31/10/2010 - 11:02

شـفيق الحـوت: بيـت لبـنان وفلسـطيـن معـاً / طلال سلمان

-

شـفيق الحـوت: بيـت لبـنان وفلسـطيـن معـاً / طلال سلمان

من زمان لم يجتمع لبنان وفلسطين في رجل يفاخر كل من البلدين بأنه ابنه كما اجتمعا في حياة شفيق الحوت وفي سيرة نضاله ثم في الحزن على رحيله، أمس، الأحد، كمناضل عربي وكداعية للتحرير بالمقاومة والوعي والتقدم والوحدة.

فشفيق الحوت، نسباً، هو البيروتي المولود في يافا، وهو، هويةً، الفلسطيني الذي يجمع في زخمه الثوري القاهرة ودمشق والجزائر والرباط والخرطوم وصنعاء والرياض والكويت وعمان بوصفها شرفة القدس الشريف.

وشفيق الحوت، مهنةً، هو الداعية المقاتل بالأفكار تتدفق شلالاً من الحماسة كما من نقد الانحراف، كتابة في الصحافة أو خطابة على المنابر، أو تحريضاً في الكواليس لتصحيح النهج في المؤتمرات أو داخل المجلس الوطني الفلسطيني: يواجه ولا يطعن من الخلف، يجاهر بنقد الخطأ في القيادة حتى لو كلفه الإبعاد، فإذا ما استشعر حاجة إليه من أجل التصحيح عاد إلى الصفوف من دون أن يعتذر، فحاول إكمال ما كان بدأه وحيداً.

ولأنه «اللبناني في فلسطين» فلطالما حذر «الثورة» من تحميل «النظام» في لبنان فوق ما يطيق، لأن بقدرته عندها أن يجعلها تغرق في مستنقع الطوائف والمذاهب والأعراق... ولطالما نبّه «الثوار» إلى أن لبنان يستطيع أن يعطيهم الكثير إذا هم أحبوه ولم يتوغلوا في تفاصيله، وأنه يمكنه أن يحاربهم فيهزمهم إذا زيّنت لهم البندقية أو أغواهم التعاطف فحاولوا أن يتخذوه بديلاً من فلسطين، وأنهم حينئذ سيخسرون لبنان وفلسطين معاً.

بيته بيت فلسطين في بيروت، وفي الشارع الموقوف على اسم بعض أجداده، ففيه الدكتوره بيان نويهض، بعض ذرية اللبناني في فلسطين والعربي في كل ديار العروبة عجاج نويهض، وبعض مكتبته التي تكاد تكون دائرة معارف أما قلمه المنذور لقضية العروبة فكان بشارة بالثورة من قبل أن تتفجر في أرض فلسطين ومن حولها، على الطريق إليها
.
وفي هذا البيت ستتعرّف النخبة في لبنان إلى بعض النخبة من أبناء فلسطين ومنهم الشعراء معين بسيسو وكمال ناصر ثم العظيم محمود درويش، ومن البحاثة والدارسين هشام شرابي وإدوار سعيد ومن المبدعين رسماً إسماعيل شموط ورفيقة دربه وريشته تمام كحيل.. وغيرهم كثير.

وفي هذا البيت سيتعرف أحمد الشقيري والدكتور جورج حبش ثم ياسر عرفات وصلاح خلف وخليل الوزير إلى القيادات السياسية والعسكرية والأمنية في السلطة اللبنانية.

بل إن شفيق الحوت «اللبناني» قد استعان بفلسطينيته لنجدة أهل محاولة التغيير في لبنان... فحين وصل اللواء فؤاد شهاب إلى سدة الحكم كانت الإذاعة اللبنانية مجرد غرفة في «ملجأ» في السرايا الحكومية، لا يكاد يسمع صوتها خارج بيروت بل بعضها. ولقد اقترح شفيق الحوت وزكى اقتراحه تقي الدين الصلح ومنح الصلح، فوافق الرئيس فؤاد شهاب على الاستعانة بمجموعة من الكفاءات الفلسطينية المميزة ممن كانوا في محطة «الشرق الأدنى» وتركوا العمل فيها تعبيراً عن الاحتجاج على العدوان الثلاثي على مصر (وشاركت فيه، لمن نسي، بريطانيا وفرنسا مع إسرائيل). وهكذا جاء شفيق الحوت ومعه نبيل خوري إلى الإذاعة وفي موكب عسكري بكل من صبحي أبو لغد وعبد المجيد أبو لبن وغانم الدجاني وناهدة فضلي الدجاني والمخرج الممتاز صبري الشريف فاصطنعوا من «الملجأ» إذاعة مسموعة، وأغنوها بالبرامج، خصوصاً وقد انضم إليهم بعض فناني لبنان الذين كانوا يعملون معهم ومنهم محمد شامل ومحمد مرعي وغيرهما... ثم درّب هؤلاء العديد ممن صاروا في ما بعد نجوماً، كما أنعشوا الحركة المسرحية في لبنان، وبالتحديد مهرجانات بعلبك (وديعة ومروان جرار، وصبري الشريف)، وهم قدموا للأخوين رحباني ومعهم السيدة فيروز ووديع الصافي خبرات لا تقدّر بثمن، وأسهموا مع نصري شمس الدين وفيلمون وهبي في إحياء الفولكلور اللبناني الذي لا يختلف كثيراً عن الفولكلور الفلسطيني والسوري، ولكنه كان مطموساً أو متروكاً لبعض المحاولات الفردية المتعثرة.

