31/10/2010 - 11:02

صفورية وما بعدها / إياد برغوثي

صفورية وما بعدها / إياد برغوثي
علينا، بعد أن نتمنى الشفاء العاجل للجرحى ونضمن إطلاق سراح المعتقلين، أن نعود إلى "مسيرة العودة إلى صفورية" والتي سعت الشرطة إلى تحطيم صورتها في وعينا، كحدث وطني وحضاري أعلنا فيه بقوة ومن جديد إرادتنا الجمعية في البقاء على أرض الآباء والأجداد وإصرارنا على التمسك بمشروع العودة وتشبثنا بذاكرتنا الوطنية، كي نبطل غاية العدوان الوقح على الشبان والشابات والأطفال والنساء والشيوخ والصحفيين والقيادات السياسية، والذي يؤكّد ببساطة مقولتنا بأن "النكبة" مأساة إنسانية مستمرة وليست ذكرى تاريخية.

أرادوا لدخّان الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية أن تغطي صور المسيرة الوطنية والتظاهرة السياسية التي رفعت من معنوياتنا عاليًا حتى السماء، وأنّ تذكّرنا، ولن تنفع في هذه الحالة الذكرى، بأن عصا القمع جاهزة لتحطيمها. أرادوا ألا نعود في السنة القادمة لبلدة أو قرية أخرى مهجّرة، وهم لا يعلمون أننا سنكون أضعافًا مضاعفة وبأن ذاكرتنا أقوى مما يتخيلون.

لا أستغرب العدوان، ولست متفاجئًا منه بالمرة، فحشود القوات الخاصة لم تكن تتنزه منذ الصباح في أحراش صفورية وسهولها ولم يكن "شي اللحوم" فعالية تلقائية وعفوية، ولا أتوقع أن تزغرد المؤسسة الحاكمة فرحة بالنجاح الجماهيري الكبير لمسيرة العودة ومشاركة هذا الكم الهائل من الشبان والشابات والتمثيل السياسي المتمثّل بالقيادات والكوادر لكافة الأحزاب والحركات السياسية العربية والمؤسسات التمثيلية والأهلية، أو أن تمرّر حدثّا يؤكّد فشل رهان النسيان مع مرور الزمن ومشروع الأسرلة ويبقي تاريخ التطهير العرقي والتهجير حيًا في وعي الناس مرّ الكرام، لا أستغرب العدوان لكني أرفض أن يشوّش معنى المسيرة ومعنويات السائرين.

علينا أن نعود إلى "مسيرة العودة إلى صفورية" وأن نستمدّ منها طاقة الاستمرار مرفوعي الوعي والرأس، وأن نمتلئ بالعزة، كنا هناك بالآلاف المؤلفة، كنا شيبًا وشبابًا، رجالاً ونساءً، قوميين ووطنيين ديمقراطيين وإسلاميين وشيوعيين وغير حزبيين، قيادة وجمهورًا، من الجليل والمثلث والنقب، رفعنا أعلامنا الوطنية وأعلام الحداد وردّدنا نداءات الصمود والعودة والعدالة، وأنشدنا نشيدنا الوطني بصوت موّحد، كنا نسيجًا جميلاً لن ندعهم يمزقوه.

إن أهم مصادر قوة هذه التظاهرة الجماهيرية، برأيي، هو المشاركة الشبابية البارزة، والتي تعكس عملية عميقة جارية داخل المجتمع الفلسطيني في الداخل، لا تتمثّل فقط بانتشار الرموز الوطنية وتوّسع عدد ودور الكوادر والقيادات الشبابية للأحزاب السياسية، بل تتميّز، بتشكّل حركات شبابية قطرية ومحلية تبادر وتقود حملات ومشاريع توعية جماهيرية مؤثرة، حركات شبابية محلية أبرزها "حيفا الفتاة" في حيفا و"بقاء" في الناصرة و"العكاوية- مشروع انتماء وبقاء" في عكا وحركة "شباب ترشيحا"، وقطريًا مثل جمعية "بلدنا" وحركة "حق" الشبابية، حركات فاعلة على مدار السنة بوعي وطني وانتماء للبلد وقلق عليه. كلها التقت في صفورية مع شباب واعين غير مؤطرين وساروا معًا على الدرب الترابي نفسه.

لن ينسيني قمع الشرطة تجربتي الشخصية في المسيرة، فقد خلت للحظة أن جدي يسير أمامي ببدلته الرمادية وكوفيته البيضاء والعقال الأسود، أسرعت في مشيتي قليلاً فكان رجلاً صفوريًا يشبه جدي كثيرًا بنظرته التائهة وابتسامته الطيبة، فألقيت عليه التحية بحماس لم يفهمه وردّ موّبخًا ذاكرته وكأنه يتساءل "ابن من أنت ذكرني؟!". لقد توفي جدي عبد الكريم، الذي ولد في صفورية عام 1897 وهُجّر منها عام 1948، قبل عشرين عامًا، لكني أردته هناك بيننا في تلك اللحظة، فاكتفيت بأن ابن عمي الذي يحمل اسمه يمشي إلى جانبي في المسيرة..يعود إلى صفورية بدلاً عنه.

ما بعد صفورية علينا أن نسأل، إلى أين سنعود في السنة القادمة؟ وكيف نستطيع أن نعيد مشروع العودة، وليس فقط في شهر أيار من كل عام، إلى سلم أولوياتنا وأجندتنا كجزء من شعب وكشعب لكل ما يحمله هذا المشروع من حق وحل لقضايانا الوطنية.



التعليقات