طرحت أسئلة عجلت فيما سبق، مثل:

ماذا يعني أن مليون نازح دمرت بيوتهم وتقطعت بهم السبل، وفقدوا أرواحاً عزيزة، وليس فقط الغالي والرخيص، لاتبدر من واحد منهم مجرد كلمة عتب أو نبرة شكوى من ما تسبب به أو جرته عليهم مقاومة مقاوميهم، بل بالعكس باغتوا الجميع بهتافهم بحياة المقاومة؟!

ماذا يعني إدراك العدو قبل الصديق، وقبل أن يدرك ذلك سدنة القرار 1701 في نيويورك، و حتى بعض من جماعة مايسمى "الرابع عشر من آذار"، الذين منهم من يطالب بما عجز عن تحقيقه العدوان، أو منهم من يطالب بمصادرة نصر لم يكن يريده أو لم يشارك في تحقيقه أو دفع ثمنه... إدراك هؤلاء أن الجنوب اللبناني، أو قل جنوبي الليطاني منه، إنما يخلو من المقاومة فقط في حالة واحدة هي فروغه من الجنوبيين.

نحن هنا لا نقلل من خطورة الأصوات الناعقة التي بدأت ترتفع مطالبة بمحاسبة المقاومة حتى قبل أن تصمت المدافع وينقشع الدخان وتجف الدماء الزكية المسفوحة... لكن، إذا كان الصحفيون العرب والأجانب، وطيلة فترة الحرب، قد جهدوا ليلتقوا بمقاوم واحد يلتقطون له صورة فلم يعثروا طيلة ثلاثة وثلاثين يوماً على ضالتهم، فكيف لهذا "المجتمع الدولي" أن يتمكن من أن يحظر وجود هذا المقاوم على تخوم الوطن الذي دافع عنه واستشهد من أجله أن وضعت هذه الحرب، كما يقولون، أوزارها؟!

نعم الحرب توقفت لكنها لم تضع أوزارها، لعلنا إزاء بوادر فصل جديد من الصراع من شأنه أن يكون الأشد ضراوة وقسوة وتداعيات... الأمة العربية التي نحسب أنها تشهد هذه الأيام تحولاً نوعياً في وعيها بتأثير من تداعيات فرادة هذه الملحمة اللبنانية المقاومة، هي حقاً ستجد نفسها أمام مفترق مصيري واضح: شرق أوسط جديد أم أمة عربية جديدة ؟!!


التعليقات