[ [ [

ولقد أسعدني حظي بأن عرفت شفيق الحوت في بداية رحلتي إلى العالم الرحب لهذه المهنة الممتعة بعذاباتها: الصحافة... ولقد تتلمذت عليه، تحت رعاية العلامة الذي عرفنا إلى كل البلاد بثوابتها وأساسياتها منح الصلح.
وما من شك أن هذا الثنائي شفيق الحوت ـ منح الصلح ومعهم نبيل خوري قد أسهموا مع سليم اللوزي في صنع مجد مجلة «الحوادث» التي كنت مع وجيه رضوان ورسام الكاريكاتور الذي اعتزل مبكراً نيازي جلول من متخرجيها الأوائل.

في «الحوادث» وعبرها انفتحت أمام شفيق الحوت الطريق إلى لقاءات ومحاورات مع الرئيس جمال عبد الناصر ورفاقه في قيادة الثورة في مصر... وهكذا كان بين الأوائل ممن عملوا لمنظمة التحرير الفلسطينية فور قيامها برئاسة أحمد الشقيري، وهي المنظمة التي ستنبثق عنها مجموعة من المؤسسات الحافظة للقضية.

أما المحاورات الفكرية التي أثارها فكانت أكثر من أن تحصى. وكان مع كلوفيس مقصود وسمير صنبر والأساتذة من آل صايغ يوسف وأنيس وفايز بين من أعطوا القضية المستوى الفكري الذي تستحق.

وعبر النهوض الفلسطيني اندفع شفيق الحوت مع رفاق له إلى تهيئة مناخ العمل السري لبعض الجبهات التي قررت اعتماد الكفاح المسلح طريقاً. فلما وصلت قيادة فتح إلى الإمساك بمنظمة التحرير، وأزاحت أحمد الشقيري، بعد هزيمة 1967، عن موقع الرئاسة، انكفأ شفيق الحوت مؤقتاً... ثم قبل بأن يتولى منصب مدير مكتب منظمة التحرير في بيروت، تاركاً المسؤولية لمن أراد أن يحتكرها في شخصه، من دون أن يمنعه موقفه الاعتراضي من المساهمة بالرأي في المحطات الفاصلة، وبينها تلك التي تولى فيها مع محمود درويش ووليد الخالدي إعادة صياغة خطاب ياسر عرفات أمام الأمم المتحدة 1974، وكانت تلك اندفاعة عظيمة لقضية فلسطين لاحتلال مركز الاهتمام دولياً.

[ [ [

شهيد فلسطين هو، وشهيد لبنان. إنه في طليعة شهداء زمن الخيبة التي صارت ردة، والذي صارت فيه القضية المقدسة للعرب جميعاً، وللمسلمين، ولمعظم شعوب العالم، مجرد خلاف عقاري مع الاحتلال الإسرائيلي.
شفيق الحوت الأول كان أقوى من السرطان.

لكن شفيق الحوت في زمان ينكر الأهل أرضهم وتنكرهم، وتنتهي فيه «الثورة» إلى سلطة تقوم بوظيفة شرطة الاحتلال، ويوضع فيه الإسلام مقابل الوطنية، وتنفى فيه العروبة باعتبارها عورة في الماضي وعائقاً في الحاضر، وعلامة تخلف عن المستقبل، كان يسعى إلى الموت بقدميه حتى لا يقتله أهل الردة في أجيالنا الآتية.
وسيبقى شفيق الحوت علامة مضيئة ترشدنا إلى طريقنا إلى غدنا.


"السفير"

التعليقات